جبروت يفتح ملف الطباخ الملكي: تسريبات تثير الشارع المغربي

 جبروت يفتح ملف الطباخ الملكي: تسريبات تثير الشارع المغربي


مقدمة

في السنوات الأخيرة أخذت تسريبات جبروت مكانها في الوعي العام المغربي كظاهرة غير مألوفة، أشبه بشبح يخرج من العتمة في لحظات محددة ليقذف للرأي العام بجرعات من المعلومات المزعجة والمربكة، فيختلط فيها ما هو مؤكد بما هو مشكوك فيه، وما هو قريب من الواقع بما يبدو أقرب إلى الخيال. ومع كل تسريب يزداد الجدل وتتسع دائرة النقاش بين من يرى فيها مجرد حرب إلكترونية هدفها التشويش، وبين من يعتبرها امتدادًا لصراعات داخلية تُدار بطرق ملتوية، وبين من يتعامل معها باعتبارها واحدة من الأدوات القليلة التي تفضح المستور في بلد اعتاد أن تبقى أسراره الكبرى طي الكتمان. ووسط هذا الجدل تحوّلت كلمة "جبروت" نفسها إلى علامة تجارية للتسريبات، يكفي أن تُذكر حتى تُثير الانتباه والفضول، خاصة بعد أن أثبتت التجربة أن بعض ما خرج منها لم يكن مجرد افتراء، بل حقائق تسللت من وراء جدران الصمت إلى العلن.

عرض

حين نعود إلى قضية وزير العدل عبد اللطيف وهبي نجد مثالًا صارخًا على كيفية تفاعل التسريبات مع الواقع السياسي. فقد ظهر تسريب صوتي منسوب إليه أحدث ضجة كبرى، تعامل معه في البداية بإنكار أو تجاهل، قبل أن يضطر لاحقًا إلى الاعتراف بصحته. كان ذلك لحظة مفصلية جعلت الناس يتوقفون عن السخرية من تسريبات جبروت ويأخذونها بجدية أكبر. فالمغاربة اعتادوا أن تمر أخبار كثيرة في وسائل التواصل بلا تحقق، لكن حين يثبت أن وزيرًا اعترف بما سُرّب عنه، يصبح الباب مفتوحًا لاعتبار أن أي تسريب آخر قد يحمل بدوره شيئًا من الصدق. هذه النقلة غيرت قواعد اللعبة: لم يعد ممكنا للسلطة أو المسؤولين أن يتجاهلوا ما يخرج من هذا المصدر المجهول، لأن احتمال تحوله إلى فضيحة حقيقية يبقى قائمًا في أي لحظة.

ومنذ تلك اللحظة صار جبروت يتغذى من هذا الرصيد المكتسب من المصداقية الجزئية، ويوسّع من مجال مواضيعه. لم يعد الأمر يتعلق فقط بوزراء أو مسؤولين من الصف الثاني، بل بدأ يقترب من المناطق الأكثر حساسية: أجهزة الأمن، القصر الملكي، وحتى ما يجري في كواليس المطبخ الملكي نفسه. وهنا بلغ التوتر ذروته، لأن الحديث عن القصر في المغرب خط أحمر لا يجرؤ كثيرون على الاقتراب منه، فما بالك بتسريب يتحدث عن "اختراق أمني" أو عن "طباخ أجنبي يُستعمل في أغراض غامضة". هذه النقلة كانت بمثابة زلزال في النقاش العام، لأن مجرد طرحها يزعزع صورة الحصانة المطلقة التي ارتبطت بالمؤسسة الملكية، ويضع الناس أمام أسئلة لم يكن مسموحًا بطرحها من قبل.

تسريبات جبروت عن الطباخ الأجنبي في القصر أثارت صدمة أكبر، لأنها لم تكتف بالحديث عن شخص في موقع رمزي كطباخ الملك، بل ذهبت إلى حدّ اتهامه بأدوار تتجاوز الطبخ إلى ما هو أمني أو طبي. قيل في بعض النصوص المسرّبة إن هناك تعليمات سرية وُجهت إليه لإدخال أدوية معينة في وجبات حساسة، وهي رواية لم يؤكدها أحد ولم تظهر أي أدلة حقيقية عليها، لكنها مع ذلك انتشرت كالنار في الهشيم. والسبب ليس قوة الدليل، بل لأن الفكرة نفسها مثيرة وصادمة: مجرد تخيّل أن المطبخ الملكي، الذي يرتبط في ذهن الناس بالترف والفخامة والخصوصية، يمكن أن يكون مسرحًا لسيناريوهات غامضة، كافٍ لإشعال الخيال الجماعي وفتح باب الإشاعات على مصراعيه. وهنا بالضبط تكمن قوة جبروت: في قدرته على زرع بذرة شك صغيرة في مكان حساس، وتركها تكبر وحدها بفعل الخيال والفضول وانعدام الشفافية.

اللافت أن القصر والسلطات الرسمية اختاروا الصمت أمام هذه التسريبات، ولم يخرج أي رد أو تكذيب مباشر. هذا الصمت له تفسير مزدوج: من جهة قد يكون تكتيكًا مقصودًا يقوم على قاعدة "لا تعطي أهمية للادعاءات حتى لا تكتسب شرعية"، ومن جهة أخرى يُفهم عند الناس كنوع من العجز عن الرد أو كإقرار ضمني بأن في الأمر شيئًا من الحقيقة. في الثقافة الشعبية المغربية الصمت أمام الاتهام يُقرأ غالبًا كدليل على صحته، وهذه المفارقة تجعل أي تسريب يأخذ وزنًا أكبر مما قد يستحقه. وبذلك يصبح جبروت لاعبًا خطيرًا في ساحة الرأي العام، لأنه يعرف أن السلطة لا ترد، ويعرف أن الناس سيملأون فراغ الصمت بالتأويلات.

ومع تراكم هذه التسريبات، بدأ يظهر في الشارع خطاب جديد: "إذا كانت تسريبات الوزير وهبي خرجت صحيحة، فمن يضمن أن تسريبات الطباخ ليست صحيحة أيضًا؟". إنها عدوى الشك، التي تنتشر بسرعة وتتحول إلى مناخ عام من انعدام الثقة. فالمغاربة أصلاً يعيشون في سياق يتسم بضعف الثقة في المؤسسات، ومع كل تسريب يزداد هذا الشعور رسوخًا. وحتى لو كان نصف ما يخرج من جبروت مجرد أكاذيب، فإن النصف الآخر يكفي لإقناع الناس بأن وراء هذه القناة المجهولة مصدرًا قريبًا من دوائر القرار، قادرًا على تمرير ما يشاء من معلومات. وهذا يكفي ليمنح جبروت سلطة معنوية كبيرة، أشبه بسلطة الصحافة الاستقصائية في البلدان الديمقراطية، لكن دون القواعد المهنية أو آليات التحقق.

من الناحية التحليلية، يمكن قراءة هذه الظاهرة من زاويتين متكاملتين. الزاوية الأولى هي الصراع الداخلي: قد تكون هذه التسريبات نتيجة تصفية حسابات بين أجنحة في السلطة، يستخدم فيها كل طرف ما يملك من أوراق لإرباك الآخر. في هذه الحالة يصبح جبروت مجرد أداة في لعبة أكبر. الزاوية الثانية هي الاختراق الخارجي: هناك من يرى أن جهة أجنبية تقف وراءها، تسعى إلى ضرب صورة النظام وإضعاف تماسكه. والواقع أن كلا الاحتمالين وارد، بل قد يتداخلان معًا: صراع داخلي يجد من يضخمه خارجيًا ويمنحه انتشارًا أكبر. وفي النهاية لا يهم مصدر التسريب بقدر ما يهم أثره على وعي الناس وصورة الدولة.

أثر هذه التسريبات يتجاوز حدود النقاش الإعلامي ليصل إلى مستوى الشعور الجمعي. فالمغربي العادي الذي يسمع أن طباخ الملك متورط في شيء غامض، أو أن أجهزة الأمن تستعمله في مهام غير مفهومة، لن يبحث في الأدلة والوثائق، بل سيتبنى الفكرة أو سيرفضها وفق ما تمليه عليه قناعته المسبقة. ومن هنا تنقسم الآراء: البعض يرى أن جبروت يقول ما لا يجرؤ الإعلام الرسمي على قوله، والبعض الآخر يعتبرها مجرد فبركة مقصودة لتشويه صورة البلاد. لكن في كلتا الحالتين يبقى الأثر قائمًا: صورة الدولة لم تعد صلبة كما كانت، والقداسة المحيطة بالقصر لم تعد محصنة بالكامل.

في الشارع المغربي لا تبقى مثل هذه التسريبات مجرد أخبار عابرة، بل تتحول بسرعة إلى مادة يومية للنقاش في المقاهي، في سيارات الأجرة، وفي جلسات الأصدقاء. حين نزل أول تسريب يربط "الطباخ الأجنبي" بالقصر، سمعته في أحاديث عابرة بين أشخاص بسيطين، كان أحدهم يقول: "إيوا آش باقي؟ حتى الماكلة ديال سيدنا ما بقاتش مضمونة؟". لم يكن الرجل متأكدًا مما سمع، لكنه ردّد الفكرة كحقيقة مرعبة. آخر كان يجلس قربه ضحك وقال: "راه هاد الشي بزاف، غير إشاعات كيخترعوها باش يشوهو البلاد". النقاش لم يكن عن صحة التسريب بقدر ما كان عن إمكانية حدوثه، عن حجم المفاجأة لو كان فعلا صحيحًا.

في مواقع التواصل، وخاصة على فيسبوك وتويتر، انتشرت التعليقات كالنار. البعض يكتب: "جبروت اليوم أقوى من أي قناة رسمية"، وآخر يرد: "هاذي هي الفوضى، كيعطيو المصداقية للهاكر وما كيبغيوش يسمعو الدولة". بين الرأي والرأي الآخر يظل عنصر الصمت الرسمي حاضرًا كعنصر يزيد من اشتعال النقاش. فلو كان هناك رد واضح أو نفي صريح، لربما انطفأت الشائعات، لكن الغياب التام لأي موقف يترك الميدان مفتوحًا للتأويلات.

في الأسواق الأسبوعية البعيدة عن العاصمة، تصل أخبار جبروت متأخرة قليلًا لكنها تصل. تجلس مجموعة من الفلاحين يحتسون الشاي في إحدى الزوايا، فيتحدث أحدهم: "سمعتو آش قالو على طباخ الملك؟"، يرد الآخر بدهشة: "لا، شنو وقع؟"، فيروي له القصة بطريقته، يضيف تفاصيل من خياله، فيختلط الخبر بالشائعة وتتشكل رواية جديدة. وهكذا تتحول التسريبات إلى حكايات تُروى، أقرب إلى الأساطير الشعبية، لكنها محملة بقلق حقيقي حول من يحكم وكيف تُدار البلاد.

وليس تأثير تسريبات جبروت محصورًا داخل حدود المغرب فقط، بل يمتد إلى الخارج ليصبح مادة للرصد من قبل الإعلام الدولي والمراقبين الخارجيين. الصحف الفرنسية والإسبانية على وجه الخصوص لاحظت هذه التسريبات، وبدأت تنقلها بطريقة حذرة، مركزة على عنصر "الحساسية" و"السرية الملكية". بعض التعليقات الصحفية أشارت إلى أن المغرب، الذي طالما اعتبر صورة المؤسسة الملكية فيه صلبة ومحاطة بالاحترام، بدأ يظهر أمام العالم كما لو أن هناك فجوة في الحصانة المعلنة، وأن أسرار القصر ليست عصية على

وأن أسرار القصر ليست عصية على الاختراق أو التسريب، وأن هناك دوائر يمكن أن تتسلل إليها المعلومات رغم كل إجراءات الحماية والسرية المتوقعة. الإعلام الخارجي لم يصدق أو يكذب، لكنه ناقل لما يصل إليه من معلومات، ومعظمها يخرج من الشبكات الاجتماعية أو مصادر مغربية غير رسمية، تمامًا كما تفعل "جبروت".

الظاهرة هنا تخلق انطباعًا مزدوجًا: من جهة المغرب يظهر وكأنه بلد يحافظ على سيادة مؤسسته الملكية وسرية أجهزته، ومن جهة أخرى يبدو أن هناك قنوات غير رسمية تنجح في اختراق هذه السرية بشكل دوري، ما يعطي انطباعًا بأن هناك مساحة من الشفافية القسرية، أو على الأقل أن هناك فراغًا معلوماتيًا يُملأ سريعًا بالشائعات والتحليلات والتخيلات. هذه الصورة الخارجية تصعب على السلطات السيطرة عليها، لأن ما يصل إلى الخارج ليس مجرد نصوص أو أصوات مسربة، بل هو أيضًا تفاعل عالمي مع كل ما يرد من محتوى، يضيف تفسيراته الخاصة ويستثمر أي شائبة أو تضارب في التفاصيل.

في الأوساط الدبلوماسية، يُذكر أن بعض السفراء والمراقبين الخارجيين بدأوا يلاحظون حديث الناس عن "جبروت" والمطبخ الملكي وكأنها قضية شبه رسمية، ويربطون بين الصمت الرسمي والحقائق المجهولة التي تتكشف عبر الشبكات، ما يجعلهم في حيرة بين احترام سيادة الدولة والفضول لفهم ما يحدث خلف جدران القصر. وهنا أيضًا يتجلى تأثير التسريبات على مستوى الصورة العامة للبلد: المغرب، الذي يملك إرثًا ملكيًا عريقًا ومؤسسات رسمية قوية، يُرى في الخارج أحيانًا كبلد يمكن أن تتسلل أسراره إلى العلن بسهولة، وهذا بدوره يفتح نقاشات عن مدى قوة مؤسساته وسرية قراراته.

لكن اللافت أن هذا التأثير الخارجي لا يقلل من أثر التسريبات داخليًا؛ على العكس، فهو يعزز الانطباع الشعبي بأن ما يقال ليس مجرد خيال محلي، بل مراقب دوليًا أيضًا، وهذا يعطيه ثقلاً إضافيًا في النقاش المحلي. فحين تسمع الجماهير أن وسائل الإعلام الخارجية تتحدث عن تسريبات المطبخ الملكي والطباخ الأجنبي، فإن شعورهم بأن هناك شيئًا حقيقيًا خلفها يزداد، حتى وإن لم يتم تقديم أي دليل رسمي ملموس. وهكذا تتحول ظاهرة جبروت من مجرد صفحة رقمية مجهولة إلى قوة فعلية تضغط على كل المستويات: الشارع، الإعلام المحلي، المجتمع الدولي، والسلطة نفسها.

وبذلك تتداخل كل العناصر: الشارع المغربي الذي يناقش في المقاهي والأسواق، وسائل التواصل الاجتماعي التي تنشر وتحلل وتضحك وتخاف، الإعلام الدولي الذي يلتقط المؤشرات، وأجهزة الدولة التي تواجه صمتًا استراتيجيًا أو حذرًا، والتسريبات نفسها التي تخلق حالة دائمة من الترقب وعدم اليقين. كل هذا يجعل ظاهرة جبروت أكثر من مجرد تسريبات؛ إنها تجربة اجتماعية وسياسية وثقافية متكاملة، تعكس علاقة الشعب بالمؤسسة، والمؤسسة بمحيطها المحلي والدولي، وتكشف هشاشة الحدود بين الحقيقة والشائعة في عالم اليوم.

خاتمة

في نهاية المطاف، ما تبقى واضحًا أن تسريبات جبروت ليست مجرد أصوات على شبكة الإنترنت، بل هي قوة مؤثرة على وعي الناس، على صورة الدولة داخليًا وخارجيًا، وعلى الطريقة التي يُدار بها النقاش العام حول القصر الملكي ومؤسسات السلطة. قد تكون التسريبات صحيحة بنسبة معينة، وقد تحمل عناصر مبالغ فيها، لكن الأهم أن تأثيرها قائم، وأنها تركت بصمة لا تمحى بسهولة، تجعل الجميع، من مسؤولين وعامة، يعيشون في توتر دائم بين ما هو معلن وما هو مسرّب وما يفرضه الخيال من احتمال.

تعليقات