قُدِّر له أن لا يعود ابدا.
السلام عليكم
في أحد أحياء مدينة خريبكة، وفي زمن منتصف الثمانينات، كانت تعيش أسرة بسيطة، منهكة تحت وطأة الحاجة، تتكوّن من أمٍّ عجوز، وابنها عبد الرحيم، وشقيقيه: محمد وصالح، إضافة إلى الأختين، بعد أن رحل الأب مبكرًا، وهاجر الابن الأكبر، محمد، إلى الدار البيضاء.كانت الأم امرأة صلبة، تكافح من أجل لقمة العيش. تحمل الصوف في الأسواق الشعبية المجاورة وتبيعه، تجرّ عربتها اليدوية بمساعدة عبد الرحيم، الذي كان يرعى الغنم قبل أن تُباع، ليبنى بثمنها المنزل بعد الترحيل. أمّا الأخ الأصغر، صالح، فقد واصل دراسته في المدرسة، رغم شظف العيش.أما محمد، الابن الأكبر، فكان لغزًا حيًا في الحي. رجل قوي، صارم، لا يشرب ولا يدخن، ولا يهتم بشيء سوى الصلاة. حين تثور أعصابه، كان يوقف المارة ليسألهم:
– هل تُصلي؟
فإن أجابوه بنعم، يستمر:
– كم عدد ركعات صلاة العصر؟
فإن أخطأ أحدهم، نال صفعة على قفاه دون نقاش.
حاولت الأسرة علاجه، فزار مستشفى برشيد للأمراض النفسية أكثر من مرة، لكن في النهاية شُفي – أو بدا كذلك – وهاجر إلى الدار البيضاء، حيث تزوج، واشتغل جزارًا، واختفى تمامًا. كأنما أقسم ألا يعود.بقي عبد الرحيم في الحي، بلا غنم، بلا مورد، يراقب أمه وهي تشيخ يومًا بعد يوم، دون أن تستسلم للفقر أو المرض. كانت تدرك جيدًا أن أولادها مرضى، وأنها وحدها الحائط الأخير بينهم وبين الجوع.
وذات مساء، جلست إلى عبد الرحيم وقالت له:
– لمَ لا تملأ العربة بالخضر أو الطماطم وتبيعها في المدينة؟
أجابها بأسى:
– لا مال لديّ.
قالت بعزم:
– سأقترض لك من جارتنا، وردّها حين تبيع.
في صباح الغد، توجه إلى السوق المركزي، اشترى ثلاث أكياس من الطماطم، وملأ عربته، ودفعها نحو شارع الزلاقة – الذي سيُسمّى لاحقًا شارع محمد السادس.لم يكد يعرض بضاعته، حتى أوقفه اثنان من أعوان السلطة، وصادرا العربة وكل ما فيها، وساقوها نحو "الخيرية". توسّل إليهما، ترجاهم، ذكّرهم بحاله، لكنهم صدّوه بفظاظة.عاد إلى المنزل مكسورًا، والدمعة تحاصر عينيه. شعر بالظلم، بـ"الحكرة" – تلك الكلمة التي تختصر ما يعجز القانون عن تسميته. في يوم الإثنين التالي، كان يحمل في جيبه سكينًا. لم يكن مجرد بائع خضار، بل كان قد عمل سابقًا سلاخًا في مسلخ المدينة.ذهب إلى المقاطعة الرابعة بالمسير، سأل عن أحد العونين، فأُخبر أنه في سد * البراج * بني يخلف.عانق العون الذي وجده، ثم باغته بجرح خفيف في الوريد... لم يشعر الرجل بشيء، بينما عبد الرحيم كان قد بدأ رحلته نحو الثاني. مرّ في طريقه على الرعاة، فسألوه مستغربين:
– إلى أين؟
أجاب دون تردد:
– ذاهب لأذبح عون السلطة الذي أخذ مني رزقي.
ضحكوا، حسبوه يمزح، لكنه واصل المسير.
عند السد * البراج *، وقف أمام العون الآخر، وقال له بثبات:
– صلِّ ركعتين قبل أن تموت، لأن مثلك لا يجب أن يعيش.
قهقه الرجل ساخرًا:
– ارحل قبل أن أزجّ بك في السجن!
ردّ عبد الرحيم، بصوت هادئ كأنه صلاة:
– جاء أجلك.
أسقطه أرضًا، وجهه نحو القبلة، وذبحه. ثم قام وصلّى عليه صلاة الجنازة، ونادى الرعاة ليشهدوا.
جاءت السلطات مسرعة: القائد، رئيس البلدية، الشرطة، الدرك. اعتقلوه، وبدأت التحقيقات.
حكمت المحكمة عليه بثلاثين سنة سجنًا نافذًا. لم يُكملها. بعد سنوات قليلة، أعلنوا أنه انتحر.
أما الحقيقة، فلا يعلمها إلا الله.
رحم الله عبد الرحيم .و السلام عليكم و رحمة الله