عبد الرحمن اليوسفي"سيد الحكومات المغربية ورمز التناوب الديمقراطي"

عبد الرحمن اليوسفي: رجل الدولة، أيقونة النضال، وبُناة الانتقال السياسي السلمي

السلام عليكم

عبد الرحمن اليوسفي هو أحد أبرز رجالات الدولة في المغرب الحديث، وُلد سنة 1924 بمدينة طنجة، ونشأ في بيئة بسيطة وتلقى تعليمه الأولي فيها قبل أن ينتقل إلى مدينة فاس ثم إلى الدار البيضاء، حيث انخرط في العمل السياسي والنضالي في وقت مبكر من حياته. انضم إلى حزب الاستقلال في شبابه، وشارك في الكفاح الوطني ضد الاستعمار الفرنسي، خاصة خلال مرحلة نفي الملك محمد الخامس، وكان من بين الذين ساهموا في دعم المقاومة والحركة الوطنية في الخفاء، وقد أدى به هذا المسار إلى اعتقاله عدة مرات. في سنة 1959، ساهم مع المهدي بن بركة وعبد الله إبراهيم في تأسيس حزب الاتحاد الوطني للقوات الشعبية، الذي انبثق منه لاحقًا حزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية. لم يقتصر نضاله على المستوى السياسي فقط، بل مارس المحاماة منذ سنة 1952، وأصبح نقيبًا لمحامي طنجة عام 1959، كما تولى مناصب بارزة في هيئات دولية لحقوق الإنسان، وشارك في تأسيس عدة منظمات حقوقية في المهجر، وكان من أبرز الأصوات المدافعة عن حقوق الإنسان في العالم العربي. بعد نفيه الاختياري إلى فرنسا بسبب مواقفه السياسية، ظل طيلة 15 سنة ينشط في الدفاع عن المعتقلين السياسيين المغاربة والعرب، كما قاد حملات دولية لفضح ممارسات القمع في المغرب خلال سنوات الجمر والرصاص. ورغم كل ما تعرض له من إقصاء ومتابعة قضائية، عاد إلى المغرب سنة 1980، حيث أعيد له الاعتبار تدريجياً إلى أن تسلّم رئاسة الحكومة سنة 1998، في ما عُرف بحكومة التناوب التوافقي، وهو الحدث التاريخي الذي دشن أول تجربة ديمقراطية فعلية في المغرب من خلال تسليم السلطة للمعارضة بقيادة الاتحاد الاشتراكي. في عهده كرئيس للحكومة، أولى أهمية كبرى للإصلاحات الإدارية والسياسية والاقتصادية، كما عمل على محاربة الفساد وتحسين مناخ الحريات، وكان أول من بادر بإدماج المغرب في عهد الشفافية والمسؤولية، رغم الإكراهات التي واجهتها حكومته من داخل النظام ومن بعض مراكز القوى. ومن أبرز قراراته التاريخية، تأكيده في البرلمان أنه مستعد للاستقالة إذا لم يتم احترام إرادة التناوب، ما جعل الجميع يشهد له بعلو كعبه الأخلاقي والسياسي. بعد خروجه من رئاسة الحكومة سنة 2002، اعتزل العمل السياسي نهائيًا، لكنه ظل يحتفظ برمزيته الكبيرة كأحد أعمدة الدولة الوطنية، وقد حظي باحترام خصومه قبل رفاقه. حاز على عدة أوسمة وجوائز دولية، من بينها وسام العرش من درجة الحمالة الكبرى سنة 2002، كما منحته فرنسا وسام جوقة الشرف. ألف كتابًا مرجعيًا بعنوان "أحاديث في ما جرى" سرد فيه مذكراته السياسية، كما أن سيرته ألهمت كتبًا أخرى عن تجربته الغنية، التي امتدت لأكثر من ستة عقود من النضال السياسي والحقوقي. توفي يوم 29 مايو 2020 في الدار البيضاء عن سن 96 عامًا، بعد حياة حافلة بالعطاء والتضحيات. وقد نعاه الملك محمد السادس بكلمات مؤثرة، واعتبره رمزًا وطنيًا كبيرًا يستحق كل التقدير. تم دفنه في مقبرة الشهداء بمدينة الدار البيضاء، وسط حضور شعبي ورسمي محدود بسبب جائحة كورونا، لكن صدى رحيله تردد في قلوب كل المغاربة، حيث اعتبره الجميع رجل دولة نزيهًا، دمث الأخلاق، ومثالًا في الوفاء للمبادئ والوطن. عبد الرحمن اليوسفي سيظل محفورًا في ذاكرة المغاربة كأحد بناة المغرب الحديث، ورجل الوفاء والمصالحة والكرامة.

تعليقات