الطاحونة المسكونة – حكاية من تطوان

المقام المدفون اسفل الطاحونة المسكونة 


السلام عليكم 

الطاحونة
في سفح جبل "بوهاشم"، على بعد فراسخ من مدينة تطوان، كانت توجد طاحونة مائية قديمة، تحيط بها أشجار الزيتون والخرّوب، تتوسطها ساقية كانت لا تنضب مياهها في فصل الشتاء.
كان الناس من الدواوير المجاورة يأتون إليها لطحن حبوبهم عند الحاج إدريس، رجل ستيني معروف بورعه وصدقه. كانت الطاحونة شغّالة لا تهدأ، ليلها كنهارها، وصوت رحاها يشبه همسات الأرواح في الأفق.
لكن ما لم يكن يُعرف، هو أن هذه الطاحونة بُنيت فوق أطلال مقام قديم، يُقال إنه مكان تعبد فيه الناس "الأرواح الجبلية"، وأن شيئًا ما لم يرحل عندما جاءت الحجارة والماء.
إشارات في الظلام
ذات مساء شتوي، بينما الحاج إدريس يُصلّي العشاء في الطاحونة، انطفأ المصباح الزيتي رغم أن الزيت كان ممتلئًا. سمع الحاج صوتًا كأن أحدهم يطحن القمح في غيابه. وعندما اقترب من الرحى، رآها تدور وحدها!
قال في نفسه: "ربما الساقية قوية الليلة"، لكن الساقية كانت جافة تمامًا من يومين، بعد انهيار طفيف في قناة المياه.
في الأيام التالية، بدأت الأمور تتعقّد:
حمار أحد الزبائن جُنّ فجأة، وركض نحو الجبل دون أن يُرى مرة أخرى.
امرأة من دوار قريب أغمي عليها بعدما قالت إنها رأت ظلًا أسود يعبر الساقية دون أن يبتل.
الحاج إدريس بدأ ينهض كل ليلة على صوت أنين يأتي من تحت الرحى، كما لو أن الأرض تشتكي.
ليلة التحدي
في ليلة من الليالي، اجتمع شباب القرية في مقهى صغير، حيث دارت حكايات حول الطاحونة. وقال أحدهم، وكان اسمه سعيد، بنبرة متحدية:
"أنا ما نخاف لا من جني ولا من شيطان. غدا نبيت فيها ونعرف آش كاين!"
ضحك البعض، وتخوّف آخرون، لكن التحدي مضى.
جاء سعيد إلى الطاحونة بعد العصر، ومعه فانوس، وسجادة، وكيس نوم. صلى المغرب والعشاء، ثم تمدد ليستمع إلى صمت الطاحونة.
لكن في منتصف الليل، استيقظ على صوت حوافر تمشي داخل الطاحونة. الفانوس انطفأ، والبرد تسلل إلى عظامه. سمع همسات بلغة لم يفهمها، ورأى ظل امرأة تمشي حافية، رأسها يلمس السقف، وعيناها لا طرف لهما.
حاول أن يصرخ، فلم يستطع. رجلاه تجمدتا، وصدره اختنق.
في الصباح، وُجد سعيد جالسًا في الزاوية، لا ينطق، وعيناه كأنهما خرجتا من عالم آخر. حاول الناس علاجه، أخذوه إلى فقيه، ثم إلى طبيب، ثم إلى مراكش… لكن لسانه بقي ساكتًا، وعيناه تائهتان في فراغ لا يراه سواه.
 أسرار القِدم
بعد حادثة سعيد، جاء رجل غريب إلى القرية. قال إنه "طالب علم الروحانيات"، وطلب زيارة الطاحونة. بقي فيها ساعات، ثم خرج شاحبًا، وقال للحاج إدريس:
"هاذ البلاصة مدفونة على طيف قديم… فيها دم وظُلم وغدر. هنا كانت جنازة لم تكتمل… وجثة ما دفناتش."
قال إن الأمر لا يتعلق بجنٍّ عادي، بل بـ"ساكن المكان"، جنّ لا يتجول، بل **يحرس شيئًا دُفن تحته ظلمًا… ربما ذهب، أو جريمة، أو عهد قديم نُقض".
 الرحيل
أقفل الحاج إدريس الطاحونة، وابتعد عنها إلى الأبد. لم يعد أحد يقترب منها، حتى الحيوانات تغير طريقها حولها.
ومع مرور السنوات، نمت نباتات غريبة حول الباب، وتكسرت الحجارة، ولكن عجيب الأمر أن الرحى، رغم ذلك، بقيت سليمة لا تصدأ.
ويقول الرعاة الذين يمرون بالقرب منها في الليالي القمرية إنهم يسمعون طحنًا خفيفًا، كأن الطاحونة لا تزال تشتغل... دون يدٍ ولا ساقية.
 النهاية... أو بدايتها؟
في تطوان، ما تزال القصة تُروى، والطاحونة القديمة صارت علامة بين الصغار:
"ما تمشيش قريب من الطاحونة بعد المغرب… راه سعيد ما رجعش بحالو، حتى رجع قلبه ساكت."
سرّ المقام المدفون
(الجزء الثاني من "الطاحونة المسكونة")
الطيف في الحلم
مرت سنوات طويلة على إغلاق الطاحونة. لم يعد أحد يذكرها إلا في الليالي الممطرة، حينما تتداخل أصوات الريح مع صرير الأغصان، فيظن الناس أن الرحى عادت تدور من تلقاء نفسها.
أما سعيد، فلم يعد كما كان. كان يعيش في عزلة داخل بيت أهله، لا يتكلم، لا يبتسم، لا يصرخ. فقط عيونه، تراقب شيئًا ما لا يراه سواه.
ذات ليلة، وبينما كانت أمه تهم بإطفاء الفانوس، سمعته يهمس، لأول مرة منذ سنين:
"ما دُفِنش... ما دُفِنش..."
ركضت الأم باكية إلى الفقيه، فأتى إليه، قرأ عليه آيات من القرآن، وسأله بحذر:
"من اللي ما دُفِنش، آ سعيد؟"
فتح سعيد عينيه، وقال:
"الرجل اللي قتلوا السيّد… في المقام المدفون تحت الرحى… راه باقي كاين."
 العهد المكسور
بدأت الأقاويل تنتشر. كبار السن بدأوا يستحضرون ما نسوه. قال أحدهم:
"كان جدّي يقول أن في زمن الحماية الفرنسية، وقع صراع بين رجل غني يُدعى السيّد الطاهر، وراعي بسيط اسمه عبد القادر. الطاهر أراد تحويل المقام القديم إلى طاحونة، وعبد القادر حاول منعه، لأنه كان يعرف أن المقام عليه عهد قديم."
ويُحكى أن الطاهر قتل عبد القادر في الليل، ودفنه تحت الرحى، ووضع فوق جثته أحجارًا ثقيلة.
ومنذ ذلك اليوم، لم يكتمل طحنٌ دون أن يختلط بالماء دمٌ.
البحث في الظل
فقيه القرية، واسمه مولاي الحسين، قرر أن يكشف الحقيقة. ذهب إلى الطاحونة مع أربعة رجال من ثقات الدوار. حملوا فؤوسًا ومعاول، وبمجرد أن بدأوا في رفع الحجارة من تحت الرحى، خرجت رائحة كأنها من عهد آخر، عفنة، كأن التراب رفض أن يستر ما تحته.
حفِروا... حتى وصلوا إلى رفات بشرية، وحولها بقايا ثوب رثّ، ومسبحة متآكلة، وجمجمة لا تزال تحتفظ بأثر ضربة على الجبهة.
قال مولاي الحسين:
"ها هو عبد القادر... مظلوم، تحت مقام انتُهك."
التحرير
أقيمت صلاة الغائب في ساحة المسجد. غُسلت الرفات، ودُفنت في مقبرة المسلمين، بآيات الرحمة والغفران.
ومنذ تلك الليلة، بدأ سعيد يسترجع وعيه تدريجيًا. في اليوم الأربعين، نطق جملة واحدة وهو ينظر إلى السماء:
"رجع الضوء للطاحونة..."
ولأول مرة منذ عقود، سُمع خرير الماء في الساقية القديمة. لا طنين، لا أنين، لا ظلال سوداء. فقط الطاحونة، صامتة، هادئة، كأنها أخيرًا... ارتاحت.
 مقام الرحى
فيما بعد، تحوّلت الطاحونة إلى مزار صغير، نصب عليه الأهالي لوحة كتبت عليها:
"هنا مقام عبد القادر… الرجل الذي حفظ العهد، ودُفن تحت الرحى... قبل أن يُحرر."
وقيل، إن من يزورها بنيّة صافية، يسمع عند غروب الشمس صوتًا خفيفًا يهمس: الحمد لله.
 النهاية
أو كما تقول جدّات تطوان:
"ما كاين دخان بلا نار، وما كاين رحى تدور بلا حق."
و السلام عليكم و رحمة الله


تعليقات