من هيمنة فرنسية إلى سيادة مغربية: رحلة الفوسفاط منذ الاستقلال حتى اليوم
بعد الاستقلال سنة 1956، دخل الملك محمد الخامس في مفاوضات مع فرنسا للخروج من الحماية الفرنسية بأقل خسائر ممكنة، وفي إطار مؤتمر إيكس ليبان الذي بدأ في أواخر 1955 وتمّت خلاله التباحث في شروط الاستقلال والسيادة، تم التوقيع على اتفاقيات سمحت للمغرب بالحصول على استقلاله رسميًا ولكن مع الحفاظ على بعض المصالح الفرنسية الاقتصادية في البلاد. هذه المرحلة شهدت توقيع اتفاقيات الانسحاب الإداري والسياسي، لكنها لم تشمل ترتيبات دقيقة بشأن ثروات مثل الفوسفاط حتى سنة 1957.
في عام 1957 وُقِّعت اتفاقية أُطلق عليها "اتفاق Aix-les-Bains" أو اتفاقية استغلال الفوسفاط، وهي من أكثر الاتفاقيات إثارة للجدل. هذه الاتفاقية منحت شركات فرنسية مثل Occidental حق استخراج وتصدير الفوسفاط المغربي لمدة 100 سنة، أي حتى سنة 2057. وفقًا لهذه الوثيقة، كانت الفائدة العظمى تُمنح للجانب الفرنسي (حوالي 60‑80٪ من الإيرادات)، بينما يحصل المغرب على حصة ضئيلة (20‑40٪) فقط
فرنسا حصلت على السيطرة التقنية وإدارة الإنتاج بالكامل، بينما بقي المغرب في موقع متخلّف دون إمكانات للبناء الصناعي الوطني في هذا المجال.
مع مرور الوقت، بدأ المغرب في إعادة فرض سيادته بدفع من الملك محمد الخامس أولا ثم من ولي عهده الحسن الثاني، فتم إحكام قبضته على الفوسفاط تدريجيًا عبر تفعيل دور المكتب الشريف للفوسفاط الذي تأسس عام 1920. خلال الستينيات والسبعينيات بدأ المغرب إطلاق سياسة المغربة، وهي إعادة تسيير القطاعات الرئيسية من قبل الدولة والمغاربة، وقلّص التدخل الفرنسي في إدارة الفوسفاط، وتم تعيين مغاربة في مناصب قيادية في OCP، واتُخذت قرارات لتعزيز ملكية الدولة واستقلاليتها المعلنة على الورق ممّا قلص النفوذ الفرنسي حتى إن السياسة أصبحت تعطي المغرب الثلث من الأرباح عمليا في تلك المرحلة، رغم أن الاتفاقية بقيت رسمياً نافذة.
بمرور العقود، صار المكتب الشريف للفوسفاط هو الجهة الوحيدة المسؤولة عن استخراج الفوسفاط وتسييره بالكامل، وتملك الدولة المغربية حوالي 94٪ من رأسماله، بينما يملك بنك الشعبي المركزي ما بقي (حوالي 6٪)
فرنسا لم تعد تحصل على حصة مباشرة من الأرباح منذ سنوات، وإنما تتواجد عبر شراكات تمويلية وتقنية مع المكتب، مثل من خلال وكالة التنمية الفرنسية AFD وبنك الاستثمار الفرنسي Bpifrance، إضافة إلى شراكات إستراتيجية مع شركات مثل ENGIE الفرنسية لإطلاق مشاريع الطاقة المتجددة والهيدروجين الأخضر والتصنيع وتحلية المياه بتمويلات تبلغ مئات الملايين من اليورو
منذ عقد 2020، تصاعد التعاون بين فرنسا والمغرب في إطار مشروع OCP الطموح للاستثمار الخضر بمبلغ يفوق 13 مليار دولار بين 2023 و2027، الهدف منه الوصول إلى استقلالية كاملة في الماء على شكل تحلية وتدوير، وتحقيق اقتصاد صديق للبيئة بطاقة خالية من الكربون بحلول 2040، مع دعم من فرنسا عبر قرض بـ 350 مليون يورو من AFD وبناك Bpifrance وتمويلات أخرى
تحليل حديث أكاديمي من مجلة "ديبلوماتيك" المغربية أوضح أن اتفاق Aix-les-Bains تسبّب في أن فرنسا "تعيش على إيجار مغربي"، أي أنها استفادت بشكل كبير من مصادر المغرب الطبيعية رغم الاستقلال، ومن تلك الاتفاقية التي مفادها أن فرنسا تأخذ غالبية الأرباح حتى منتصف القرن الحالي، مع حصول المغرب على نسبة متواضعة جداً من إيرادات وصلت في 2024 إلى حوالي 86.8 مليار درهم، منها فرنسا كانت مُفترَض أن تحصل على ما بين 52 و69 مليار درهم بحسب نسبة الاتفاق (60‑80٪)، والمغرب يحصل فقط على 17‑34 مليار درهم
رغم أن الاتفاقية قانونيًا تمتد حتى 2057، فإن المغرب عمليا تجاوز بنودها منذ عقود بأن أعاد التنفيد لصالحه، ولم تعد فرنسا تستفيد من عوائد مباشرة. أما اليوم، ففرنسا تستفيد من خلال شراكات اقتصادية وتمويلية متطورة تشمل الطاقة الخضراء، الزراعة المستدامة، تطوير الأسمدة الحديثة، دعم التقنيات، وليس من خلال تقاسم الأرباح التقليدي الذي كان قائماً منذ 1957 حتى السبعينيات.
باختصار، اتفاقية 1957 كانت طويلة الأجل (100 سنة) وأعطت فرنسا حقًا وسيطرة واسعة على قطاع الفوسفاط، لكنها لم تُلغَ رسميًا حتى الآن على الورق. المغرب منذ منتصف القرن العشرين فرض سيادته تدريجًا وقلّص فعليا نفوذ فرنسا، بدلًا من الاستراتيجية التقليدية التي كانت فرنسا تستفيد فيها من الكعكة كلها. اليوم الاتفاقية سارية الشكل ولكن بلا مضمون فعلي بالنسبة لفرنسا، واستفادتها الحالية اقتصادية وتعاونية ومعقدة تقنيًا، وليست أرباحًا أو امتيازًا مباشرًا من الثروات، بينما المغرب أصبح المالك والمستفيد الأساسي وثروته تُدار عبر مؤسسة وطنية قوية.