رحلة العيطة من نداء البادية إلى صوت الأجيال الحديثة
فن العيطة في المغرب: أصله، تاريخه، شيوخه، وتطوره حتى اليومالمقدمةفي أعماق التراث الشعبي المغربي، يبرز فن العيطة كجوهرة ثقافية تعكس روح الشعب المغربي وتاريخه العريق. العيطة ليست مجرد نوع موسيقي أو غنائي، بل هي صرخة الروح، نداء القلب، وتعبير عن الحياة اليومية، الفرح، الألم، والمقاومة. يعود أصل كلمة "العيطة" إلى الفعل "عيط" الذي يعني النداء أو الصرخة لجذب الانتباه أو الاستنجاد، كما يشير إليه الشاعر عبد الرحمن المجذوب في بيته الشهير: "عيطت عيطة حنينة فيقت من كان نايم / فاقوا قلوب المحنة ونعسو قلوب البهايم". هذا الفن القديم، الذي نشأ في رحم البادية والقبائل، يجسد تلاقح الثقافات العربية والأمازيغية، ويحمل في طياته قصصاً من العصور الغابرة، مروراً بالاستعمار، وصولاً إلى العصر الحديث.يُعتبر فن العيطة جزءاً أساسياً من الموسيقى الشعبية المغربية، وهو يعتمد على أشعار بالدارجة المغربية، مصحوبة بآلات موسيقية بسيطة مثل الكمان (الكمنجة)، الطعريجة، الدف (البندير)، والغنبري. يستقي مواضيعه من الحياة الاجتماعية، مثل العشق، الجمال، الطبيعة، الذم، والمتعة، وغالباً ما يحمل رسائل مرمزة تعبر عن المقاومة والصمود. في هذا المقال، سنستعرض أصل هذا الفن وتاريخه، الشيوخ الحقيقيين الذين ساهموا في تطويره مع ذكر أسمائهم، وكيف تدرج حتى يومنا هذا، محاولين الحفاظ على سرد عادي يجمع بين العمق التاريخي والجاذبية الثقافية. سنرى كيف تحولت العيطة من نداء بدوي في الخيم إلى فن معاصر يجمع بين الأصالة والحداثة، مع التركيز على أهميتها في حفظ الذاكرة الجماعية للمغاربة.العرضأصل فن العيطة وتاريخهيعود أصل فن العيطة إلى عصور سلاطين المغرب، حيث كان يُمارس في المناطق الفلاحية والبدوية كوسيلة للتعبير عن العواطف والأحداث الاجتماعية. وفقاً للباحثين، تبلور هذا الفن بشكل قوي نهاية القرن التاسع عشر، خاصة في السهول الوسطى للساحل الأطلسي، مثل مناطق الشاوية، دكالة، وعبدة. كان العيطة مرتبطاً بالقبائل، حيث كان يُستخدم لاستحضار السلف وتحريك همم الرجال في أوقات الشدائد. في تلك الفترة، كانت العيطة تعبر عن الحب الأول، الفراق، والألم، وتلهب شرارات العواطف في المجالس الريفية.مع دخول الاستعمار الفرنسي إلى المغرب في بداية القرن العشرين، اكتسب فن العيطة بعداً سياسياً ومقاومياً. أصبحت الأشعار تحمل معاني مرمزة لا يفهمها إلا أهل البلاد، مما جعلها شفرة سرية بين المقاومين. على سبيل المثال، كانت العيطة تستخدم لنقل رسائل عن المقاومة ضد المحتل، وتعزيز الروح الوطنية. يقول رائد الفن حجيب فرحان (حجيب الرباطي) إن تاريخ العيطة يمتد إلى القرن التاسع عشر، حيث نشأ في قبائل عبدة كفن يعكس الحياة اليومية والصمود. في عام 1944، خلال "عام البون" (سنة الجوع)، سجلت العيطة أحداثاً اقتصادية عصيبة، مما يجعلها شاهداً تاريخياً على معاناة الشعب.تاريخياً، ارتبطت العيطة بالطقوس الاجتماعية، مثل الحفلات في الدواوير. كانت الفرقة الغنائية تنزل في خيمة تُدعى "الڭيطون"، وتبدأ الليلة بعد مغيب الشمس بعزف على آلات مثل الكمان والناي. يبدأ الشيخ بالعزف، ثم ينادي المغني أو المغنية بصوت جهوري: "دير شي عيطة يا فلان". تستمر الليلة حتى الفجر، مع جمع المال في نهايتها عبر "التسيقير". هذه الطقوس تعكس بساطة الحياة البدوية وارتباط الفن بالمجتمع.أما أنواع العيطة، فهي تختلف حسب المناطق، مما يعكس التنوع الثقافي المغربي. هناك العيطة المرساوية في نواحي الدار البيضاء، والتي تتميز بإيقاعات سريعة تعبر عن الفرح. العيطة العبدية أو الحصباوية في منطقة عبدة، وهي أكثر عمقاً وارتباطاً بالقصص التاريخية. العيطة الحسانية في الجنوب، والجبلية في الجبال، والحوزية في منطقة الحوز، والزعرية التي تختم الليلة. هذه الأنواع تُصنف إلى ثلاثة أشكال رئيسية تقليدياً، لكن الأبحاث الحديثة تؤكد وجود أربعة فروع إضافية، مما يبرز تطور الفن جغرافياً.
شيوخ العيطة الحقيقيون وأسماؤهملا يمكن الحديث عن فن العيطة دون ذكر شيوخه الحقيقيين، الذين كانوا رواداً في حفظه وتطويره. هؤلاء الشيوخ، الرجال والنساء، ساهموا في نقل الفن عبر الأجيال، وغالباً ما كانوا يُلقبون بـ"الشيخ" أو "الشيخة" تكريماً لمهارتهم. من أبرز الرواد القدامى في العيطة العبدية: الشيخ البدري، الشيخ لبصير العبدي، الشيخ ولد الضو، الشيخ لمعاشي، الشيخ بن دحمان، والشيخ ميلود داهمو. هؤلاء كانوا يعزفون على آلات بسيطة مثل الطعريجة، ويغنون قصصاً عن القياد والحب.من الشيوخ البارزين في القرن العشرين: فاطنة بنت الحسين، التي كانت صوتاً بدوياً أصيلاً، وسجلت تسجيلات أولى في العيطة، مما ساعد في انتشارها. حجيب (حجيب فرحان)، الملقب بـ"حجيب الرباطي"، يُعتبر مؤرخاً للفن، وغنى عن المقاومة. بوشعيب البيضاوي، الذي توفي عام 1965، كان ملك العيطة بدون منازع، وكانت شيخات شهيرات يأتين في الدرجة الثانية بعده. عبد الله البيضاوي، جمال الزرهوني، وبوشعيب الجديدي كانوا يعزفون الكمنجة ببراعة.من الشيخات النساء: الحاجة الحمونية، خديجة البيضاوية، زينة الداودية، خديحة أمركوم، فاطمة الزحافة، فاطمة الكوباس، شامة الزاز، وحفيظة الحسناوية. هؤلاء النساء كن يتحدين المجتمع التقليدي، ويغنين عن الاستقلال والحب، مما جعل العيطة سلاحاً نسوياً ضد الجبروت. الشيخ أحمد ولد قدور كان رائداً في ابن أحمد، ومحمد العروسي وأحمد الكرفطي ساهما في تطوير الإيقاعات. في العصر الحديث، نجد عبد العزيز الستاتي، سعيد الصنهاجي، ولد الصوبا، وأولاد بنعكيدة، الذين يمزجون العيطة بالموسيقى المعاصرة. عبد الدايم العبدي، عاشق الطعريجة، يُعتبر من الرواد المعاصرين، حيث احترف منذ 1983.هؤلاء الشيوخ لم يكونوا مجرد مغنين، بل حفظة للتراث الشفوي، ينقلون القصص والأحداث التاريخية عبر أغانيهم، مثل قصص الشيخات مع القياد المتسلطين في القرن التاسع عشر.تدرج فن العيطة حتى يومنا هذاتدرج فن العيطة من الماضي إلى الحاضر يعكس تطور المجتمع المغربي نفسه. في الماضي، كان الفن شفوياً، مرتبطاً بالبادية والخيم، يُمارس في الحفلات الريفية دون تسجيلات. مع ظهور التسجيلات في القرن العشرين، مثل تلك التي سجلتها فاطنة بنت الحسين، انتشرت العيطة إلى المدن، وأصبحت جزءاً من الثقافة الوطنية. خلال فترة الاستعمار، تحولت إلى أداة مقاومة، ثم بعد الاستقلال، أصبحت رمزاً للهوية المغربية.في العصر الحديث، واجهت العيطة خطر الاندثار بسبب التغيرات الاجتماعية والتأثيرات الغربية، لكنها تطورت من خلال دمجها مع أنماط موسيقية جديدة. على سبيل المثال، مهرجان "عيطة بلادي"، الذي يُقام سنوياً، يجمع بين الأصالة والفيوجن، حيث يشارك نجوم مثل عبد العزيز الستاتي في إحياء الفن بإيقاعات حديثة. كما انتقلت العيطة إلى السينما والتلفزيون، كما في أفلام تروي تاريخها، وأصبحت جزءاً من البرامج الثقافية مثل تلك على قناة 2M.اليوم، يُحافظ على العيطة من خلال الأنطولوجيات والكتب، مثل "أنطولوجيا العيطة" التي توثق تلاقحها مع التقاليد الأمازيغية، وكتاب حسن نجمي "فن العيطة" الذي يعود إلى التراث لفهم تطورها. رغم التحديات، مثل إقصاء بعض الشيوخ من الدعم الرسمي، إلا أن الفن يستمر في التطور، مع ظهور فرق تجمع بين الآلات التقليدية والإلكترونية، مما يجعله جذاباً للجيل الشاب. في 2023، أقرت اليونسكو بعض جوانب التراث المغربي، ويُطالب بإدراج العيطة كتراث لا مادي.الخاتمةفن العيطة في المغرب ليس مجرد تراث موسيقي، بل هو ذاكرة حية للشعب، تجسد صموده وإبداعه عبر العصور. من أصله في البادية كنداء للاستنجاد، مروراً بتاريخه كسلاح مقاومة، إلى شيوخه الذين حفظوه مثل فاطنة بنت الحسين وحجيب، وتطوره إلى فن معاصر في المهرجانات والإعلام، يظل العيطة رمزاً للهوية المغربية. في عصرنا هذا، يجب الحفاظ عليه من خلال التوثيق والدعم، لأنه يربط الماضي بالحاضر ويضمن استمرار الثقافة. إن العيطة ليست فنًا فحسب، بل صوت الشعب الذي لا يخفت، نداء يتردد عبر الزمن ليذكرنا بجذورنا ومستقبلنا.
شيوخ العيطة الحقيقيون وأسماؤهملا يمكن الحديث عن فن العيطة دون ذكر شيوخه الحقيقيين، الذين كانوا رواداً في حفظه وتطويره. هؤلاء الشيوخ، الرجال والنساء، ساهموا في نقل الفن عبر الأجيال، وغالباً ما كانوا يُلقبون بـ"الشيخ" أو "الشيخة" تكريماً لمهارتهم. من أبرز الرواد القدامى في العيطة العبدية: الشيخ البدري، الشيخ لبصير العبدي، الشيخ ولد الضو، الشيخ لمعاشي، الشيخ بن دحمان، والشيخ ميلود داهمو. هؤلاء كانوا يعزفون على آلات بسيطة مثل الطعريجة، ويغنون قصصاً عن القياد والحب.من الشيوخ البارزين في القرن العشرين: فاطنة بنت الحسين، التي كانت صوتاً بدوياً أصيلاً، وسجلت تسجيلات أولى في العيطة، مما ساعد في انتشارها. حجيب (حجيب فرحان)، الملقب بـ"حجيب الرباطي"، يُعتبر مؤرخاً للفن، وغنى عن المقاومة. بوشعيب البيضاوي، الذي توفي عام 1965، كان ملك العيطة بدون منازع، وكانت شيخات شهيرات يأتين في الدرجة الثانية بعده. عبد الله البيضاوي، جمال الزرهوني، وبوشعيب الجديدي كانوا يعزفون الكمنجة ببراعة.من الشيخات النساء: الحاجة الحمونية، خديجة البيضاوية، زينة الداودية، خديحة أمركوم، فاطمة الزحافة، فاطمة الكوباس، شامة الزاز، وحفيظة الحسناوية. هؤلاء النساء كن يتحدين المجتمع التقليدي، ويغنين عن الاستقلال والحب، مما جعل العيطة سلاحاً نسوياً ضد الجبروت. الشيخ أحمد ولد قدور كان رائداً في ابن أحمد، ومحمد العروسي وأحمد الكرفطي ساهما في تطوير الإيقاعات. في العصر الحديث، نجد عبد العزيز الستاتي، سعيد الصنهاجي، ولد الصوبا، وأولاد بنعكيدة، الذين يمزجون العيطة بالموسيقى المعاصرة. عبد الدايم العبدي، عاشق الطعريجة، يُعتبر من الرواد المعاصرين، حيث احترف منذ 1983.هؤلاء الشيوخ لم يكونوا مجرد مغنين، بل حفظة للتراث الشفوي، ينقلون القصص والأحداث التاريخية عبر أغانيهم، مثل قصص الشيخات مع القياد المتسلطين في القرن التاسع عشر.تدرج فن العيطة حتى يومنا هذاتدرج فن العيطة من الماضي إلى الحاضر يعكس تطور المجتمع المغربي نفسه. في الماضي، كان الفن شفوياً، مرتبطاً بالبادية والخيم، يُمارس في الحفلات الريفية دون تسجيلات. مع ظهور التسجيلات في القرن العشرين، مثل تلك التي سجلتها فاطنة بنت الحسين، انتشرت العيطة إلى المدن، وأصبحت جزءاً من الثقافة الوطنية. خلال فترة الاستعمار، تحولت إلى أداة مقاومة، ثم بعد الاستقلال، أصبحت رمزاً للهوية المغربية.في العصر الحديث، واجهت العيطة خطر الاندثار بسبب التغيرات الاجتماعية والتأثيرات الغربية، لكنها تطورت من خلال دمجها مع أنماط موسيقية جديدة. على سبيل المثال، مهرجان "عيطة بلادي"، الذي يُقام سنوياً، يجمع بين الأصالة والفيوجن، حيث يشارك نجوم مثل عبد العزيز الستاتي في إحياء الفن بإيقاعات حديثة. كما انتقلت العيطة إلى السينما والتلفزيون، كما في أفلام تروي تاريخها، وأصبحت جزءاً من البرامج الثقافية مثل تلك على قناة 2M.اليوم، يُحافظ على العيطة من خلال الأنطولوجيات والكتب، مثل "أنطولوجيا العيطة" التي توثق تلاقحها مع التقاليد الأمازيغية، وكتاب حسن نجمي "فن العيطة" الذي يعود إلى التراث لفهم تطورها. رغم التحديات، مثل إقصاء بعض الشيوخ من الدعم الرسمي، إلا أن الفن يستمر في التطور، مع ظهور فرق تجمع بين الآلات التقليدية والإلكترونية، مما يجعله جذاباً للجيل الشاب. في 2023، أقرت اليونسكو بعض جوانب التراث المغربي، ويُطالب بإدراج العيطة كتراث لا مادي.الخاتمةفن العيطة في المغرب ليس مجرد تراث موسيقي، بل هو ذاكرة حية للشعب، تجسد صموده وإبداعه عبر العصور. من أصله في البادية كنداء للاستنجاد، مروراً بتاريخه كسلاح مقاومة، إلى شيوخه الذين حفظوه مثل فاطنة بنت الحسين وحجيب، وتطوره إلى فن معاصر في المهرجانات والإعلام، يظل العيطة رمزاً للهوية المغربية. في عصرنا هذا، يجب الحفاظ عليه من خلال التوثيق والدعم، لأنه يربط الماضي بالحاضر ويضمن استمرار الثقافة. إن العيطة ليست فنًا فحسب، بل صوت الشعب الذي لا يخفت، نداء يتردد عبر الزمن ليذكرنا بجذورنا ومستقبلنا.