من الثقة الدينية إلى الانهيار: تفاصيل الجريمة التي حطمت أحلام مئات العائلات
قصة نصاب سوهاج:أسطورة النصب التي غيرت حياة قرية بأكملها
في أعماق محافظة سوهاج، حيث يمتد الصحراء الذهبية تحت شمس حارقة لا ترحم، تقع قرية صغيرة تُدعى "النخلة" – اسمها مستمد من نخيلها القليل الذي يقاوم الجفاف بصمود يشبه أهلها. هذه القرية، التي لا تتجاوز عدد سكانها الألفي، كانت تعيش في وادٍ من الفقر المدقع. الرجال يعملون في الحقول كفلاحين، يحصدون القمح والذرة بأيدٍ متشققة، بينما النساء ينسجن السلال ويبيعنها في الأسواق المجاورة مقابل حفنة من الجنيهات. الشباب، أبناء الثورة والتخرج الجديد، يحلمون بالهجرة إلى الخليج، حيث يعد الثراء السريع ببيوت فارهة وأعراس مجيدة. لكن الواقع كان قاسياً: البطالة تُلازم الشوارع الترابية، والديون تتراكم على الأبواب الخشبية العتيقة. كانت صلاة الجمعة في مسجد القرية الوحيدة، المبنى الطيني البسيط ذو القبة المهترئة، اللحظة الوحيدة التي يجتمع فيها الجميع، يتبادلون الهموم تحت ظلال الشجر النادرة.كانت هذه القرية، في عام 2018، على وشك أن تُدخل في تاريخها صفحة سوداء لن تُمحى، بفضل رجل واحد: "أبو عبد الله"، كما عُرِف نفسه. لم يكن مجرماً تقليدياً يحمل سكيناً أو مسدساً، بل كان فناناً في فن الخداع، يرسم لوحاته بكلماته وابتسامته. اللواء أشرف عبد العزيز، الضابط المتقاعد الذي روى القصة في بودكاست "أوراق القضية" مع الصحفي هيثم برعي، يصفُه بأنه "النصاب الأكثر ذكاءً الذي واجهته في مسيرتي الـ30 عاماً". كان أبو عبد الله رجلاً في الأربعينيات، أصل مصري من القاهرة، يعمل تقنياً لتكييف الهواء في ورشة صغيرة، لكنه يمتلك موهبة في التمثيل والاقناع تجعله يبدو كأمير خليجي. ملابسه دائماً بيضاء ناصعة، ساعته الذهبية اللامعة، وسيارته الفارهة (مستأجرة للمناسبة) – كلها عناصر في مسرحيته الكبرى.البداية: الغريب الذي صعد المنبربدأت الأسطورة يوم جمعة عادي، في صيف حار يلتصق فيه العرق بالجلابيات. كانت الشمس تغرب خلف الكثبان الرملية عندما توقفت سيارة سوداء لامعة أمام المسجد. خرج منها رجل طويل القامة، يرتدي جلباباً أبيض مصمماً خصيصاً، معطرًا بعطر العود الثقيل الذي يذكر بالأسواق الخليجية. كان سائقه، شاب في العشرينيات يرتدي زياً أسود رسمياً، يفتح له الباب باحترام، مما أثار همسات الأهالي: "مين ده؟ خليجي ولا إيه؟" دخل المسجد، صلى بتركيز عميق، ثم طلب الإمام منه – بعد الصلاة – الصعود إلى المنبر لكلمة قصيرة، ظاناً أنه زائر متدين.لكن أبو عبد الله لم يكن يريد الوعظ العابر. أمسك الميكروفون بيد ثابتة، ونظر إلى الوجوه المتعبة أمامه: "السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، أيها الإخوة المسلمون. أنا أبو عبد الله، مدير أعمال أحد الرجال الأثرياء في الإمارات. ربي هدا قلبي إلى أرض مصر، أرض الإسلام والتاريخ. رأيت في هذه القرية الطيبة فرصة للعمل الصالح. أريد أن أتبرع لمسجدكم، لأنه يذكرني بمساجد مكة البسيطة قبل أن تبنى الفخامة. من تثقون به لاستلام التبرع؟" ساد الصمت، ثم اندلعت الهمسات. قدم 50 ألف جنيه نقداً، مبلغاً هائلاً في قرية لا تعرف الثراء، وقال: "اشتروا سجاداً جديداً، طلاءً، مراوح. هذا أقل ما أستطيع." غادر وسط تصفيق ودعوات، تاركاً وراءه أسطورة بدأت تتشكل.في الأيام التالية، عاد مراراً. أحضر هدايا: أكياس أرز ودقيق للعائلات الفقيرة، أدوية للمرضى، وحتى لعب للأطفال. كان يجلس مع الشيوخ تحت الشجرة الكبيرة في وسط القرية، يستمع إلى قصصهم عن الفقر والبطالة. "يا أبو عبد الله، ابني تخرج بدبلوم تجارة، ومش لاقي شغل. الخليج يناديه، بس التأشيرات غالية"، قال أحد الفلاحين، عيناه مليئتان بالأمل. ابتسم النصاب وقال: "اصبروا، ربنا كريم. الجمعة الجاية هقولكم خبر سار." كانت هذه الزيارات تبني جسر الثقة، خطوة بخطوة، مستغلاً بساطة الأهالي وإيمانهم بالخير.الجمعة الثانية: تعزيز الوهممع اقتراب الجمعة التالية، انتشر الخبر في القرى المجاورة. امتلأ المسجد بمئات، بعضهم جاء من بعيد ليشهد "المعجزة". بعد الصلاة، صعد أبو عبد الله المنبر مرة أخرى، صوته يتردد كصدى في القلوب: "أيها الإخوة، رأيت المسجد الجديد بفضل تبرعي الأول، والحمد لله. أخبرت صاحبي الثري عنكم، فقال: 'دعم هذه القرية، فهي أرض الأنبياء.' سأتبرع اليوم بـ200 ألف جنيه إضافية. لكن هذه المرة، أريد مشروعاً أكبر: بناء مصنع صغير لإنتاج الزيوت الغذائية، يوفر فرص عمل لأبنائكم. أحتاج شركاء محليين، رأس مال بسيط يعود بعوائد 20% شهرياً." كانت الكلمات مدروسة، مليئة بآيات عن الصدقة والتعاون: "وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى".بدأ التبرعات الصغيرة: 500 جنيه من فلاح، 1000 من تاجر محلي. في غضون أسابيع، جمع 70 ألف جنيه أولية، استخدمها لشراء معدات وهمية وتوزيع "أرباح أولية" صغيرة ليثبت الوعود. بنى مكتباً في منزله المستأجر في القرية، مع موظفين (شركاء في الاحتيال) يديرون السجلات. أصبح الناس يتسابقون للاستثمار، يبيعون أراضيهم أو يقترضون من الأقارب. "هذا باب رزق من الله"، كانوا يقولون لبعضهم.الذروة: الاحتيال الكبير والوعود الزائفةمع مرور الأشهر، تحول المشروع إلى حمى. أعلن أبو عبد الله عن "فرصة العمر": عقود عمل في الخليج لـ200 شاب، مقابل 5000 جنيه لكل تأشيرة وتذكرة. "الثري الخليجي سيغطي الباقي، أنتم فقط أحضروا الجوازات والصور." حدد مهلة أسبوعين للإجراءات. فاجأه النجاح: جمع 5000 جواز سفر، و25 مليون جنيه! كانت العقود مزيفة ببراعة، تحمل ختمات وهمية وعلامات مائية، مطبوعة في مطابع القاهرة. وزعها في حفل كبير في المسجد، قائلاً: "هذا عهد الله بيننا. في غضون شهر، تطيرون إلى الدبي والرياض."لكن بعد أسبوعين، اختفى. لا رد على الهواتف، لا زيارات. بدأت الشكوك: "فين الطيارات؟" حاول تهدئتها بمكالمات وعد بـ"تأخير فني"، لكن البلاغ الأول وصل إلى الشرطة في سوهاج. اللواء أشرف عبد العزيز، الذي تولى التحقيق، يروي: "كانت الثقة عمياء. الناس رفضوا الإبلاغ أولاً، ظانينه رجل صالح." بدأ الفريق بفحص العقود، واكتشفوا أن الطباعة من شارع محمد علي في القاهرة.الانهيار: التحقيق والمطاردة الدراميةكان التحقيق بمثابة لغز. أطفال القرية سجلوا رقم لوحة السيارة، لكنه مزيف. ثم جاء الاختراق: طفل صغير أحضر مغلفاً رميَه والده، عليه اسم مطبعة في القاهرة. ذهب الفريق إليها، فسمع صاحبها: "عميل منتظم، يأتي السائق غداً لتسليم طلب." رتبوا كميناً، اعتقلُوا السائق الذي اعترف: "أبو عبد الله في شقة بوسط البلد." غارة أولى على الشقة: وجدوا ملابس فاخرة، سجائر، عقود وهمية، لكن الرجل غائب – كان خارجاً لشراء سجائر ورآهم فهرب.استمر التتبع لأيام، مستخدمين مصادر سرية في العمارة. في غارة ثانية، دخلوا الشقة بقوة: فتشوا الخزانة، السقف، الثلاجة، الغسالة. لا أثر. الإحباط كان كبيراً، كما يصف اللواء: "قررنا الانتظار. كل مجرم يترك أثراً." اكتشفوا علاقة عاطفية للنصاب مع امرأة متزوجة في القرية، ساعدتهم في التتبع. أخيراً، في ليلة ممطرة، ألقوا القبض عليه في شقة أخرى، محاطاً بشركائه. اعترف بكل شيء: "كنت أعمل لتكييف، لكن الفقر دفعني. استخدمت الدين لأبني الثقة، ثم هربت بالأموال."النهاية: الدروس والندوباستُرد 2 مليون جنيه فقط، معظم الـ25 مليون تبخر في سيارات وفنادق. حُكم عليه بالسجن 15 عاماً، وشركاؤه بسنوات أقل. الضحايا، مئات العائلات، عاشوا في يأس: أحلام محطمة، ديون متراكمة، ثقة مفقودة. أصبحت القصة تحذيراً في سوهاج: "لا تصعدوا المنبر للغريب." اللواء أشرف يختم: "النصب ليس سرقة، بل خيانة للروح. في الريف، الثقة سلاح ذو حدين."