معاناة الظلام في المغرب القديم بين الفوانيس والامال البعيدة
مقدمةفي تلك الايام التي يعود بنا الزمن الى السبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي كانت الحياة في المغرب تعيش في توازن هش بين المدن النابضة بالحيوية والقرى الغارقة في الظلام الدامس. المدن الكبرى مثل الدار البيضاء والرباط ومراكش كانت قد بدات تستقبل خيوط الكهرباء منذ عقود سابقة وتحديدا من اواخر القرن التاسع عشر عندما وصلت الكهرباء الى طنجة عام 1887 بفضل عقد مع شركة اجنبية ثم توسعت في العشرينيات والثلاثينيات الى المدن الاخرى حيث استخدمت في اضاءة الشوارع والمباني الرسمية. لكن هذا التقدم كان محصورا في النواة الحضرية ولم يتجاوز حدود الاحياء الراقية في بعض المدن حتى الاحياء الشعبية كانت تشكو من نقص الكهرباء وتعتمد على مصابيح الغاز والكيروسين ليلا. اما البادية والمناطق الريفية فكانت تشكل قارة منفصلة تماما حيث بلغت نسبة المناطق المحرومة من الكهرباء حوالي 90 في المائة وفقا للتقديرات التاريخية ولم تتجاوز التغطية الريفية 8 في المائة في السبعينيات وارتفعت قليلا الى حوالي 10 الى 15 في المائة في الثمانينيات قبل ان ياتي البرنامج الشامل لكهربة الريف في التسعينيات.كان الشعب المغربي يعيش في هذا التباين الاجتماعي الذي يعكس الفجوة بين المدن والقرى وكان الفقراء في الاحياء الشعبية والمزارعين في البادية يدفعون ثمن هذا التفاوت بالمعاناة اليومية. تخيل قرية صغيرة في جبال الاطلس حيث ينهار الشمس خلف الجبال ويغرق العالم في الظلام قبل حتى ان يبدأ العشاء. لا مصابيح ليست كهربائية بل فوانيس زيتية تترنح مع كل نسمة هواء وتطلق دخانا كثيفا يملا الرئتين ويجفف العيون. النساء يعددن الخبز على الحطب في المطبخ المفتوح حيث ينتشر الدخان في كل مكان ويجبر الاطفال على السعال المتواصل. الرجال يعودون من الحقول متعبين ويجلسون حول النار يروون قصص الاجداد بينما يحاولون توفير الوقود لليالي الطويلة. هذه ليست مجرد ذكريات بل واقع عاشه ملايين المغاربة في تلك الحقبة حيث كانت الكهرباء رفاهية بعيدة المنال وكان الظلام رفيقا يوميا يحد من كل شيء من الدراسة الى الطبخ والترفيه.
عرضدعونا نتعمق في هذه المعاناة من خلال عدة جوانب حيث كانت الحياة اليومية في المناطق المحرومة مليئة بالتحديات التي تشكل اليوم جزءا من الذاكرة الجماعية للشعب المغربي. اولا الجانب الاقتصادي كان الاعتماد على الزراعة التقليدية والرعي يجعل العمل اليومي مرهقا بدون اي تسهيلات. في القرى الريفية كان الفلاح يبدأ يومه مع الفجر باستخدام المعاول والفؤوس اليدوية للحراثة ولا ينتهي الا مع الغروب حيث يعود الى بيته ليجد الظلام ينتظره. بدون كهرباء لتشغيل مضخات المياه الكهربائية كان يعتمد على الآبار اليدوية او الجداول الطبيعية مما يزيد من الجهد الجسدي ويقلل من الانتاجية. في الثمانينيات حيث كانت الجفاف تضرب المناطق الجنوبية بقوة كانت العائلات تواجه مجاعات صغيرة لان عدم وجود ثلاجات كهربائية يجبرهم على بيع المنتجات الزراعية فور الحصاد قبل ان تفسد وهكذا يفقدون الفرصة للادخار او التجارة. كان الاقتصاد المحلي يعتمد على السوق الاسبوعية حيث يجتمع الناس من القرى المجاورة لتبادل البضائع لكن بدون اضاءة كافية كانت هذه الاسواق تنتهي مبكرا وتترك الكثيرين بدون بيع.ثانيا المعاناة الصحية كانت من اكثر الجوانب قسوة حيث يؤدي الظلام الدائم الى حوادث يومية مثل السقوط في الطرق الوعرة او الحروق من الفوانيس المتقلبة. في الليالي الشتوية الباردة في الشمال كان الاعتماد على المدافئ التقليدية يزيد من انتشار الامراض التنفسية بسبب الدخان والرطوبة. الولادات في المنازل بدون كهرباء لتشغيل معدات الطوارئ كانت مخاطرة كبيرة وكثيرا ما يفقد الاطفال حياتهم بسبب نقص الرعاية الطبية المتاحة. في السبعينيات كانت نسبة الوفيات الرضع عالية في الريف مقارنة بالمدن وكان السبب الرئيسي هو غياب التطعيمات المنتظمة والعلاجات البسيطة التي تحتاج الى اضاءة جيدة. تخيل امرا مريضة في قرية نائية في الشرق كيف يصل الى المستشفى في المدينة الاقرب بسيارة قديمة على طريق غير معبد وفي الظلام الكامل حيث لا يوجد اي اشارة مرورية. كانت الامراض المعدية مثل السل والزهري تنتشر بسرعة لان عدم وجود كهرباء يعيق حملات التوعية والفحوصات الطبية.ثالثا التعليم كان ضحية كبرى لهذا الظلام حيث كانت المدارس الريفية تعتمد على الشمس الطبيعية خلال النهار وتنتهي الدروس مبكرا لان الطلاب لا يستطيعون القراءة في المنزل بدون اضاءة. في الثمانينيات حيث كانت نسبة الامية في الريف تصل الى 70 في المائة كان الاطفال يساعدون في الحقول بدلا من الدراسة ويفقدون الفرصة للتعلم. الفتيات خاصة كن يتحملن عبء اضافيا حيث يقمن بالاعمال المنزلية في الظلام مما يحد من وقتهن للقراءة. كانت القصص عن الطلاب الذين يتنقلون الى المدن للدراسة مليئة بالدموع والفراق حيث يترك الطفل عائلته ليعيش في احياء شعبية ربما محرومة ايضا لكنها اقرب الى المدارس المزودة بالكهرباء. هذا التباين ادى الى هجرة جماعية من الريف الى المدن في السبعينيات حيث بلغت معدلات الهجرة الداخلية اكثر من 40 في المائة واصبحت الاحياء الشعبية في الدار البيضاء مليئة بمغاربة يبحثون عن ضوء الامل.لكن ربما اكثر ما يعكس هذه المعاناة هو الجانب الاجتماعي والترفيهي حيث كان الشعب المغربي مولعا بالفن والرياضة والاخبار كما قلت ومع ذلك كانوا محروما من الوصول اليها بسهولة. في المدن كانت التلفزيونات بالابيض والاسود 12 بوصة تذاع في المقاهي وتجذب الحشود لمتابعة مباريات المنتخب الوطني او مسلسلات رمضان لكن في البادية كان الامر مختلفا تماما. هناك يصبح التلفزيون رفاهية نادرة ويتم تشغيله ببطاريات السيارات القديمة التي تشحن في المدن البعيدة. تخيل عائلة في قرية قرب وزان تجمع حول جهاز تلفزيون صغير يعمل على بطارية سيارة رينو قديمة ويشاهدون حلقة من مسلسل شهير مثل الراهبة كوكو. البطارية تستمر لساعات قليلة وفجاة تنفذ قبل نهاية الحلقة الاخيرة فتصرخ الاسرة من الغيظ وتنتظر اليوم التالي للذهاب الى صاحب الشحن في السوق الاقرب. هذا صاحب الشحن رجل يملك مولد كهربائي صغير يشغله بالديزل ويتقاضى دراهم قليلة مقابل الشحن لكنه غالبا ما يقول عد غدا في نفس الوقت لان الطلب كبير والوقود نادر.هذه القصة ليست خيالية بل واقع عاشه الكثيرون وكانت تتكرر يوميا مما يولد شعورا بالغبن والحرمان. في الليالي الطويلة كان الراديو الوحيد الرفيق المخلص يعمل على بطاريات صغيرة ويبث الاغاني الشعبية لنجاة اطفيش او الاخبار الرسمية لكن حتى هذا الراديو ينفذ وقوده سريعا ويترك العائلة في صمت يقطعه فقط عواء الرياح او نباح الكلاب. الرياضة كانت تقليدية مثل كرة القدم في الحقول تحت ضوء القمر حيث يلعب الشباب بكرة مصنوعة من القماش الملفوف لكن بدون تغطية تلفزيونية كاملة يفقدون الاتصال بالعالم الخارجي. في المناسبات الاجتماعية مثل الاعراس كانت الاضاءة تتم بفوانيس معلقة على الاشجار وموسيقى الازجال بالعود والدربوكة لكن الظلام يحد من الرقص الى ساعات مبكرة ويجبر الضيوف على العودة الى بيوتهم قبل منتصف الليل.دعونا نروي قصة خيالية مستوحاة من هذه الايام لنفهم العمق العاطفي. في قرية صغيرة تدعى امدغوش في جبال الريف عاش احمد رجل في الاربعينيات يعمل في الزراعة ويحلم بمتابعة كأس العالم 1986. اشترى تلفزيونا مستعملا من السوق الاسبوعي في الحسيمة مقابل دراهم جمعها من بيع الزيتون وكان يشحنه كل اسبوع عند عم محمد صاحب المولد. في يوم المباراة النهائية بين الارجنتين والاتحاد السوفييتي كانت البطارية جديدة تماما فجمع العائلة والجيران حول الجهاز الصغير يشجعون مارادونا بصوت عال. لكن في الدقيقة السبعين تنفذ البطارية فجاة والشاشة تسود والجميع يصرخون من الاسى. في الصباح يحمل احمد البطارية على دراجة هوائية الى عم محمد الذي يقول له عد مساء لان المولد معطل اليوم بسبب نقص الديزل. يعود احمد الى القرية محبطا ويسمع النتيجة من مسافر عابر فيقضي الايام التالية يحلم بتلك المباراة التي لم يرها الى النهاية. هذه القصة تعكس الامر الذي عاشه الالاف حيث كان الترفيه ليس مجرد تسلية بل نافذة على العالم يغلقها الظلام فجاة.
خاتمةكانت المعاناة تتجاوز اليومي الى الاجتماعي حيث يؤدي نقص الكهرباء الى عزلة اجتماعية. الشباب في القرى يشعرون بالغيرة من اقرانهم في المدن الذين يتمتعون بصالات السينما والمكتبات المضيئة فيزدادون رغبة في الهجرة مما يؤدي الى تفكك العائلات. النساء خاصة كن يتحملن الثقل الاكبر حيث يقمن بغسيل الملابس يدويا في النهار ويعددن الطعام في الظلام مما يزيد من تعبهن الجسدي والنفسي. في المناطق الجنوبية مثل زاكورة والداخلة كانت الامور اصعب بسبب الرمال والحرارة حيث يذوب الشمع في الفوانيس سريعا ويصبح الوقود نادرا. كانت العائلات تعتمد على الجماعة لتبادل الزيت والحطب لكن الفقر يجعل هذا التبادل غير كاف.مع ذلك لم يكن الشعب المغربي يستسلم بل كان يبتكر حلولا بسيطة مثل استخدام المصابيح الشمسية الاولية التي وصلت في الثمانينيات لكنها كانت غالية وغير فعالة. كما كانت الجمعيات المحلية تجمع التبرعات لشراء مولدات مشتركة للقرى لكن الصيانة كانت مشكلة بسبب نقص القطع الغيار. هذه الجهود الذاتية تعكس روح الصمود التي ميزت المغاربة في تلك الحقبة حيث تحول الظلام الى قصص حول النار واغاني التراث.في الختام كانت معاناة الناس في تلك الحقبة درسا في الصبر والتضامن وكانت الكهرباء رمزا للتقدم الذي جاء متاخرا الى الريف مع برنامج كهربة الريف الشامل في 1996 الذي رفع التغطية الى اكثر من 99 في المائة اليوم. اليوم عندما نضيء مصباحا في قرية نائية نتذكر تلك الليالي الطويلة ونقدر الضوء الذي غير حياة الاجيال. هذه الذكريات ليست مجرد ماض بل جزء من هويتنا الذي يذكرنا بقيمة الليالي المضيئة التي نعيشها الآن.