قصة: "محمد بن عبد الكريم الخطابي - بطل الريف الذي هزّ الاستعمار
في قلب جبال الريف الوعرة، حيث تتسلق الشمس قمم الجبال كل صباح لتضيء قرى صغيرة مبنية من الحجر والطين، وُلد محمد بن عبد الكريم الخطابي عام 1882 في قرية أجدير. كان الفتى الصغير ابن قاضي القبيلة، ونشأ في بيئة تجمع بين العلم والشجاعة، حيث تعلم القرآن والفقه في سن مبكرة، ثم أكمل تعليمه في جامع القرويين بفاس، تلك الجامعة العريقة التي كانت مركزًا للعلم في المغرب.
لم يكن محمد مجرد عالم، بل كان رجلاً يحمل في قلبه حبًا عميقًا لأرضه وشعبه. في بداية القرن العشرين، بدأ الاستعمار الإسباني يمد أظافره إلى شمال المغرب، وتحديدًا منطقة الريف. كان الإسبان يستغلون ثروات الأرض، ويفرضون قوانينهم الظالمة على القبائل الأمازيغية التي كانت ترفض الخضوع. في تلك الفترة، عمل محمد كقاضٍ في مليلية، وهي مدينة تحت السيطرة الإسبانية، لكنه سرعان ما أدرك أن العدالة لا يمكن أن تتحقق تحت حكم المستعمر. استقال من منصبه، وعاد إلى الريف ليبدأ رحلة المقاومة.
- بداية الثورة
في عام 1921، وبعد أن قتل الإسبان والدهم، اتحد محمد مع شقيقه الأصغر، مهدي، لقيادة ثورة ضد الاستعمار. كان الريفيون شعبًا شجاعًا، لكنهم بحاجة إلى قائد يوحدهم. جمع محمد قبائل الريف تحت راية واحدة، وأسس جيشًا صغيرًا من المقاتلين المسلحين بالإيمان والعزيمة أكثر من الأسلحة. كان يقول لهم: "إن الأرض التي أنجبتنا لن تُدنس بأقدام المستعمر، سنقاتل حتى النفس الأخير!"
في معركة أنوال الشهيرة في يوليو 1921، حقق الخطابي انتصارًا مذهلاً. بقيادته الذكية وتكتيكاته العسكرية، هزم جيشًا إسبانيًا كبيرًا يقوده الجنرال سيلفستري، الذي كان يمتلك أسلحة متطورة وجنودًا يفوقون الريفيين عددًا بأضعاف. قُتل الجنرال سيلفستري مع 14 ألف جندي إسباني، وكان الانتصار بمثابة صاعقة لإسبانيا، التي لم تتوقع أن يقاوم شعب صغير بمثل هذه القوة. أصبحت أنوال رمزًا للكرامة المغربية، وانتشر اسم الخطابي كالنار في الهشيم.
- جمهورية الريف
لم يكتفِ الخطابي بالقتال، بل أراد بناء دولة عصرية تحمي شعبه. في عام 1923، أسس جمهورية الريف، وهي أول تجربة جمهورية في تاريخ المغرب الحديث. وضع دستورًا، وأنشأ حكومة تضم وزارات للتعليم والصحة والعدل، وحتى عملة خاصة تُسمى "الريفية". كان الخطابي يحلم بمغرب مستقل يجمع بين العراقة والحداثة، لكنه واجه تحديات كبيرة.
الإسبان، الذين أُهينوا في أنوال، تحالفوا مع فرنسا لسحق الثورة. في عام 1925، أرسلوا جيشًا ضخمًا يضم أكثر من 250 ألف جندي، واستخدموا أسلحة كيميائية محرمة دوليًا، مثل غاز الخردل، ضد الريفيين. كان الخطابي ومقاتلوه يقاتلون بشجاعة، لكن القوة العسكرية المتفوقة للمستعمرين، إلى جانب الحصار الاقتصادي، جعلت المقاومة شبه مستحيلة.
- النهاية والإرث
في مايو 1926، وبعد معارك طاحنة، اضطر الخطابي للتسليم لتجنب إبادة شعبه. نُفي إلى جزيرة ريونيون في المحيط الهندي، ثم انتقل لاحقًا إلى مصر، حيث عاش في القاهرة حتى وفاته في عام 1963. في منفاه، ظل الخطابي يدعم حركات التحرر في شمال إفريقيا، وكان صوتًا قويًا ضد الاستعمار.
لم تمت ثورة الريف بمغادرة الخطابي، بل ظلت روح المقاومة التي زرعها حية في قلوب المغاربة. كان الخطابي رمزًا للشجاعة والكرامة، وقائدًا ألهم أجيالاً للنضال من أجل الحرية. حتى اليوم، تُحكى قصته في جبال الريف، حيث يتذكر الأحفاد كيف وقف رجل واحد أمام جيوش الاستعمار، وكتب ببطولته فصلًا من ذاكرة مغربية خالدة.