احتجاجات جيل Z: الشرارة التي غيرت وجه الديربي الأمني
ديربي البيضاء: ساعة ونصف من التوتر المكبوت.. بين إرث الدماء، رعب الشغب، واستباق الدولة بعد "ثورة جيل Z"
في قلب الدار البيضاء النابضة، حيث يلتقي ملعب محمد الخامس بتاريخ طويل من الصراعات الرياضية والاجتماعية، تحولت مباراة الوداد والرجاء يوم الأربعاء 29 أكتوبر 2025 إلى اختبار حقيقي لصمود المدينة. هذا الديربي، الذي يُعد الـ139 في تاريخه، لم يكن مجرد لقاء كروي بين قطبي الكرة المغربية؛ بل كان مرآة تعكس التوترات الاجتماعية المتراكمة، خاصة بعد أشهر قليلة فقط من احتجاجات "جيل Z" التي هزت أركان المغرب في سبتمبر الماضي. انتهت المباراة بتعادل سلبي (0-0)، لكن الجو الذي سبقها وبعدها كان مشحوناً برعب يتجاوز الملعب، يذكر بالأحداث الدامية السابقة ويثير تساؤلات حول قدرة الدولة على احتواء غضب الجماهير. هل أحست السلطات أن "روحها" معلقة بين يدي هذه الجماهير الغاضبة، فأعدت لها جيشاً من الشرطة وملايين الدراهم مقابل ساعة ونصف زمن المباراة؟ في هذا المقال، نغوص في تفاصيل هذا الحدث، مستعرضين الاستعدادات الأمنية غير المسبوقة، مدى الرعب التاريخي الذي يحمله الديربي، والسياق الاجتماعي الذي يجعله أكثر خطراً من أي وقت مضى.جذور الديربي: تاريخ من الإثارة والدماء يغذي الرعبديربي البيضاء ليس حدثاً رياضياً عادياً؛ إنه سيروريا ثقافية واجتماعية تعكس انقسامات المدينة نفسها. يعود تاريخه إلى الثلاثينيات، عندما أُسِسَ ناديا الوداد (1917) والرجاء (1949)، ليصبحا رمزاً للمنافسة بين أحياء الدار البيضاء المختلفة: الوداد يمثل الطبقة الوسطى التقليدية والأحياء الشعبية مثل حي المحيط، بينما يُعَدُّ الرجاء صوت الأحياء الشعبية الأكثر فقراً مثل حي البرنوصي. على مر العقود، شهد الديربي إنجازات تاريخية، مثل فوز الوداد بكأس الاتحاد الأفريقي عام 2017، أو انتصارات الرجاء في دوري أبطال أفريقيا، لكنه دائماً ما انتهى بفوضى تتجاوز الملعب.من أبرز الأحداث الدامية في تاريخه، مباراة 2016، حيث تحول الملعب إلى ساحة حرب بعد صافرة النهاية. في ذلك اليوم، أدى الخلاف على قرار تحكيمي إلى اندلاع شغب عنيف، امتد إلى الشوارع المجاورة، حيث رُشِقَتْ الشرطة بالحجارة، وأُحْرِقَتْ سيارات، وأُصِيبَ عشرات الجماهير والأمن. وُصِفَتْ تلك الأحداث بأنها "معارك دموية" في وسائل الإعلام المغربية، مما دفع الاتحاد المغربي لكرة القدم إلى فرض عقوبات صارمة، بما في ذلك إغلاق المدرجات جزئياً. وفي 2022، تكرر السيناريو: بعد تعادل الفريقين، اندلعت أعمال شغب أسفرت عن إصابة أربعة شرطيين، وتخريب أربع سيارات خاصة، وتوقيف 46 شخصاً بينهم ستة قاصرين. السلطات أعلنت أن المشتبه بهم رَشَقُوا العناصر الأمنية بالحجارة، مما أثار حملة إعلامية عن "الفوضى الرياضية" التي تهدد صورة المغرب الدولية. أما في 2023، فقد شهد الديربي توتراً أقل، لكنه انتهى باعتقالات واسعة في الأحياء السكنية المجاورة، حيث عانى السكان "الأمرَّيْن" من الاعتداءات على المحلات والسيارات، مما جعل الديربي يُلَقَّبُ بـ"البركان السنوي".هذا الإرث التاريخي يغذي الرعب لدى الجميع: الجماهير تخشى الصدامات بين فصائل الفريقين، مثل "الغوريلا" للوداد و"الجيش الأخضر" للرجاء، بينما تخشى السلطات تحول الغضب الرياضي إلى احتجاج سياسي. في استطلاع رأي أجرته جريدة "هسبريس" قبل أيام من المباراة، أعرب 65% من الاستطلاعيين عن مخاوفهم من "عنف خارج الملعب"، مشيرين إلى أن الديربي أصبح "رمزاً للتوتر الاجتماعي" أكثر من كونه احتفالاً رياضياً. ومع ذلك، يظل الديربي مصدر فخر للمغاربة، حيث يجذب ملايين المشاهدين عبر الشاشات، ويُعَدُّ واحداً من أكثر الديربيات إثارة في العالم العربي، كما وصفته "الجزيرة نت" في تقاريرها السابقة.احتجاجات "جيل Z": الشرارة التي غيرت المشهد الاجتماعيما يجعل ديربي 2025 الأكثر رعباً هو توقيته الدرامي، بعد أقل من شهرين من احتجاجات "جيل Z" التي اندلعت في 27 سبتمبر 2025، وسرعان ما امتدت إلى مدن كبرى مثل الدار البيضاء، الرباط، مراكش، وطنجة. هذه الاحتجاجات، التي قادها شباب يتراوح عمرهم بين 18 و25 عاماً (المعروفين بـ"جيل Z")، لم تكن عفوية؛ بل كانت تتويجاً لسنوات من الإحباط المتراكم. الشرارة الأولى كانت وفاة ثماني نساء أثناء الولادة في مستشفى الحسن الثاني بأغادير في منتصف سبتمبر، بسبب نقص المعدات الطبية وتدهور الخدمات الصحية. هذه المأساة أشعلت غضباً عاماً، حيث خرج المتظاهرون مطالبين بإصلاحات جذرية: تحسين الرعاية الصحية، إصلاح نظام التعليم المتدهور، مكافحة البطالة التي تصل إلى 35% بين الشباب، ومحاربة الفساد الذي يستنزف ميزانية الدولة.وفقاً لتقارير "الجزيرة نت"، بدأت المظاهرات سلمية، لكنها سرعان ما تحولت إلى مواجهات عنيفة مع القوات الأمنية، مما أسفر عن قتلى واعتقالات جماعية. في الدار البيضاء وحدها، أُحِيلَ 24 موقوفاً إلى النيابة بعد شل حركة السير على الطريق السيار، بينما أشادت الأغلبية الحكومية بالأمن في "حسن الإنصات" للمطالب، لكن منظمات حقوقية مثل "هيومن رايتس ووتش" و"أمنستي إنترناشونال" وثَّقَتْ استخدام قوة مفرطة، بما في ذلك الغاز المسيل للدموع والاعتقالات التعسفية. الاحتجاجات لم تقتصر على الشوارع؛ انتشرت عبر وسائل التواصل الاجتماعي، حيث استخدم الشباب هاشتاغات مثل #جيل_Z_212 للتعبير عن إحباطهم من "تباين الأولويات"، حيث تُصْرَفُ ملايين على البنية التحتية الرياضية لكأس أمم أفريقيا 2025، بينما تفتقر المستشفيات إلى الأدوية الأساسية.التأثيرات كانت عميقة: أدت إلى إعادة طرح قضايا الشباب "المغيبين عن الشأن العام"، كما وصفتها "أورينت XXI"، ودفعت الحكومة إلى وعود بإصلاحات، لكن الشكوك تبقى. في سياق الديربي، أصبحت هذه الاحتجاجات شبحاً يلوح: الجماهير الشابة، التي ملأت الشوارع بالمطالب، قد تحول حماسها الرياضي إلى غضب سياسي، خاصة في مدينة مثل الدار البيضاء التي شهدت أعنف المواجهات. تحليل بصري لـ"CNN Arabic" أبرز كيف أن صور الاحتجاجات – الشباب يحملون لافتات "الصحة حق مشروع" – تشبه اليوم صور الجماهير في الملعب، مما يجعل الدولة تتخوف من "الانتفاضة الرياضية".الاستعدادات الأمنية: جيش الدولة يُسَخَّر لـ90 دقيقة.. هل هو رد فعل على الخوف؟أمام هذا السياق المتوتر، أعدت الدولة استعدادات أمنية غير مسبوقة، تعكس شعوراً عميقاً بأن "روحها بين يدي الجماهير". في اليوم السابق للمباراة، زار المدير العام للأمن الوطني، عبد اللطيف حموشي، المنطقة شخصياً، حيث قدم والي أمن الدار البيضاء عرضاً تفصيلياً عن "الموارد البشرية والإمكانيات المادية واللوجستيكية" المُسَخَّرَة. تشمل الخطة آلاف العناصر الأمنية، كاميرات مراقبة متقدمة، حواجز معدنية، ومركبات مدرعة، بالإضافة إلى بروتوكولات دقيقة لتنظيم تدفق الجماهير: فتح الأبواب قبل ساعتين، تقسيم المدرجات حسب الألوان (أحمر للوداد، أخضر للرجاء)، وحظر بيع التذاكر خارج الملعب لتجنب التزاحم. حموشي أكد في تصريحاته أن "اليقظة على أعلى مستوى"، مشدداً على تغطية شاملة لكل مراحل التنظيم، بما في ذلك تأمين الشوارع المحيطة والأحياء السكنية.الإنفاق المالي كان هائلاً: تقارير إعلامية تشير إلى صرف ملايين الدراهم على هذه الاستعدادات، تغطي ساعة ونصف زمن المباراة بالإضافة إلى ساعات التوتر قبلها وبعدها. هذا الإنفاق يأتي في وقت يعاني فيه المغرب من تحديات اقتصادية، حيث بلغ الدين العام 70% من الناتج المحلي الإجمالي، وفقاً لتقارير البنك الدولي. مقارنةً بأحداث سابقة، يُعَدُّ هذا التعزيز الأكبر؛ في 2022، كان التواجد أقل، مما سمح بالشغب، بينما اليوم رُبِطَتْ الاستعدادات بـ"تدريب عملي" لكأس أمم أفريقيا 2025، كما أوضحت "فاس نيوز". فيديو متداول على يوتيوب (منشور قبل المباراة) يظهر حجم التواجد: صفوف طويلة من الشرطيين المدرعين حول الملعب، سيارات الدوريات تملأ الشوارع، وطائرات بدون طيار تراقب السماء، مما يعكس جواً من "الحصار الأمني"، كما وصفته تغريدات على X.هل هذا الإنفاق رد فعل على احتجاجات جيل Z؟ بالتأكيد، فالدولة، التي رأت في الشباب تهديداً للنظام، تخشى الآن أن يتحول الملعب إلى ساحة جديدة للغضب. في تصريحات حموشي، أُشِيرَ إلى "تقييم الجاهزية الأمنية" كجزء من بروتوكولات أوسع، لكن الواقع يظهر حالة استنفار كاملة، مع تعزيزات بشرية هائلة لمنع أي "انتهاكات"، كما حدث في الاحتجاجات حيث أُحِيلَ عشرات إلى النيابة.يوم الديربي: تعادل هادئ، لكن التوتر الكامن يبقىانطلقت المباراة في جو مشحون، مع سيطرة الرجاء في الشوط الأول عبر محاولات صابر بوغرين، لكن الوداد دافع بقوة، مما أدى إلى التعادل السلبي. الملعب امتلأ بـ45 ألف متفرج، لكن الإجراءات الأمنية نجحت في الحد من الحوادث داخل الملعب، مع اعتقالات محدودة خارجاً. ومع ذلك، أفادت تقارير "إرم نيوز" بتوتر في الأحياء المجاورة، حيث حاولت مجموعات صغيرة إثارة شغب، لكن القوات الأمنية أخمدتها بسرعة. النتيجة رفعت الوداد إلى 11 نقطة (المركز الرابع)، والرجاء إلى 12 (الثالث)، لكن التركيز كان على السلامة أكثر من الكرة.التحليل: بين الاحتواء والإنفاق.. هل نجحت الدولة في استعادة السيطرة؟نجحت الاستعدادات في احتواء الرعب، لكن التكلفة عالية: ملايين على ساعة ونصف، في وقت يطالب فيه جيل Z بإنفاق أفضل على الصحة والتعليم. هذا يعكس استراتيجية الدولة في "القوة الاستباقية"، لكنها تثير تساؤلات حول الحوار مع الشباب. الديربي، كرمز اجتماعي، يظل قنبلة موقوتة؛ إذا لم تُعَالَجْ الإحباطات، قد يتحول الغضب الرياضي إلى ثورة حقيقية.في الختام، ديربي البيضاء 2025 كان اختباراً ناجحاً أمنياً، لكنه تذكير بأن الرعب الحقيقي ليس في الملعب، بل في الشوارع التي يملأها جيل Z. الدار البيضاء تنفس الصعداء، لكن الجرح الاجتماعي يبقى مفتوحاً، ينتظر الديربي القادم أو الاحتجاج التالي ليُفْجَرَ. هل ستستمر الدولة في الإنفاق على الشرطة، أم ستستمع أخيراً إلى صرخة الشباب؟ الإجابة ستحدد مصير "روح" المغرب.