أسباب وتداعيات الفساد في صفوف الدرك الملكي: دراسة تحليلية

فساد الدرك الملكي: كيف يُهدد الرشوة والتهريب أمن المغرب؟

المقدمةيُعد الدرك الملكي في المغرب أحد أبرز الأجهزة الأمنية، إذ يتولى مسؤوليات واسعة تشمل حماية الطرق الوطنية، مكافحة الجريمة المنظمة، والحفاظ على الأمن العام في المناطق الريفية والحدودية. تأسس هذا الجهاز في عهد الاستعمار الفرنسي عام 1921، ثم أصبح جزءًا أصيلاً من الهيكل الأمني المغربي بعد الاستقلال، تابعًا مباشرة للقيادة العليا للقوات المسلحة الملكية. يضم آلاف العناصر المدربين، ويغطي أكثر من 80% من الأراضي المغربية، مما يجعله عمودًا فقريًا للأمن الداخلي. ومع ذلك، فقد أصبح هذا الجهاز في السنوات الأخيرة محورًا لاتهامات متزايدة بالفساد، الذي يشمل الرشوة، الابتزاز، التورط في التهريب، وغسيل الأموال. هذه الظاهرة ليست مجرد مخالفات فردية، بل نظامًا يُهدد مصداقية الدولة وثقة المواطنين في مؤسساتها. في هذا المقال، سنتناول تفاصيل هذا الفساد، أسبابه، أمثلته، وتداعياته، مستندين إلى تقارير رسمية وشهادات عامة، مع التركيز على الحقائق الموثقة لنكشف عن عمق المشكلة.أسباب انتشار الفساد في صفوف الدرك الملكييُعزى انتشار الفساد في الدرك الملكي إلى عدة عوامل هيكلية واجتماعية. أولاً، الضعف في آليات الرقابة الداخلية والخارجية يُعد السبب الرئيسي. على الرغم من وجود لجان رقابية داخلية، إلا أنها غالبًا ما تكون شكلية، ولا تُطبق عقوبات صارمة على المرتكبين، مما يُشجع على الإفلات من العقاب. كما أن الرواتب المتواضعة للعناصر الدركيين، مقارنة بمغريات الرشوة في المناطق الحدودية الغنية بالتهريب، تُدفع البعض إلى اللجوء إلى الممارسات غير الأخلاقية. في تقرير صادر عن منظمات حقوقية دولية، يُشار إلى أن الفساد في الأجهزة الأمنية المغربية، بما في ذلك الدرك، يرتبط ارتباطًا وثيقًا بضعف الشفافية في عمليات التوظيف والترقية، حيث تُفضل المحسوبية على الكفاءة.ثانيًا، السياق الجغرافي يلعب دورًا حاسمًا. الدرك الملكي مسؤول عن مراقبة الحدود الجنوبية الشاسعة، خاصة في المناطق مثل الطرفاية والداخلة، حيث ينتشر تهريب المخدرات والسلع الممنوعة. هذه المناطق تشهد تدفقًا هائلًا من الشحنات غير الشرعية، ويُقال إن بعض العناصر الدركية تشارك في تسهيل مرورها مقابل مكاسب مالية. على سبيل المثال، في فيديو متداول على وسائل التواصل الاجتماعي، يُظهر ملفات فساد في الطرفاية تورط جنرالات درك في جمع ثروات من عصابات المخدرات. كما أن الابتزاز يُمارس كأداة شائعة، حيث يُجبر التجار والسائقون على دفع مبالغ لتجنب الغرامات أو الاعتقالات.ثالثًا، الضغوط السياسية والاقتصادية تُفاقم الوضع. في ظل التحديات الاقتصادية التي يواجهها المغرب، مثل ارتفاع التضخم والبطالة، يجد بعض الدركيين في الفساد مصدر دخل إضافي. وفقًا لمنشورات على منصة إكس (تويتر سابقًا)، يُشكو المواطنون من "فساد مستشرٍ" في الطرق الوطنية، حيث يتلقى الدركيون رشاوى مقابل تجاهل مخالفات السير، مما يساهم في حوادث الطرق المأساوية. هذه الأسباب مجتمعة تخلق بيئة خصبة لنمو الفساد، تحول الجهاز من حامٍ للقانون إلى جزء من المشكلة.أبرز حالات الفساد الموثقةشهدت السنوات الأخيرة عدة فضائح كبرى كشفت عن عمق الفساد داخل الدرك الملكي. في أكتوبر 2024، أثارت تحقيقات قضائية صدمة عامة عندما أُدخل إلى السجن كولونيلات درك ورؤساء مراكز وعمداء أمن، مع مصادرة أموالهم وعقاراتهم في ملف فساد يشمل غسيل الأموال وفق اتفاقية فيينا الدولية. هذه القضية، التي شملت 24 عنصرًا دركيًا، تُعد من أكبر الفضائح، حيث أظهرت كيف يُستخدم الجهاز الأمني لتمويل شبكات إجرامية. وفي فبراير 2025، حُكم على دركيين في كتيبة للا ميمونة بعشرة أشهر سجنًا بتهمة الفساد والابتزاز مع تاجر مخدرات، مما يُبرز الارتباط الوثيق بين الدرك والتهريب.من الحالات البارزة أيضًا اعتقال "أجودان" (رتبة دركية) في أيت ملول عام 2025، بعد تورطه في تحقيقات متعلقة بحجز شحنة مخدرات، حيث أُدخل إلى السجن المحلي في تطور يُهز الجهاز. وفي مارس 2025، حُكم على ثلاثة دركيين في ورزازات بثمانية أشهر حبسًا نافذة بسبب فساد إداري، بما في ذلك تزوير محاضر لإنقاذ "ابن رئيس جماعة" من السجن في إقليم الخميسات. هذه الحالة تكشف عن التمييز الطبقي في تطبيق القانون، حيث يُحمى الأقوياء على حساب الضعفاء.في المناطق الحدودية، يبرز تورط قائد الدرك الجنرال محمد حرمو، الذي اتهمته تقارير في أغسطس 2025 بالحصول على أرض من وزيرة في حكومة محمد السادس، مع أدلة على صلاته بعصابات التهريب. كما في نوفمبر 2024، نشرت فيديوهات ملفات فساد في الطرفاية تُظهر كيف يُسهل الدرك مرور شحنات المخدرات مقابل حصص مالية، مما يُعزز من سيطرة العصابات الدولية. وفي أبريل 2025، أوقف الدرك في مراكش أربعة أشخاص، بما فيهم سيدة، بتهمة فساد مالي، لكن هذا الحدث نفسه أثار تساؤلات حول مدى تورط الجهاز في مثل هذه الشبكات.تاريخيًا، تعود الفضائح إلى عقود. في يناير 2018، أُلقي القبض على 29 مسؤولًا رفيع المستوى في الدرك بتهمة الفساد والتورط في تهريب المخدرات، مع اتهامات بكشف أسرار مهنية. وفي مارس 2017، حُكم على كولونيل وقائد درك في كلميم بالسجن النافذ بسبب الرشوة. هذه الحالات ليست استثناءات، بل نمطًا متكررًا، كما يُظهر تقرير وزارة الخارجية الأمريكية لعام 2016 عن الفساد في الأجهزة الأمنية المغربية.على وسائل التواصل، تتكاثر الشهادات. في سبتمبر 2025، نشر مستخدمون فيديوهات تُظهر سائقي طاكسي يخالفون قواعد السلامة الطرقية دون غرامة، مطمئنين بتلقي الدركيين رشاوى. وفي أكتوبر 2025، ربط نشطاء احتجاجات الشباب ضد الفساد بالدرك، مطالبين بإصلاح جذري. كما في يوليو 2022، كشفت ملفات عن فساد في الصحراء الغربية، حيث يُرهب النشطاء لإسكاتهم عن فضائح الدرك.تداعيات الفساد على المجتمع والدولةيُسبب فساد الدرك الملكي تداعيات مدمرة. اقتصاديًا، يُعيق مكافحة التهريب، مما يؤدي إلى خسائر في الإيرادات الجمركية تصل إلى مليارات الدراهم سنويًا، ويُغذي اقتصاد الجريمة المنظمة. اجتماعيًا، يُفقد المواطنين الثقة في الجهاز، حيث يُشعرون بالظلم أمام مخالفات السير أو الابتزاز اليومي، مما يساهم في ارتفاع حوادث الطرق التي تُودي بحياة آلاف سنويًا. أمنيًا، يُضعف الجهاز قدرته على مواجهة التهديدات الحقيقية، مثل الإرهاب أو الهجرة غير الشرعية، حيث يُركز بعض العناصر على المكاسب الشخصية بدلاً من الواجب.في المناطق الحدودية، يُعمق الفساد التوترات الاجتماعية، إذ يُشعر السكان بالتهميش والاستغلال. كما في حالة المهاجرين الأفارقة، الذين يُسرقون أموالهم من قبل الدرك، مما يُفاقم صورة المغرب دوليًا كدولة غير مستقرة. سياسيًا، يُشكل تحديًا للحكومة، حيث أدى إلى احتجاجات شبابية في أكتوبر 2025 تطالب بتغيير جذري.الجهود الرسمية وتحدياتهارغم الجهود الرسمية، مثل إنشاء الخط الأخضر لمكافحة الفساد، إلا أنها تبقى محدودة. في أغسطس 2025، كشفت فضيحة رشوة في تطوان عن دور الدرك في الكشف، لكنها لم تمنع التكرار. التحدي يكمن في عدم استقلالية التحقيقات، حيث تُدار من داخل الجهاز نفسه، مما يُقلل من فعاليتها.الخاتمةفساد الدرك الملكي ليس مجرد قصة عن أفراد منحرفين، بل أزمة هيكلية تُهدد أسس الدولة. يتطلب الأمر إصلاحات جذرية: تعزيز الرقابة المستقلة، رفع الرواتب، وتطبيق عقوبات صارمة. يجب على الحكومة الاستجابة لصوت الشعب، كما في الاحتجاجات الأخيرة، لاستعادة الثقة. فالأمن الحقيقي يبدأ بالنزاهة، ودونها، يبقى المغرب عرضة للانهيار. إن إنقاذ الدرك من فساده هو خطوة أولى نحو مغرب أكثر عدلاً وأمانًا.
تعليقات