حين يمرض الفقير في أغنى أرض في العالم ( خريبكة )

المعطي الخريبكي
المؤلف المعطي الخريبكي
تاريخ النشر
آخر تحديث


 حين يمرض الفقير في أغنى أرض في العالم

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته،

في أواخر الستينات، هاجر والدي من القرية إلى المدينة، تاركًا خلفه أهله، ذكرياته، وأرضًا احتضنته لأكثر من خمسة وثلاثين عامًا. كانت لحظة الفراق قاسية، محفورة في ذاكرته حتى اليوم. لا يزال يذكر المشهد حين وضع أثاثه على ظهر شاحنة الرحيل، متبعًا إياها على دراجته الهوائية. وفي الطريق، سأله أحد الرجال:

"لمن هذا الرحيل يا محمد؟"

لم يجبه أبي، فقط تابع طريقه بينما اغرورقت عيناه بالدموع. كان وقع السؤال على قلبه أشبه بتساؤل آخر أكثر قسوة: "لمن هذا النعش يا محمد؟"

وصل أبي إلى مدينة الفوسفاط، حيث اشترى كوخًا بسيطًا من القصدير في حي "الشرادي"، الذي كان يطل على الغابة آنذاك، والتي تُعرف اليوم بـ"النهضة". بدأ بالبحث عن عمل ليعيل أسرته المكونة من زوجته وأطفاله الستة.

وذات يوم في رمضان، بينما كنا ننتظر موعد الإفطار بفرح طفولي، كنت أنا وأخي الأصغر لا نفترق، نلعب ونركض بلا اكتراث لما كان ينتظرنا. كان لدينا كوخان؛ أحدهما مطبخٌ صغيرٌ بني من الخشب والأغصان، وكان اسودَّ من أثر الدخان، والآخر كان مأوى لنا حيث نأكل وننام جميعًا، في مساحة لم تتجاوز ثمانية أمتار مربعة، تجمعنا فيها نحن الثمانية، إضافةً إلى ابن عمتي الذي جاء للدراسة في الإعدادية، تلك الإعدادية التي كانت سبب انتقالنا من القرية إلى المدينة، حيث لم تكن هناك مدارس إعدادية في القرية.

بدأت أختي في ترتيب المائدة، ووضعت إبريقًا من القهوة السوداء أمامنا. كنت أجلس على جهة، وأخي على الأخرى، فبدأنا نركل بعضنا بعضًا بأرجلنا، وفي غمرة اللعب انقلب الإبريق الحار علينا، فأصيبنا بحروق من الدرجة الثالثة في ساقينا، وانطلقت صرخاتنا، تبعتها صرخات أمي وأخوتي، وتجمع الجيران داخل الكوخ على وقع الألم والصراخ.

عاد أبي مسرعًا، وطلب من أحد الجيران مساعدتنا، فوضع الرجل الملح في فمه وبدأ يرش ريقه على أرجلنا، لكن الألم لم يهدأ، بل ازداد مع كل لحظة. لم ننم في تلك الليلة، ولا نام أحد من العائلة، ومع بزوغ الفجر، حملونا إلى المستوصف الوحيد، الذي كان يقع أمام البنك الشعبي بخريبكة. وعندما وصلنا، قوبلنا برفض قاطع، وقيل لأبي:

"هذه الحروق من الدرجة الثالثة، لا يمكننا فعل شيء، عليك أخذهما إلى الدار البيضاء."

عاد بنا أبي إلى الكوخ، ولم نهدأ من البكاء، وعندما كنا نغفو من التعب، كان الألم يوقظنا مرعوبَين، فنعود إلى البكاء بلا توقف. لم يكن هناك علاج ولا مسكنات، سوى وصفات أمي التقليدية، التي كانت تجرب فينا كل ما ترشدها إليه جاراتها، من أعشاب، وعظام الدجاج، وشربة الدجاج البلدي وغيرها.

ولأن النوم كان مستحيلاً بسبب الألم، صنع لنا والدي حاجزًا خشبيًا على شكل مثلث مفتوح من ضلع، ليمنع الغطاء من لمس جلودنا المحترقة. بقينا على هذه الحال، تحت ذلك الحاجز، مدة عامٍ كاملٍ دون أي علاج طبي. مرت سنة ونصف ولم يكن هناك أي تحسن، إلى أن جاء يوم زحفت فيه خارج الكوخ لأول مرة، وجلست أمام الباب، بينما كانت أمي تنظر إلي بفرح غامر، فقد رأتني خارجًا بعد ثمانية عشر شهرًا من العذاب المستمر.

دخلت لتحضر خلطة جديدة من الحناء والشبة، وبينما بدأت بوضعها على ساقي، مرّ رجل غريب لأول مرة في حينا، كان في زيارة لأحد الجيران. رأى أمي تفعل ذلك، فأوقفها، وطلب منها قليلًا من الملح الصلب. وما إن دخلت لتحضره، حتى بدأ يلعق ساقي بلسانه ويبصق في الجهة الأخرى، حتى أصبح لون الحروق أحمر نقيًّا، ثم وضع الملح في فمه ورشّه على مكان الحرق وقال:

"الله يشفيك."

ورحل في سبيله، تاركًا وراءه أثرًا لم يكن يدركه. لم تمضِ أيام حتى بدأ الألم يهدأ، وبدأت علامات التعافي تظهر على جلدي. شيئًا فشيئًا، تحسنت حالتي، حتى تمكنت من المشي، ثم اللعب، وارتداء الملابس بعد عامين من المعاناة.

لو سألنا الطبيب عن مدة الشفاء من الحروق من الدرجة الثالثة، لقال إنها لا تتجاوز بضعة أسابيع بالعلاج المكثف، لكن حين يصاب الفقير، فإن معاناته قد تمتد لسنوات.

والسلام عليكم ورحمة الله

تعليقات

عدد التعليقات : 0