آخر المنشورات

مذبحة الكلافين في ميت عطار.. السبب وصلة مياه| قصة كاملة

مذبحة الكلافين: كيف تحول خلاف على وصلة مياه إلى كارثة دموية في الريف المصري


قصة مذبحة الكلافين في ميت عطار: السبب وصلة مياهفي قلب دلتا النيل الخصبة، حيث تتشابك الأراضي الزراعية مع قنوات المياه المتفرعة من النهر العظيم، تقع قرية ميت عطار التابعة لمركز بنها في محافظة القليوبية. هذه القرية، التي يعود اسمها إلى عصور قديمة، كانت تضم عدة عزب صغيرة، من بينها عزبة الكلافين، التي سميت نسبة إلى مهنة أجداد سكانها في تنظيف الزرائب وتربية المواشي. كانت الحياة في هذه العزبة تتسم بالبساطة الريفية، حيث يستيقظ الأهالي مع أذان الفجر ليروا حقولهم الخضراء، يسقون الذرة والبرسيم، ويربون الأغنام والأبقار، ويجتمعون في المساء حول القهوة يتبادلون الأحاديث عن المحصول والأمطار والأعراس. لكن هذا الهدوء الظاهري كان يخفي تحت سطحه تيارات عميقة من التوتر العائلي، الذي انفجر في كارثة دموية عرفت بمذبحة الكلافين في صيف عام 2008، وكان سببها الرئيسي خلافا تافها حول وصلة مياه.تعود جذور النزاع إلى سنوات عديدة قبل الحادثة. في الثمانينيات والتسعينيات من القرن الماضي، كانت عائلة الكلافين، وهي عائلة كبيرة متجذرة في العزبة، تقيم على قطعة أرض تبلغ خمسة أفدنة بوضع اليد، أي أنهم يزرعونها ويبنون عليها منازلهم منذ أكثر من خمسين عاما دون ملكية رسمية، وهو أمر شائع في الريف المصري حيث تعتمد الكثير من الأراضي على الوراثة والاستخدام الطويل الأمد. كانت هذه الأرض جزءا من قطعة أكبر تبلغ خمسين فدانا، اشتراها رجل يدعى فتحي السيد يوسف، الملقب بالبربري، من عائلة الرفاعي، من مالك سابق يدعى محمد توفيق بدراوي في صفقة قانونية مسجلة.
البربري هذا كان شخصية مثيرة للجدل في المنطقة. رجل قوي البنية، طويل القامة، له تاريخ حافل بالعنف والثأر. في شبابه، تورط في قضية ثأر قديمة أدت إلى مقتل شخص، فحكم عليه بالسجن لسنوات، قضاها خلف القضبان. بعد خروجه، اختفى لفترة طويلة ليتجنب الانتقام من أهل القتيل، عاش متخفيا في مناطق أخرى. ثم عاد إلى القليوبية بعد أن تزوج من امرأة ثرية ورثت أموالا كبيرة، مما مكنه من شراء الأرض بثمن بخس نسبيا. كان البربري مسجل خطر لدى الشرطة، يعرف بتسلطه وجبروته، يحمل سلاحا دائما، ويفرض نفوذه على الجيران بالقوة. لم يكن يقبل الصلح السلمي، وبدأ فور شرائه الأرض في بناء أسوار عالية حولها، مانعا عائلة الكلافين من الدخول والخروج بحرية، محاولا إجبارهم على الرحيل ليسيطر على الأرض كاملة ويبيعها أو يستغلها تجاريا.بدأ التوتر يتصاعد تدريجيا. كانت هناك مشاجرات متفرقة، تهديدات بالسلاح، شكاوى متبادلة إلى مراكز الشرطة، لكن الأمور لم تصل إلى العنف الشديد بعد. عائلة الكلافين، التي يقودها أشخاص مثل عبد المعطي مرسى رجب، وهو أيضا مسجل خطر ولديه تاريخ في المشاكل، كانت تشعر بالظلم الشديد، إذ أفنوا أعمارهم في تلك الأرض، بنوا منازل طوبية بسيطة، زرعوا أشجارا، وحفروا آبارا. أما عائلة الرفاعي، فكانت تدعم البربري بقوة، إذ ينتمي إليهم نسبا أو قرابة.
الشرارة التي أشعلت النار الكبرى كانت خلافا يبدو تافها للوهلة الأولى، لكنه يمس جوهر الحياة في الريف: المياه. طلبت عائلة الكلافين من البربري السماح بتمرير وصلة مياه شرب أو صرف صحي عبر جزء من الأرض التي يملكها، لتوصيل المياه إلى منازلهم التي أصبحت محاصرة. في الريف المصري، تكون المياه مصدر حياة أساسي، خاصة مع انتشار مشاريع الصرف الصحي الحكومية في تلك الفترة. رفض البربري هذا الطلب رفضا باتا وقاطعا، معتبرا أن أي وصلة مياه ستثبت وجود الكلافين قانونيا على الأرض، وتعيق خططه في إخلائها. حرم الأهالي من المياه لأيام، مما أثار غضبا شديدا، إذ كيف يعيش الناس بدون ماء نظيف في حر الصيف؟في أوائل يوليو 2008، بلغ الخلاف ذروته. اندلعت مشاجرة عنيفة بين البربري وعبد المعطي رجب، تبادلا إطلاق النار في الطريق، أصيب عبد المعطي في ساقه إصابة بالغة. نقل إلى المستشفى، وهناك قرر أفراد عائلته الانتقام. تجمع عدد من أبناء الكلافين وأخوالهم، مسلحين جيدا، وافتعلوا أزمة جديدة حول خط المياه، ثم اقتحموا منزل البربري فجأة، أطلقوا عليه الرصاص فقتلوه هو وأحد أقاربه على الفور. شاهد ابن شقيق البربري الجريمة بعينيه، فهرب وأبلغ أقاربه فورا. تجمعت عائلة الرفاعي بسرعة مذهلة، أكثر من خمسين شخصا مسلحين ببنادق آلية وخرطوش ومسدسات، وقرروا الرد الانتقامي الفوري دون انتظار الشرطة.

في ذلك اليوم المشؤوم، الذي يصفه الناجون بأنه يوم أسود في تاريخ القرية، تحولت عزبة الكلافين إلى ساحة حرب حقيقية. اقتحم أفراد عائلة الرفاعي المنازل واحدا تلو الآخر، أطلقوا الرصاص عشوائيا على كل من صادفوه، دون تمييز بين رجل مسلح أو امرأة في المطبخ أو طفل يلعب في الفناء. سكبوا الجازولين والمواد البترولية داخل الغرف، ثم أشعلوا النار في أكثر من أربعة عشر منزلا، فاحترقت البيوت وهي تحمل ساكنيها. ملأ الدخان الأسود السماء، ارتفعت أصوات الصراخ المرعبة، عويل النساء، وبكاء الأطفال الذين احترقوا أحياء. سقط في هذه المذبحة المروعة خمسة عشر قتيلا على الأقل، حسب الروايات الرسمية، وبعض المصادر تتحدث عن اثنين وعشرين أو ثلاثة وعشرين، معظمهم من عائلة الكلافين، بينهم نساء مسنات وأطفال صغار، وأصيب أكثر من ثلاثين آخرين بجروح بالغة، بعضها أدت إلى عاهات مستديمة.كانت المشاهد مروعة لا توصف: جثث ملقاة في الطرقات الترابية، مغطاة بالدماء والرماد، منازل محترقة تماما، أثاث محترق، مواشي ميتة، وأهالي القرية المجاورة يهرعون في حالة ذعر شديد، يحاولون إنقاذ ما يمكن إنقاذه. انتشر الخبر سريعا في القليوبية ثم في مصر كلها، شغل الرأي العام أياماً طويلة، ووصلت الأنباء إلى الصحف الكبرى والتلفزيون. حاصرت قوات الأمن المركزي العزبة فورا، تحولت إلى ثكنة عسكرية، منعت الدخول والخروج، وضبطت كميات هائلة من الأسلحة النارية والذخائر الفارغة المتناثرة في المكان. أجرت النيابة العامة معاينة ميدانية للموقع، ندبت الطب الشرعي لتشريح الجثث وتحديد أسباب الوفاة، سواء بالرصاص أو بالحرق.
تم القبض على عشرات المتهمين من الطرفين، أحيلت القضية إلى محكمة جنايات بنها، التي استمرت جلساتها سنوات طويلة بسبب تعقيد النزاع وكثرة الشهود. أحالت المحكمة أوراق سبعة متهمين رئيسيين إلى مفتي الجمهورية لأخذ رأيه في إعدامهم، من بينهم عبد المعطي رجب من عائلة الكلافين، وهيثم حامد ويحيى سعيد وآخرون من عائلة الرفاعي. في النهاية، أصدرت المحكمة أحكاما قاسية: إعدام شنقا لبعض المتهمين الرئيسيين، والسجن المؤبد والمشدد لعشرات آخرين، في قضية شملت أكثر من خمسة وثلاثين متهما.لم تنته الخصومة الثأرية مع الأحكام القضائية، بل استمرت المناوشات والتهديدات والاشتباكات الصغيرة لسنوات طويلة، تحولت ميت عطار إلى قرية يسودها الخوف، يتجنب الأغراب زيارتها، وأصبحت معروفة وطنيا بتاريخها الدموي. ظلت الدماء تطالب بدماء، والأسر تعيش في حالة ترقب وحذر دائم، تخشى الانتقام في أي لحظة. لكن بعد مرور أكثر من عشر سنوات على المذبحة، نجحت جهود مديرية أمن القليوبية، بالتعاون مع كبار العائلات والقضاة العرفيين والنواب البرلمانيين، في إنهاء هذه الخصومة المميتة نهائيا.في عام 2016، عقدت جلسة صلح كبرى في مركز شباب ميت عطار، حضرها قيادات أمنية رفيعة، ونواب مثل جمال كوش، ومئات من أفراد العائلتين. تعهد الطرفان بدفع ديات مالية ضخمة ككفارة عن الدماء: تعهدت عائلة الكلافين بدفع أكثر من أربعة ملايين جنيه مصري، وبناء مدرسة ثانوية صناعية لخدمة أهالي القرية كلها، بينما تعهدت عائلة الرفاعي بدفع أكثر من خمسة ملايين جنيه. كما تعهد الجميع بتسليم كل الأسلحة النارية الموجودة لديهم إلى الشرطة، والمثول التام للأحكام القضائية دون أي محاولات ثأر جديدة. كانت هذه الجلسة لحظة تاريخية، أسدلت الستار على سنوات من الدم والألم، وعادت الحياة تدريجيا إلى طبيعتها في العزبة.
اليوم، تروى قصة مذبحة الكلافين في المنطقة كدرس مؤلم وعبرة للأجيال، تحذر من مخاطر العصبية العائلية والثأر الأعمى، وتذكر بأن خلافا بسيطا مثل وصلة مياه يمكن أن يتحول إلى بحر من الدماء إذا غلب الغضب على العقل والدين. هذه الحكاية، التي ألهمت حلقة شهيرة في بودكاست دقائق من سلسلة الأشقيا بعنوان "مذبحة الكلافين في ميت عطار .. السبب وصلة مية"، تظل شاهدا على هشاشة السلام في المجتمعات الريفية، وضرورة اللجوء إلى القانون والصلح قبل فوات الأوان.
تعليقات