مافيا الغناترة: سيرة إجرامية من الفقر إلى السقوط الأمني
القصة كاملة .
في أعماق أحياء الجيزة الشعبية حيث يتداخل صخب السوق اليومي مع همسات الرعب الخفية كانت تتراءى بؤرة الغناترة كوحش يلتهم أرواح الشباب ويفترس أركان المجتمع. لم تكن هذه العائلة مجرد مجموعة من الأفراد المتمردين بل شبكة معقدة من الروابط الدموية والإجرامية امتدت جذورها في تربة الفقر والإهمال لتصبح إمبراطورية من المخدرات والاستيلاء على الأراضي. بدأت قصة مافيا الغناترة في مطلع عام ألفين وتسعة عشر حين وصلت رسالة استغاثة إلى الصحفي الجريء وائل موسى في الثاني من يناير تحديدا. كانت الرسالة مكتوبة بخط يرتجف من الخوف وصرخة يأس من مواطن يدعى أحمد الذي يعاني من أذى يومي يهدد حياته وحياة عائلته. روت الرسالة كيف احتلت عائلة الغناترة أرضه الزراعية في قرية كومبرة بمركز أوسيم بالقوة والترهيب مستخدمة أسلحة نارية لإجباره على التنازل عنها مقابل حفنة من المال الزائف. لم يكن هذا الحادث معزولا بل جزءا من نمط واسع يشمل الاتجار بالمخدرات الخطيرة مثل الهيروين والحشيش والترامادول مما جعل المناطق المحيطة بمراكز كرداسة وأوسيم والبراجيل تحت سيطرتهم الكاملة.
لم تكن العائلة تعتمد على محمد وحده بل كانت شبكة مترابطة تضم عشرات الأفراد من الإخوة والأبناء والأقارب. كان عرب الغناترة البالغ من العمر خمسة وثلاثين عاما الذراع اليمنى لمحمد ومسؤولا عن توزيع المخدرات في البراجيل. يُعرف عرب بذكائه الحاد ومهارته في التهرب من الشرطة حيث كان يستخدم سيارات مسروقة وطرق فرعية لنقل الشحنات من الصعيد إلى القاهرة الكبرى. روى اللواء وليد السيسي رئيس المباحث الجنائية بالجيزة في لقاءاته اللاحقة كيف كان عرب يجمع شحنات الحشيش في مستودعات سرية مخفية تحت الأرض في حقول البراجيل ثم يوزعها على تجار فرعيين في أحياء فيصل والدقي. كان يحمي عملياته بترسانة من الأسلحة النارية المهربة من ليبيا بما في ذلك مسدسات وأسلحة آلية صغيرة مما جعله يسيطر على الحياة الاجتماعية في المنطقة. أما النساء في العائلة فكن يلعبن دورا خفيا في غسيل الأموال من خلال محلات بقالة صغيرة وورش خياطة تستخدم لتدوير الأرباح الإجرامية.
لم تتوقف السلطات عند تلك الرسالة الاستغاثة بل أطلقت حملة مكثفة بقيادة اللواء وليد السيسي الذي كان يُعرف بين زملائه باسم الصياد الذي لا يفلت فريسته. كان السيسي ضابطا مخضرما في مكافحة المخدرات حيث قضى سنوات في الصعيد يتعقب تجار الهيروين قبل نقله إلى الجيزة. بدأ التحقيق في فبراير ألفين وتسعة عشر بتشكيل فريق خاص يضم ضباطا من المباحث الجنائية والإدارة العامة لمكافحة المخدرات. استخدم الفريق تقنيات مراقبة حديثة مثل الكاميرات المخفية والمخبرين السريين الذين تسللوا إلى دائرة الغناترة تحت ستار عملاء صغار. كشفت المعلومات الأولية عن شبكة تهريب واسعة تبدأ من محافظات الصعيد مثل قنا وأسوان حيث يتم شراء المواد الخام ثم تصنيعها في معامل الجيزة وتوزيعها في القاهرة والإسكندرية.
ذروة الحملة الأولى جاءت في مايو عام ألفين وعشرين وواحد حيث نفذت قوات الأمن عملية مفاجئة في أوسيم أسفرت عن القبض على محمد س نفسه. كانت الليلة حاسمة حيث حاصرت القوات الخاصة منزل الغناترة بعد معلومات دقيقة عن تحركاته. وصف السيسي اللحظة في مذكراته الشفوية قائلا إن الفريق تسلل عبر الحقول المظلمة تحت غطاء الظلام مستخدما كلابا مدربة للكشف عن المخدرات. اندلعت مواجهة قصيرة أسفرت عن إصابة اثنين من حراس العائلة واعتقال محمد بحوزته كيلوغرامين ونصف من الهيروين النقي إلى جانب ثلاثة مسدسات وذخيرة كثيفة. اعترف محمد أمام النيابة العامة بتورطه في تهريب المخدرات من الصعيد وتوزيعها في القاهرة الكبرى مما أدى إلى إغلاق ثلاث معامل سرية ومستودعات كانت تخدم عشرات الآلاف من المدمنين. كانت العملية نجاحا كبيرا حيث تم ضبط شحنات بقيمة ملايين الجنيهات واعتقال خمسة أفراد آخرين من العائلة.
لم تنتهِ القصة هنا إذ استمرت العائلة في المقاومة عبر أفراد آخرين مثل عرب الغناترة الذي تولى القيادة المؤقتة في البراجيل. روى اللواء السيسي تفاصيل ليلة القبض عليه في مقابلة تلفزيونية حيث استخدمت الشرطة تقنيات مراقبة متقدمة لتتبع تحركاته أثناء توزيع شحنة كبيرة من الحشيش. كان عرب يُعرف بذكائه في التهرب من الشرطة حيث كان يغير سياراته يوميا ويستخدم رموزا سرية في الاتصالات الهاتفية. في ليلة السابع عشر من يوليو ألفين وعشرين واثنين بدأت المطاردة بعد أن أبلغ مخبر سري عن صفقة كبيرة في البراجيل. طاردت القوات سيارة عرب المحملة بمئات الكيلوغرامات من الحشيش عبر طرق فرعية ضيقة استمرت ساعات أسفرت عن إيقاف السيارة بعد إطلاق نار تحذيري. اعترف عرب بأنه كان يدير شبكة فرعية تضم عشرين تاجرا وأنه يحصل على حماية من بعض العناصر المحلية مقابل رشاوى. أدى اعتقاله إلى تفكيك جزء كبير من الشبكة مما أعاد الأمان النسبي إلى أهالي البراجيل الذين كانوا يعيشون في خوف دائم من الابتزاز والعنف.مع مرور السنوات ازدادت تعقيدات الشبكة حيث حاول أفراد آخرون من العائلة مثل أخ محمد الأصغر يوسف الغناترة إعادة بناء الإمبراطورية في كرداسة. كان يوسف مهندسا سابقا في شركة بناء لكنه ترك عمله ليتفرغ لتجارة الترامادول الذي أصبح سلاحا خطيرا بين الشباب. في عام ألفين وعشرين وثلاثة شهدت كرداسة سلسلة من الحوادث الإجرامية حيث قتلت العائلة اثنين من المدمنين الذين حاولوا التمرد على دفع الرسوم الشهرية. أدى ذلك إلى حملة أمنية جديدة حيث اعتقل السيسي يوسف في عملية ليلية أخرى أسفرت عن ضبط معامل لتصنيع حبوب الترامادول المغشوشة. كانت هذه العملية تتضمن مداهمات لمنازل متعددة واعتقال ستة أشخاص إضافيين مما قلل من انتشار المخدرات في المدارس المحلية.
بلغت الذروة في أواخر عام ألفين وخمسة وعشرين حيث شهدت الجيزة أول عملية أمنية باستخدام الطائرات بدون طيار أو الدرون في تاريخ مصر. كانت المعلومات تشير إلى تجمع لعناصر من الغناترة في قرية كرداسة لتنفيذ صفقة كبيرة قيمتها ملايين الجنيهات. أقلعت الدرون من قاعدة أمنية قريبة في الصباح الباكر لتراقب المنطقة من الجو مما مكن القوات من تحديد المواقع بدقة فائقة دون إثارة الشبهة. استخدمت الدرون كاميرات حرارية وأجهزة استشعار لتتبع الحركة داخل المباني والحقول المجاورة. في الثالث والعشرين من سبتمبر اندلعت مواجهة عنيفة أسفرت عن إصابة اثنين من المجرمين وقتل آخر أثناء محاولة الفرار بإطلاق النار على القوات. تم القبض على خمسة أفراد إضافيين بحوزتهم أسلحة آلية ومخزون من الهيروين يقدر بمليوني جنيه. روى السيسي كيف ساعدت الدرون في تتبع هروب أحد الأعضاء داخل الحقول حيث كشفت عن موقعه الدقيق مما منع هروبه إلى الصعيد.في أكتوبر من العام نفسه أصدرت محكمة جنايات الجيزة أحكاما قاسية ضد أبرز المتهمين حيث حُكم على محمد س وعرب بالسجن المؤبد بتهمة الاتجار بالمخدرات والحيازة غير الشرعية للأسلحة بموجب قانون مكافحة المخدرات رقم 73 لسنة 1983 وتعديلاته. كانت النيابة العامة قد مستأنفت الحكم الأولي لضمان العدالة الكاملة مما أغلق صفحة طويلة من الإرهاب الإجرامي. أدت الأحكام إلى اعتقال ثلاثة عشر فردا آخرين بأحكام تتراوح بين عشر سنوات وخمسة عشر عاما. أصبحت قصة الغناترة عبرة للعائلات الأخرى ودليلا على فعالية التنسيق بين الصحافة والأجهزة الأمنية في مكافحة الجريمة المنظمة.
لم يقتصر تأثير هذه البؤرة على الإجرام المادي بل امتد إلى النسيج الاجتماعي للمنطقة. في البراجيل على سبيل المثال أدى انتشار المخدرات إلى تفكك عائلات عديدة حيث قتلت جرائم الإدمان عشرات الشباب وأدت إلى سرقة منازل واغتصابات. روت إحدى الضحايا في مقابلة مع وائل موسى قصتها المؤلمة حيث فقدت ابنها الوحيد للإدمان بعد أن غرر به أحد أفراد الغناترة مقابل حفنة من الحشيش. كانت هذه القصص تتكرر في أوسيم حيث أصبحت المدارس مهددا بالتجنيد الإجرامي وانتشرت حالات الاكتئاب والانتحار بين الشباب. ساهم السيسي في حملات توعية بعد اعتقالاته حيث أسس مراكز إعادة تأهيل في الجيزة تساعد المدمنين على العودة إلى الحياة الطبيعية من خلال برامج نفسية ومهنية.اليوم يعيش أهالي الجيزة في أمان نسبي بعد سنوات من الكوابيس لكن الذاكرة تحمل دروسا عميقة عن كيف يمكن للظلام أن ينمو في تربة الإهمال الاجتماعي والاقتصادي وكيف ينتصر النور بالإصرار والتكنولوجيا المتقدمة. هكذا انتهت إمبراطورية الغناترة ليس بسقوط زعيمها محمد بل بانهيار بنيتها بأكملها تاركة وراءها قصة تحذيرية للأجيال القادمة. كانت هذه السلسلة من الأحداث تذكيرا بأن الجريمة لا تُبنى في ليلة وضحاها بل تحتاج إلى جهود جماعية للقضاء عليها نهائيا. ومع ذلك يظل السؤال معلقا هل انتهت جذور الغناترة تماما أم أن بذورها لا تزال تنتظر فرصة جديدة في الظلال؟