مقدمة
في أعماق الذاكرة المغربية، حيث تتشابك خيوط الزمن مع نسيج الروح، تبرز لحظات الفجر كجواهر نادرة تضيء دروب الحنين. إنها تلك اللحظات التي كانت تبدأ مع أول شعاع يخترق ستائر النوافذ الخشبية العتيقة، وتنتهي مع أول همسة من الريح في أوراق الزيتون. في مدن المغرب القديمة، مثل فاس البالي أو سلا الهادئة، أو حتى في أحياء الدار البيضاء الشعبية، كانت الإذاعة الوطنية – ذلك الصندوق السحري الذي يجلس على الرفوف الخشبية – تفتح أبوابها لعالم لا يُقاس بمقاييس الزمن. هناك، مباشرة بعد صلاة الفجر، كان ينساب صوت عبد الرحمن بن موسى، القارئ الذي يُلقب بـ"مقرئ المغرب الأول"، يليه تفسير الشيخ محمد المكي الناصري، العلامة الذي جعل القرآن ينبض في عروق الحياة اليومية. رحمهما الله، فقد كانا جسراً بين الماضي والحاضر، بين الفراش الدافئ والسماء العالية، بين غفوة الفجر واليقظة الروحية.أتذكر، يا قارئي العزيز، تلك الأيام التي كانت الليالي فيها طويلة، والأحلام تتسلل إلى الواقع كأنها أشباح لطيفة. كنت أستيقظ على صوت الأذان الذي يتردد من مآذن المسجد القريب، صوت المؤذن الذي يحمل لمسة من اللهجة المغربية الدافئة، مختلطة بإيقاع الريح في الشوارع الضيقة. الصلاة كانت سريعة، ودعاءًا قصيراً، ثم العودة إلى الفراش، حيث يغمر الجسم الدفء الناعم للبطانية الصوفية، والرأس يغوص في وسادة محشوة بالقطن أو الريش. الجسم يثقل بالنعاس، العينان تتثاقلان، والعقل يبدأ في الغرق في بحر من الصور المتدفقة وفجأة، كأنما يأتي النداء السماوي من داخل الغرفة نفسها، ينطلق صوت الإذاعة، ذلك الصوت الذي كان يُشغل تلقائياً مع انتهاء الأذان، كأنه جزء من الطقس اليومي.
عرض
كان صوت عبد الرحمن بن موسى يدخل الغرفة كالنسيم الصباحي، هادئاً أولاً، ثم يتسارع تدريجياً، يحمل معه أمواجاً من الخشوع. عبد الرحمن بن أحمد بن محمد بن البشير بنموسى الهمساسي الحسناوي السلاوي، ولد في مدينة سلا سنة 1908م، في قلب المغرب الأقصى، حيث كانت المدينة تتنفس تاريخاً إسلامياً عريقاً. نشأ في بيت علم، تلقى تعليمه على يد كبار العلماء المغاربة، وأصبح من أعمدة التجويد على الطريقة المغربية، برواية ورش عن نافع. صوته لم يكن مجرد قراءة؛ كان لحناً يجسد التراث، يمزج بين الإيقاع الشرقي واللكنة المغربية الخفيفة، لمدة نصف قرن، ارتبط اسمه بالإذاعة الوطنية المغربية، حيث كان يقرأ القرآن يومياً، يمتع أسماع الملايين من المغاربة، من الريف إلى الصحراء. توفي رحمه الله سنة 1997م، تاركاً وراءه مكتبة صوتية هائلة، سُجلت في أكثر من ثلاثين مجلداً، تغطي المصحف كاملاً بتلاوة مرتلة هادئة، تجعل المستمع يشعر أنه يسمع الكلمات الإلهية لأول مرة.في تلك اللحظة الدقيقة، وأنت غارق في نومك الخفيف، يبدأ الصوت: "بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَٰنِ الرَّحِيمِ". يأتي الصوت من الراديو القديم، ذلك الجهاز ذو الخشب اللامع والزر الدوار الذي يُشغل ببطارية أو كهرباء خافتة، يتسلل عبر الجدران الطينية إلى أذنيك المغلقتين جزئياً. أول ما تشعر به هو الدفء الذي ينتشر في الصدر، كأنما يلامس الصوت الجلد مباشرة. العينان لا تفتحان بعد، لكن الجسم يستجيب: التنفس يبطئ، والقلب ينبض بإيقاع هادئ، يتزامن مع المدود الطويلة في التلاوة. إذا كانت السورة يس، على سبيل المثال، تبدأ بـ"يَسٓ"، فإن ذلك الحرف يتردد في الغرفة كصدى من كهوف أطلس، يوقظ فيك ذكريات الطفولة، عندما كان جدك يقرأها حول المدفأة في ليالي الشتاء. الصوت يرتفع تدريجياً، يحمل الآيات كأنها أنغام من عود قديم: "وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ * إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ". هنا، في غمرة النعاس، يبدأ التحول: الفراش لم يعد مجرد قماش، بل أصبح سفينة تطفو على بحر من الضوء. تحت قمر الفجر، لا تشعر بالغفوة؛ بل على العكس، تشعر أنك مستيقظ تماماً، لكن في بعد آخر. الجسم يرتخي، اليد تلامس الوسادة بلطف، والعقل يتجول في الجنة الموعودة، يرى الأنهار تجري من تحت القصور، ويسمع أصوات الملائكة تردد الآيات نفسها.
ثم، بعد انتهاء التلاوة، يأتي الشيخ المكي الناصري، كالضيف الذي يُكمل الوليمة الروحية. محمد المكي الناصري، العلامة الجليل من أهل المعرفة والورع، كان عالماً مغربياً بارزاً في القرن العشرين، اشتهر بسلسلة تفسيره "التيسير في أحاديث التفسير"، التي بُثت عبر الإذاعة والتلفزيون المغربيين، ربع حزب في كل حلقة، ليبرز خصوصية المدرسة المغربية في التفسير. اعتمد في تفسيره على كبار المفسرين، مثل ابن العربي المعافري في "أحكام القرآن"، وابن كثير في تفسيره العظيم، والزمخشري في "الكشاف"، لكنه أضاف لمسته الخاصة: البساطة المغربية، الربط بالحياة اليومية، والاستشهاد بالشعر العربي والحكم الشعبية. كان الشيخ المكي يجلس في الاستوديو، بعمامته البيضاء وثوبه الأبيض الناصع، عيناه تلمعان بحكمة تجاوزت عقوداً من الدراسة في القرويين أو زوايا الريف. صوته كان عميقاً، هادئاً، يشبه صوت الجد الحكيم الذي يروي القصص حول الشاي بالنعناع.في تلك اللحظة، وأنت لا تزال غارقاً في ذلك العالم الساحر الذي بناه صوت عبد الرحمن، يبدأ الشيخ: "أيها الإخوة، انظروا إلى قول الله تعالى في سورة يس: 'وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَىٰ قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ'". يفسر الشيخ ببساطة، يربط الآية بقصة من سيرة النبي صلى الله عليه وسلم، ثم ينتقل إلى مثال من الحياة المغربية: "كالتاجر في سوق الجمعة بفاس، الذي يبيع الجواهر مقابل حفنة من التراب، فكذلك الإنسان الذي يشتري الدنيا بثمن بخس، ويترك الآخرة". هنا، في غمرة الغفوة، يصبح التفسير جزءاً من الحلم: ترى نفسك ذلك التاجر، تسمع صوت الشيخ يهمس في أذنك، يوقظ فيك شعوراً بالندم اللطيف، ثم بالأمل. الصوت يتدفق كالنهر، يحمل معه أمثلة من الشعر: يقتبس بيتاً من المتنبي، أو حكمة من ابن زيدون، ثم يعود إلى الآية، يشرح المعاني اللغوية بطريقة تجعل القرآن قريباً كالخبز الطازج في الصباح. لا تشعر بمرور الوقت؛ الدقائق تذوب، والساعة تتوقف. الجسم يغفو أكثر، لكن الروح تستيقظ، تنتقل من الفراش إلى مساجد القاهرة أو مكة، ترى الشيخ كأنه يجلس بجانبك، يمسح على رأسك ويقول: "يا ولدي، القرآن رفيقك في الطريق".تلك الجلسات لم تكن مجرد برامج إذاعية؛ كانت طقساً يومياً يجمع المغاربة في دائرة واحدة من الإخلاص. في الريف، كان الفلاح يستمع وهو يرتشف الشاي، في المدن، كان التاجر يفتح دكانه مع الصوت، وفي البيوت، كانت الأمهات يوقظن الأطفال بلطف ليستمعوا. عبد الرحمن بن موسى كان معلماً للأجيال، فقد درّس التجويد لتلاميذ كثر، منهم ولي العهد الحسن الثاني نفسه، الذي تعلم على يديه فنون القراءة. أما الشيخ المكي، فقد كان يُبرز في تفسيره الجانب العملي: كيف يطبق المسلم المغربي الآيات في سوق العمل، أو في تربية الأبناء، أو في مواجهة الفتن الاجتماعية. في إحدى الحلقات، على سبيل المثال، عند تفسير آية من سورة الكهف عن ذي القرنين، قال: "انظروا إلى الجبال في أطلس، كيف بناها الله سداً ضد الفوضى، فكذلك يجب على الحاكم أن يبني سداً من العدل ضد الظلم". كانت كلماته تلامس الجراح الاجتماعية، تجعل الاستماع ليس مجرد عبادة، بل علاجاً للنفس.أتذكر ذات صباح شتوي بارد في الدار البيضاء، حيث كانت الرياح تهب من المحيط، والمطر يطرق النوافذ كأصابع خفيفة. كنت طفلاً، ربما في العاشرة، مستلقياً في الفراش مع إخوتي، الغرفة مليئة برائحة الخبز المحمص والشاي. بدأ الصوت: عبد الرحمن يقرأ سورة الرحمن، "الرَّحْمَٰنُ * عَلَّمَ الْقُرْآنَ * خَلَقَ الْإِنْسَانَ * عَلَّمَهُ الْبَيَانَ". كل "فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ" كانت تتردد كإيقاع طبلة في الصدر، تنقلني إلى جنة خضراء، حيث تتفتح الزهور مع كل آية. ثم الشيخ: يفسر السورة بقصص من حياة الصحابة، يربطها بأمثال مغربية عن الشكر لله في الزرع والحصاد. غفوت دون أن أشعر، لكن عندما استيقظت، كنت أشعر أنني قد سافرت آلاف الأميال، محملًا بذخيرة من الإيمان. تلك اللحظات كانت تبني في النفس جسرًا إلى الماضي، حيث كان الإسلام يُعاش في كل تفصيل: في الطريق إلى المدرسة، تسمع الآية في ذهنك، أو في السوق، تذكر التفسير عند التفاوض.
خاتمة
اليوم، في زحمة العصر الرقمي، حيث أصبح القرآن يُقرأ على الهواتف الذكية ويُفسر في فيديوهات قصيرة على اليوتيوب، يعصف بنا الحنين إلى ذلك الزمن. حنين إلى الراديو الذي كان يجمع العائلة حول صوته، إلى الغفوة الساحرة التي كانت تتحول إلى يقظة روحية، إلى الأصوات التي كانت تنقلنا من الفراش الدافئ إلى عالم لا يعرف التعب أو الملل. عبد الرحمن بن موسى والشيخ المكي الناصري، رحمهما الله، لم يكونا مجرد قراء ومفسرين؛ كانا حارسي التراث، يحملان في صوتهما نبض المغرب الأصيل. في سلسلة البرامج التلفزيونية "قراءة عبد الرحمان بن موسى وتفسير محمد المكي الناصري"، التي سُجلت في جودة عالية ولا تزال تُبث، نجد شهادة حية على ذلك الإرث. كل حلقة، من الحزب الأول إلى الثلاثين، تبدأ بتلاوة هادئة تليها تفسير يجعل الآيات حية، كأنها تُنزل اليوم.في موقع "ذاكرة مغربية"، نعيد إحياء هذه اللحظات، ليس كذكريات ميتة، بل كنبع يروي الظمأ. يا فجرًا، عُدْ إلينا بصوتك الذي يوقظ القلوب، يا ماضيًا، احضرْ لنا تفسيرك الذي يضيء الدرب. ففي حنيننا إليكما، نجد طريقنا إلى السماء، وفي ذكراكما، نبقى أحياء. رحمهما الله، وأسكنهما فسيح جناته، وجعلنا من أهل القرآن الذين هم أهل الله وخاصته.
عرض
كان صوت عبد الرحمن بن موسى يدخل الغرفة كالنسيم الصباحي، هادئاً أولاً، ثم يتسارع تدريجياً، يحمل معه أمواجاً من الخشوع. عبد الرحمن بن أحمد بن محمد بن البشير بنموسى الهمساسي الحسناوي السلاوي، ولد في مدينة سلا سنة 1908م، في قلب المغرب الأقصى، حيث كانت المدينة تتنفس تاريخاً إسلامياً عريقاً. نشأ في بيت علم، تلقى تعليمه على يد كبار العلماء المغاربة، وأصبح من أعمدة التجويد على الطريقة المغربية، برواية ورش عن نافع. صوته لم يكن مجرد قراءة؛ كان لحناً يجسد التراث، يمزج بين الإيقاع الشرقي واللكنة المغربية الخفيفة، لمدة نصف قرن، ارتبط اسمه بالإذاعة الوطنية المغربية، حيث كان يقرأ القرآن يومياً، يمتع أسماع الملايين من المغاربة، من الريف إلى الصحراء. توفي رحمه الله سنة 1997م، تاركاً وراءه مكتبة صوتية هائلة، سُجلت في أكثر من ثلاثين مجلداً، تغطي المصحف كاملاً بتلاوة مرتلة هادئة، تجعل المستمع يشعر أنه يسمع الكلمات الإلهية لأول مرة.في تلك اللحظة الدقيقة، وأنت غارق في نومك الخفيف، يبدأ الصوت: "بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَٰنِ الرَّحِيمِ". يأتي الصوت من الراديو القديم، ذلك الجهاز ذو الخشب اللامع والزر الدوار الذي يُشغل ببطارية أو كهرباء خافتة، يتسلل عبر الجدران الطينية إلى أذنيك المغلقتين جزئياً. أول ما تشعر به هو الدفء الذي ينتشر في الصدر، كأنما يلامس الصوت الجلد مباشرة. العينان لا تفتحان بعد، لكن الجسم يستجيب: التنفس يبطئ، والقلب ينبض بإيقاع هادئ، يتزامن مع المدود الطويلة في التلاوة. إذا كانت السورة يس، على سبيل المثال، تبدأ بـ"يَسٓ"، فإن ذلك الحرف يتردد في الغرفة كصدى من كهوف أطلس، يوقظ فيك ذكريات الطفولة، عندما كان جدك يقرأها حول المدفأة في ليالي الشتاء. الصوت يرتفع تدريجياً، يحمل الآيات كأنها أنغام من عود قديم: "وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ * إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ". هنا، في غمرة النعاس، يبدأ التحول: الفراش لم يعد مجرد قماش، بل أصبح سفينة تطفو على بحر من الضوء. تحت قمر الفجر، لا تشعر بالغفوة؛ بل على العكس، تشعر أنك مستيقظ تماماً، لكن في بعد آخر. الجسم يرتخي، اليد تلامس الوسادة بلطف، والعقل يتجول في الجنة الموعودة، يرى الأنهار تجري من تحت القصور، ويسمع أصوات الملائكة تردد الآيات نفسها.
ثم، بعد انتهاء التلاوة، يأتي الشيخ المكي الناصري، كالضيف الذي يُكمل الوليمة الروحية. محمد المكي الناصري، العلامة الجليل من أهل المعرفة والورع، كان عالماً مغربياً بارزاً في القرن العشرين، اشتهر بسلسلة تفسيره "التيسير في أحاديث التفسير"، التي بُثت عبر الإذاعة والتلفزيون المغربيين، ربع حزب في كل حلقة، ليبرز خصوصية المدرسة المغربية في التفسير. اعتمد في تفسيره على كبار المفسرين، مثل ابن العربي المعافري في "أحكام القرآن"، وابن كثير في تفسيره العظيم، والزمخشري في "الكشاف"، لكنه أضاف لمسته الخاصة: البساطة المغربية، الربط بالحياة اليومية، والاستشهاد بالشعر العربي والحكم الشعبية. كان الشيخ المكي يجلس في الاستوديو، بعمامته البيضاء وثوبه الأبيض الناصع، عيناه تلمعان بحكمة تجاوزت عقوداً من الدراسة في القرويين أو زوايا الريف. صوته كان عميقاً، هادئاً، يشبه صوت الجد الحكيم الذي يروي القصص حول الشاي بالنعناع.في تلك اللحظة، وأنت لا تزال غارقاً في ذلك العالم الساحر الذي بناه صوت عبد الرحمن، يبدأ الشيخ: "أيها الإخوة، انظروا إلى قول الله تعالى في سورة يس: 'وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَىٰ قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ'". يفسر الشيخ ببساطة، يربط الآية بقصة من سيرة النبي صلى الله عليه وسلم، ثم ينتقل إلى مثال من الحياة المغربية: "كالتاجر في سوق الجمعة بفاس، الذي يبيع الجواهر مقابل حفنة من التراب، فكذلك الإنسان الذي يشتري الدنيا بثمن بخس، ويترك الآخرة". هنا، في غمرة الغفوة، يصبح التفسير جزءاً من الحلم: ترى نفسك ذلك التاجر، تسمع صوت الشيخ يهمس في أذنك، يوقظ فيك شعوراً بالندم اللطيف، ثم بالأمل. الصوت يتدفق كالنهر، يحمل معه أمثلة من الشعر: يقتبس بيتاً من المتنبي، أو حكمة من ابن زيدون، ثم يعود إلى الآية، يشرح المعاني اللغوية بطريقة تجعل القرآن قريباً كالخبز الطازج في الصباح. لا تشعر بمرور الوقت؛ الدقائق تذوب، والساعة تتوقف. الجسم يغفو أكثر، لكن الروح تستيقظ، تنتقل من الفراش إلى مساجد القاهرة أو مكة، ترى الشيخ كأنه يجلس بجانبك، يمسح على رأسك ويقول: "يا ولدي، القرآن رفيقك في الطريق".تلك الجلسات لم تكن مجرد برامج إذاعية؛ كانت طقساً يومياً يجمع المغاربة في دائرة واحدة من الإخلاص. في الريف، كان الفلاح يستمع وهو يرتشف الشاي، في المدن، كان التاجر يفتح دكانه مع الصوت، وفي البيوت، كانت الأمهات يوقظن الأطفال بلطف ليستمعوا. عبد الرحمن بن موسى كان معلماً للأجيال، فقد درّس التجويد لتلاميذ كثر، منهم ولي العهد الحسن الثاني نفسه، الذي تعلم على يديه فنون القراءة. أما الشيخ المكي، فقد كان يُبرز في تفسيره الجانب العملي: كيف يطبق المسلم المغربي الآيات في سوق العمل، أو في تربية الأبناء، أو في مواجهة الفتن الاجتماعية. في إحدى الحلقات، على سبيل المثال، عند تفسير آية من سورة الكهف عن ذي القرنين، قال: "انظروا إلى الجبال في أطلس، كيف بناها الله سداً ضد الفوضى، فكذلك يجب على الحاكم أن يبني سداً من العدل ضد الظلم". كانت كلماته تلامس الجراح الاجتماعية، تجعل الاستماع ليس مجرد عبادة، بل علاجاً للنفس.أتذكر ذات صباح شتوي بارد في الدار البيضاء، حيث كانت الرياح تهب من المحيط، والمطر يطرق النوافذ كأصابع خفيفة. كنت طفلاً، ربما في العاشرة، مستلقياً في الفراش مع إخوتي، الغرفة مليئة برائحة الخبز المحمص والشاي. بدأ الصوت: عبد الرحمن يقرأ سورة الرحمن، "الرَّحْمَٰنُ * عَلَّمَ الْقُرْآنَ * خَلَقَ الْإِنْسَانَ * عَلَّمَهُ الْبَيَانَ". كل "فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ" كانت تتردد كإيقاع طبلة في الصدر، تنقلني إلى جنة خضراء، حيث تتفتح الزهور مع كل آية. ثم الشيخ: يفسر السورة بقصص من حياة الصحابة، يربطها بأمثال مغربية عن الشكر لله في الزرع والحصاد. غفوت دون أن أشعر، لكن عندما استيقظت، كنت أشعر أنني قد سافرت آلاف الأميال، محملًا بذخيرة من الإيمان. تلك اللحظات كانت تبني في النفس جسرًا إلى الماضي، حيث كان الإسلام يُعاش في كل تفصيل: في الطريق إلى المدرسة، تسمع الآية في ذهنك، أو في السوق، تذكر التفسير عند التفاوض.
خاتمة
اليوم، في زحمة العصر الرقمي، حيث أصبح القرآن يُقرأ على الهواتف الذكية ويُفسر في فيديوهات قصيرة على اليوتيوب، يعصف بنا الحنين إلى ذلك الزمن. حنين إلى الراديو الذي كان يجمع العائلة حول صوته، إلى الغفوة الساحرة التي كانت تتحول إلى يقظة روحية، إلى الأصوات التي كانت تنقلنا من الفراش الدافئ إلى عالم لا يعرف التعب أو الملل. عبد الرحمن بن موسى والشيخ المكي الناصري، رحمهما الله، لم يكونا مجرد قراء ومفسرين؛ كانا حارسي التراث، يحملان في صوتهما نبض المغرب الأصيل. في سلسلة البرامج التلفزيونية "قراءة عبد الرحمان بن موسى وتفسير محمد المكي الناصري"، التي سُجلت في جودة عالية ولا تزال تُبث، نجد شهادة حية على ذلك الإرث. كل حلقة، من الحزب الأول إلى الثلاثين، تبدأ بتلاوة هادئة تليها تفسير يجعل الآيات حية، كأنها تُنزل اليوم.في موقع "ذاكرة مغربية"، نعيد إحياء هذه اللحظات، ليس كذكريات ميتة، بل كنبع يروي الظمأ. يا فجرًا، عُدْ إلينا بصوتك الذي يوقظ القلوب، يا ماضيًا، احضرْ لنا تفسيرك الذي يضيء الدرب. ففي حنيننا إليكما، نجد طريقنا إلى السماء، وفي ذكراكما، نبقى أحياء. رحمهما الله، وأسكنهما فسيح جناته، وجعلنا من أهل القرآن الذين هم أهل الله وخاصته.