آخر المنشورات

الهبات الملكية للزوايا الصوفية: تبديد أم استثمار؟

 الهبات الملكية للزوايا في المغرب: بين الدعم الروحي، الدور السياسي، وتبديد المال العام


1.الهبات الملكية للزوايا الصوفية في المغرب: بين تبديد المال العام والدور الروحي والسياسيالمقدمةفي قلب المشهد الديني والاجتماعي المغربي، تقف الزوايا الصوفية كأعمدة تاريخية تحمل في طياتها تراثاً روحياً عميقاً، ودوراً اجتماعياً لا يُنكر، ونفوذاً سياسياً يتجاوز حدود المساجد والأضرحة. منذ قرون، كانت هذه الزوايا مراكز للعلم والتربية والتكافل، ومازالت حتى اليوم تجذب ملايين المريدين من مختلف الطبقات الاجتماعية. لكن في العصر الحديث، ومع تدفق الهبات الملكية المتواصلة من خزينة الدولة، أصبحت هذه المؤسسات محط جدل واسع: هل هي استثمار في الاستقرار الديني والاجتماعي، أم أنها تمثل تبديداً للمال العام في وقت يعاني فيه المغرب من أزمات اقتصادية واجتماعية متفاقمة؟السؤال ليس جديداً، لكنه يتجدد مع كل إعلان عن هبة ملكية جديدة، سواء كانت للزاوية القادرية البودشيشية في بني ملال، أو التيجانية في فاس، أو الشرقاوية في بومالن دادس. هذه الهبات، التي تُقدم باسم "دعم التراث الروحي" و"تعزيز الوسطية"، تأتي من ميزانية الدولة، أي من جيوب دافعي الضرائب، في بلد يبلغ فيه معدل الفقر 15%، والبطالة بين الشباب 35% في بعض المناطق، والدين العام يتجاوز 70% من الناتج المحلي الإجمالي. في هذا المقال، سنستعرض بالتفصيل تاريخ الزوايا، آليات التمويل، الفوائد المزعومة، الدور السياسي، الانتقادات الموجهة، ونقترح حلولاً عملية، لنصل إلى فهم شامل لهذه الظاهرة المعقدة.العرضأولاً: تاريخ الزوايا الصوفية ودورها التقليديتعود جذور الزوايا الصوفية في المغرب إلى القرن الثامن الهجري، مع انتشار الطرق الصوفية مثل القادرية، التيجانية، الدرقاوية، والناصرية. كانت هذه الزوايا في الأصل مراكز للتربية الروحية، حيث يجتمع المريدون حول الشيخ لتلقي التربية والأذكار والتزكية. لم تكن مجرد أماكن عبادة، بل كانت مدارس، مستشفيات، ملاجئ للفقراء، ومراكز للوساطة بين القبائل.خلال فترة الاستعمار، لعبت الزوايا دوراً بطولياً في المقاومة. الزاوية الناصرية في تمكروت، على سبيل المثال، كانت مركزاً لتجنيد المقاتلين ضد الفرنسيين. والزاوية الدرقاوية في الجنوب ساهمت في تنظيم المقاومة المسلحة. بعد الاستقلال، حافظت الدولة المغربية على علاقة وثيقة مع الزوايا، خاصة بعد أن أصبح الملك "أميراً للمؤمنين"، وهو لقب يمنحه سلطة دينية عليا. في عهد الحسن الثاني، تم دمج الزوايا في سياسة "الإسلام الرسمي"، واستمرت هذه السياسة في عهد محمد السادس، مع إنشاء مؤسسات مثل "مؤسسة محمد السادس للعلماء الأفارقة" التي تربط الزوايا المغربية بأفريقيا جنوب الصحراء.اليوم، يوجد في المغرب أكثر من 1000 زاوية مسجلة، منها حوالي 50 زاوية كبرى تتمتع بنفوذ واسع. أبرزها:
الزاوية القادرية البودشيشية: مقرها الرئيسي في مداغ ببركان، وفروعها في بني ملال، الرباط، ووجدة. يقودها الشيخ حمزة البودشيشي، وتجذب عشرات الآلاف سنوياً في "موسمها" السنوي.الزاوية التيجانية: مركزها في فاس، وفروع في تطوان والرباط. تُعرف بتركيزها على التعليم والدبلوماسية الدينية.الزاوية الشرقاوية: في بومالن دادس، تركز على التراث الأمازيغي الصوفي.الزاوية الكتانية: في مراكش، تُعرف بدورها الاجتماعي في مساعدة الفقراء.
ثانياً: آلية الهبات الملكية ومصادرهاتأتي الهبات الملكية من مصادر متعددة، أبرزها:
  1. ميزانية المصالح الخاصة: بند في الميزانية العامة لا يخضع لرقابة البرلمان، ويُدار مباشرة من القصر.
  2. صندوق الحسن الثاني للتنمية: يُمول من عائدات الفوسفاط والتبرعات، ويُخصص جزء منه للزوايا.
  3. الحجابة الملكية: الجهاز الرسمي الذي يعلن عن الهبات ويوزعها.
وفقاً لتقرير المجلس الأعلى للحسابات لعام 2023، بلغ إجمالي الدعم المقدم للزوايا والطرق الصوفية أكثر من 500 مليون درهم خلال الفترة 2018-2023، أي بمعدل سنوي يقارب 100 مليون درهم. هذا الرقم لا يشمل الهبات غير المعلنة أو الدعم غير المالي (مثل الأراضي أو الإعفاءات الضريبية).تُوزع الهبات حسب معايير غير معلنة رسمياً، لكنها ترتبط عادة بـ:حجم الزاوية وعدد مريديها.موقعها الجغرافي (المناطق النائية تحصل على دعم أكبر).نفوذ شيخها السياسي أو الاجتماعي.مشاركتها في البرامج الرسمية (مثل مكافحة التطرف).
في عام 2024، أعلنت الحجابة الملكية عن هبات لأكثر من 25 زاوية، منها 15 مليون درهم للزاوية البودشيشية، 10 ملايين للتيجانية، ومبالغ أقل لزوايا صغيرة. الهبة الأخيرة للزاوية البودشيشية في بني ملال، التي أثارت الجدل، كانت مخصصة لـ"توسيع المركز التعليمي وتنظيم الندوات".ثالثاً: الفوائد المزعومة من الهبات (لجميع الزوايا)تُبرر الدولة والزوايا الهبات بفوائد متعددة، نستعرضها بالتفصيل:1. مكافحة التطرف وتعزيز الوسطيةالزوايا تنشر تعاليم التصوف القائمة على المحبة، التسامح، والابتعاد عن الغلو. في تقرير لوزارة الأوقاف (2023)، أكدت أن الزوايا ساهمت في تخريج أكثر من 50,000 إمام مدرب على الوسطية.في مناطق مثل الريف والجنوب الشرقي، حيث كانت جماعات متطرفة نشطة، لعبت الزوايا دوراً في "تجفيف المنابع" من خلال برامج شبابية.مثال: الزاوية البودشيشية تنظم سنوياً "لقاءات التصوف الدولية" بحضور علماء من أوروبا وأفريقيا.2. الدور الاجتماعي والتنمويالتعليم: تدير الزوايا مدارس قرآنية مجانية. الزاوية التيجانية في فاس لديها مدرسة تخرج 300 طالب سنوياً.الصحة: عيادات مجانية في الزاوية الناصرية (تمكروت) تخدم 20,000 مريض سنوياً.المساعدات: توزيع سلال غذائية، خاصة في رمضان. في 2024، وزعت الزوايا مجتمعة أكثر من 500,000 سلة.تشغيل الشباب: توظف الزوايا آلاف الشباب في الأنشطة الدينية والإدارية.3. الحفاظ على التراثترميم الأضرحة والمباني التاريخية (مثل ضريح سيدي علي بن حمزة في بركان).تنظيم مهرجانات ثقافية تجذب السياح (موسم مولاي عبد الله أمغار يجذب 300,000 زائر).4. الدبلوماسية الدينيةالزوايا أداة في السياسة الخارجية. مؤسسة محمد السادس للعلماء الأفارقة تضم 300 عالم من 30 دولة، وتُمول جزئياً من هبات الزوايا.في مالي، السنغال، ونيجيريا، تُدرب الزوايا المغربية أئمة على النموذج المغربي.
رابعاً: دخول الزوايا في السياسة أو بعدها عنهارغم إعلان الزوايا "ابتعادها عن السياسة"، فإن التمويل الدولي يجعلها جزءاً من النظام السياسي:أدلة الدخول في السياسة:
  • شرعنة النظام: الشيوخ يبايعون الملك سنوياً في "بيعة الولاء"، ويظهران في المناسبات الرسمية.
  • تهدئة الاحتجاجات: خلال حراك الريف (2016-2017)، دعا شيوخ الزوايا إلى "الصبر والحوار".
  • الامتيازات: قادة الزوايا يحصلون على مناصب في المجالس الاستشارية، أو عقود بناء.
  • الدبلوماسية: الزاوية التيجانية لعبت دوراً في عودة المغرب إلى الاتحاد الأفريقي.
أدلة البعد عن السياسة:
  • الشيوخ يرفضون الانضمام إلى الأحزاب.
  • تركيزهم على الجانب الروحي (الأذكار، الخلوات).
  • انتقاد بعضهم للسياسات الحكومية (مثل الزاوية الكتانية في قضايا البيئة).
خامساً: تبديد المال العام – الأدلة والأمثلةرغم الفوائد، هناك انتقادات حادة:
  1. عدم الشفافية:
    • لا تقارير مالية علنية.
    • تحقيق "هسبريس" (2022) كشف صرف 8 ملايين درهم على "ولائم" في موسم واحد.
  2. الإنفاق غير الإنتاجي:
    • بناء قاعات فخمة بدلاً من مستشفيات.
    • سيارات فاخرة للشيوخ (تم توثيق ذلك في بني ملال).
  3. الأولويات المفقودة:
    • المغرب يحتاج 500 مستشفى ميداني، 3000 مدرسة، 200,000 فرصة عمل.
    • 500 مليون درهم تكفي لبناء 50 مدرسة ثانوية.
  4. الفساد:
    • شركات مرتبطة بالشيوخ تحصل على صفقات عمومية.
    • تقرير "ترانسبارانسي" (2024): المغرب في المرتبة 97 عالمياً.
2.الهبات الملكية للزوايا في المغرب: هل هي من المال العام أم من مال الملك الخاص؟في سياق الجدل المستمر حول إدارة الموارد العامة في المغرب، تثير الهبات الملكية المقدمة إلى الزوايا الصوفية تساؤلات حول مصدرها الحقيقي. هل هذه الهبات – التي تصل إلى ملايين الدراهم سنوياً – تأتي من خزينة الدولة العامة، أي أموال دافعي الضرائب، أم أنها هبات شخصية من مال الملك الخاص؟ السؤال ليس مجرد تفصيل فني، بل يمس جوهر الشفافية المالية والأولويات الوطنية، خاصة في بلد يعاني من تحديات اقتصادية مثل ارتفاع الدين العام (أكثر من 70% من الناتج المحلي الإجمالي في 2024) والبطالة بين الشباب (حوالي 35%). في هذا التحليل، سنستعرض الآليات الرسمية، التصريحات السياسية، والتقارير المالية لنصل إلى صورة واضحة، مستندين إلى مصادر موثوقة.السياق التاريخي والدور الملكي في دعم الزواياتعود علاقة الزوايا الصوفية بالمؤسسة الملكية في المغرب إلى قرون، حيث كانت الزوايا مراكز للتربية الدينية، الاجتماعية، والسياسية. منذ عهد السلاطين العلويين، مثل مولاي إسماعيل (1672-1727)، استخدمت الزوايا لتعزيز الاستقرار والمقاومة ضد التيارات الخارجية، بما في ذلك الاستعمار. اليوم، يُقدم الملك محمد السادس نفسه كـ"أمير المؤمنين"، مما يجعله مسؤولاً دينياً عن تعزيز "الإسلام المغربي" المعتدل، الذي يعتمد على المذهب المالكي والتصوف. وفقاً لتقارير رسمية، يوجد في المغرب أكثر من 1,496 زاوية و5,038 ضريحاً، وتُقدم الهبات لأكثر من 50 زاوية كبرى سنوياً، مثل القادرية البودشيشية، التيجانية، والشرقاوية.الهبات تُعلن عادة عبر الحجابة الملكية، وتشمل معونات نقدية أو عينية لصيانة المباني، تنظيم المواسم الدينية، والمساعدات الاجتماعية. في 2024، على سبيل المثال، تلقت الزاوية البودشيشية في بني ملال هبة لتوسيع مرافقها التعليمية، كما أشارت بيانات الحجابة. هذا الدعم يُبرر بمكافحة التطرف، حيث ساهمت الزوايا في تدريب آلاف الأئمة على الوسطية، وفقاً لوزارة الأوقاف.آلية توزيع الهبات: اللجنة الملكية والمصادر الماليةتُدار الهبات عبر لجنة ملكية مصغرة، تضم ممثلين عن التشريفات الملكية، الأوقاف، والداخلية. تُقدم الهبات بشكل دوري، خاصة في ذكرى وفاة الملك الحسن الثاني (23 فبراير)، وتصل قيمتها الإجمالية إلى أكثر من 100 مليون درهم سنوياً، حسب تقديرات المجلس الأعلى للحسابات للفترة 2018-2023. الآن، السؤال الرئيسي: ما مصدر هذه الأموال؟الرأي الرسمي: هبات شخصية من مال الملك الخاصفي التصريحات الرسمية، تُصور الهبات كـ"هبات شخصية" من الملك، لا تمس أموال الشعب. على سبيل المثال، في تقرير لهسبريس عام 2016، أكدت لجنة الزوايا أن "هذه الهبات من ماله الخاص، إذ لا يمس بأي حال من الأحوال أموال الشعب". كما أشارت مصادر أخرى، مثل الجزيرة نت في 2018، إلى "رعاية ملكية خاصة" تشرف عليها لجنة ملكية. في الإعلام الغربي، مثل جريدة "ذا أراب ويكلي" (2015)، وُصفت الهبات بأنها "تبرعات من ماله الخاص" لدعم الأضرحة والزوايا. هذا التصوير يعزز الشرعية الدينية للملك كأمير المؤمنين، ويبتعد عن اتهامات التبديد العام.مال الملك الخاص يأتي من مصادر شخصية، مثل الاستثمارات في الشركات (مثل مجموعة SNI، التي قدرت ثروتها الشخصية بـ2.5 مليار دولار حسب مجلة "جي كي" عام 2012)، والعوائد من الأراضي الملكية الخاصة. في 2022، كشفت وثائق بنك HSBC عن حسابات ملكية في سويسرا بـ8 ملايين يورو، مما يشير إلى استقلالية مالية شخصية كبيرة.الرأي الناقد: ارتباط بالمال العام عبر الميزانية الملكيةرغم التصريحات، يرى النقاد أن الهبات مرتبطة بالمال العام بشكل غير مباشر. ميزانية القصر الملكي، التي بلغت 254.520.000 دولار في 2012 (حسب مجلة "جي كي")، تُصرف من خزينة الدولة، وتشمل بند "المصالح الخاصة" غير الخاضع للرقابة البرلمانية. هذا البند يُستخدم للهبات، كما أكد تقرير المجلس الأعلى للحسابات عام 2023، الذي قدر الدعم للزوايا بأكثر من 500 مليون درهم خلال خمس سنوات – أموال من ميزانية عامة.بالإضافة إلى ذلك، يُمول بعض الدعم من "صندوق الحسن الثاني للتنمية"، الذي يُدار تحت إشراف القصر ويُغذى بعائدات الفوسفاط (مورد عام). في 2023، ساهم الصندوق بـ2 مليار درهم لإعادة إعمار مناطق الزلزال، مما يظهر تداخله مع الأموال العامة. الناقدون، مثل منظمة "ترانسبارانسي إنترناشيونال" (التي صنفت المغرب في المرتبة 97 عالمياً في 2024)، يرون أن عدم الشفافية يجعل الفصل بين "الخاص" و"العام" وهماً، خاصة مع عدم نشر تقارير صرف مفصلة.في نقاشات برلمانية، أثار النواب تساؤلات حول ميزانية القصر (حسب هسبريس 2020)، معتبرين أن "المال العام يُصرف دون رقابة"، مما يشمل الهبات. كما أن بعض الهبات تُقدم عبر وزارة الأوقاف، التي تُمول من الضرائب.الجدل والتأثيرات: بين الاستقرار الديني والشفافية الماليةيدافع أنصار الدعم بأن الهبات تعزز الاستقرار، حيث ساهمت الزوايا في مكافحة التطرف بعد تفجيرات الدار البيضاء 2003. دراسات مثل تلك في مجلة "ريلايجنز" (2024) تؤكد أن الدعم الملكي يقوي التصوف كبديل عن السلفية. ومع ذلك، ينتقد الآخرون الإنفاق غير الشفاف، مشيرين إلى أن 100 مليون درهم سنوياً يمكن توجيهها للتعليم أو الصحة في مناطق فقيرة مثل بني ملال.في السياق الدولي، يُستخدم الدعم للدبلوماسية الدينية، مثل مؤسسة محمد السادس للعلماء الأفارقة، التي تربط الزوايا بأفريقيا جنوب الصحراء، مما يعزز نفوذ المغرب.الخاتمة: حاجة إلى شفافية أكبرفي النهاية، الهبات الملكية للزوايا تُقدم رسمياً كـ"شخصية" من مال الملك، لكن ارتباطها بميزانية القصر وصناديق التنمية يجعلها جزءاً من المال العام بشكل غير مباشر. هذا التداخل يثير مخاوف حول الشفافية، خاصة في ظل غياب الرقابة البرلمانية. لتعزيز الثقة، يُقترح نشر تقارير صرف سنوية وإنشاء لجنة رقابة مستقلة. في النهاية، الدعم للزوايا قيمة ثقافية، لكن يجب أن يكون شفافاً ليصبح استثماراً حقيقياً في الشعب.

تعليقات