رحلة محمد الخامس: من المقاومة إلى النفي ثم العودة المظفرة
بداية المقاومة
في 18 نوفمبر 1927، تولى السلطان محمد الخامس العرش وهو في سن الثامنة عشرة، بعد وفاة والده السلطان مولا يوسف. كان الفرنسيون، الذين فرضوا الحماية على المغرب منذ 1912، يتوقعون أن يكون السلطان الشاب مجرد أداة في أيديهم. لكنه سرعان ما أظهر شخصية قوية ووطنية. في 1930، عارض السلطان الظهير البربري الذي حاولت فرنسا فرضه لتقسيم المغرب بين العرب والأمازيغ قانونيًا، مما عزز مكانته كزعيم وطني.
في 11 يناير 1944، قدمت الحركة الوطنية، بقيادة علال الفاسي وأحمد بلافريج، وثيقة المطالبة بالاستقلال للسلطان، وأعلن محمد الخامس دعمه الكامل لها. لكن الفرنسيين قمعوا الحركة، وألقوا القبض على العديد من قادتها. في 9 أبريل 1947، ألقى السلطان خطابًا تاريخيًا في طنجة، طالب فيه بـ"الاستقلال الكامل"، وأكد أن المغرب يجب أن ينضم إلى الأمم المتحدة. هذا الخطاب أشعل جذوة المقاومة، لكنه زاد من توتر العلاقة مع سلطات الحماية.
تصاعد الأزمة
بعد خطاب طنجة، بدأت فرنسا تضغط على السلطان للتوقيع على قوانين تُضعف وحدة المغرب. في 1951، أرسل المقيم العام الفرنسي أوغستين غيوم مذكرة تهديد للسلطان، مطالبًا إياه بإدانة حزب الاستقلال. رفض محمد الخامس الرضوخ، مما دفع فرنسا إلى التحالف مع التهامي الكلاوي، باشا مراكش وقائد قبيلة كلاوة القوية. الكلاوي، الذي كان مواليًا لفرنسا، نظم حملة ضد السلطان.
في 20 مارس 1953، قاد الكلاوي اجتماعًا في مراكش مع عدد من الباشوات والقيادات التقليدية، ووقّعوا عريضة تطالب بإسقاط السلطان محمد الخامس. كان هذا الاجتماع جزءًا من مؤامرة فرنسية لتجريد السلطان من شرعيته الدينية والسياسية. في الوقت نفسه، بدأت الحركة الوطنية في تنظيم مظاهرات وأعمال مقاومة ضد هذه المحاولات.
النفي
في 20 أغسطس 1953، وفي يوم عيد الأضحى، نفذت فرنسا خطتها. اقتحمت قوات فرنسية القصر الملكي في الرباط، وأُجبر السلطان محمد الخامس وعائلته على مغادرة البلاد. نُفي أولاً إلى كورسيكا، ثم في يناير 1954 إلى مدغشقر. في كورسيكا، أقام السلطان في مدينة أجاكسيو، وفي مدغشقر أقام في أنتاناناريفو. خلال المنفى، أظهر السلطان صبرًا وثباتًا. في مدغشقر، كان يؤم المسلمين في الصلاة ويلقي خطب الجمعة في المسجد، مما جعله محبوبًا بين الأقلية المسلمة هناك.
في المغرب، نصّب الفرنسيون محمد بن عرفة، أحد أفراد الأسرة العلوية، كسلطان بديل. لكن الشعب المغربي رفضه تمامًا، وأطلق عليه لقب "السلطان الدمية". اندلعت مظاهرات عنيفة في عدة مدن. في وادي زم وقبائل السماعلة، قُتل العشرات في مواجهات مع القوات الفرنسية. في الرباط وفاس، نظمت الحركة الوطنية إضرابات ومظاهرات. في 11 سبتمبر 1953، نفذ المناضل علال بن عبد الله عملية فدائية ضد بن عرفة في سلا، لكنه فشل في اغتياله.
المقاومة والضغط الشعبي
لم يهدأ المغاربة. تشكلت خلايا مقاومة مسلحة، مثل منظمة اليد السوداء، ونفذت عمليات ضد الفرنسيين. في أكتوبر 1955، انطلق جيش التحرير في الشمال، بقيادة رجال مثل محمد عبد الكريم الخطابي، الذي دعا عبر إذاعة القاهرة إلى حمل السلاح. كان الشعب يربط بين عودة السلطان والاستقلال، وهتفوا في المظاهرات: "لا استقلال بدون محمد الخامس!"
الضغط الشعبي، إلى جانب الضغط الدولي، أجبر فرنسا على تغيير موقفها. في يوليو 1955، استقال المقيم العام فرانسيس لاكوست، وأُعلن عن خطة لإعادة السلطان. في 1 نوفمبر 1955، أجرى محمد الخامس محادثات مع وزير الخارجية الفرنسي أنطوان بيني، وفي 10 نوفمبر التقى المقيم الجديد أندريه لوي دوبوي في قصر هنري الرابع بسان جرمان، حيث أُعلن عن عودته.
العودة والاستقلال
في 16 نوفمبر 1955، عاد السلطان محمد الخامس إلى المغرب. هبطت طائرته في مطار سلا، حيث استقبله حشد ضخم قُدر بحوالي 800 ألف شخص على طول الطريق بين سلا والرباط. في خطاب العرش ذلك اليوم، أعلن السلطان عن "انتهاء الاحتلال وبزوغ فجر الحرية والاستقلال." بعد يومين، في 18 نوفمبر 1955، أُعلن الاستقلال رسميًا. أصبح السلطان يُعرف بـ"الملك محمد الخامس" بناءً على اقتراح الحركة الوطنية، ليصبح أول ملك للمغرب المستقل.
تحليل تاريخي
دور محمد الخامس: كان محمد الخامس رمز الوحدة الوطنية، وتحالفه مع الحركة الوطنية جعل فرنسا تتخذ قرار نفيه لكسر المقاومة. لكن هذا القرار أدى إلى نتيجة عكسية، حيث زاد من تصميم الشعب.
المقاومة الشعبية
المظاهرات، العمليات الفدائية، وجيش التحرير كانوا عوامل حاسمة في الضغط على فرنسا. عملية علال بن عبد الله وهجمات اليد السوداء أظهرت أن المغاربة لن يقبلوا بسلطان بديل.
السياق الدولي
الضغط الدولي، خاصة من الأمم المتحدة والدول العربية، ساهم في إجبار فرنسا على التفاوض. كما أن الحرب في الجزائر (1954-1962) أضعفت موقف فرنسا في شمال إفريقيا.