الإخوة الهناوات: سخرية من الواقع القاسي وإرث نسيَه الإعلام
الثنائي الهناوات:الضحك في وجه الفقر ومقاومة الظروف القاسية
مقدمةفي أروقة الفن الشعبي المغربي، يبرز اسم "ثنائي الهناوات" كرمز للإبداع الذي ينبثق من رحم الشوارع والأسواق، حيث يلتقي الضحك بالألم، والسخرية بالواقع القاسي. التهامي الهناوات، المعروف فنياً بـ"البزخ"، والجيلالي الهناوات، الذي يُلقب بـ"المزڭيطي"، هما أخوان من قبيلة السياسفة في حي ليساسفة بالدار البيضاء، قد تركا بصمة لا تُمحى في تاريخ الفكاهة المغربية الشعبية. لم يكن عملهما مجرد تسلية عابرة، بل مرآة تعكس تناقضات المجتمع المغربي، من خلال لهجة دارجة حية وسكيتشات تلامس جيوب الفقراء وأحلام المهمشين. رحمهما الله، فقد قسى عليهما الدهر بفقر مدقع ومرض عضال، ولم يلقَ الإعلام الرسمي أو السلطات الفنية أي اهتمام بهما، تاركاً إرثهما ينتشر عبر الأشرطة القديمة والمنصات الرقمية، حيث يحقق ملايين المشاهدات دون أن يُذكر اسمهما في الدوائر الرسمية.
عرضيُعد ثنائي الهناوات امتداداً طبيعياً لتجربة الثنائيات الفكاهية الشعبية التي بدأت في أواخر الستينيات، مستلهمين من رواد مثل "قشبال وزروال"، حيث يجمع الغناء الشعبي بالسخرية الاجتماعية عبر اللهجات المحلية والتناقضات اليومية. بدأ الإخوة الهناوات رحلتهما الفنية في أحضان الأسواق الأسبوعية والحلقات الموسمية، بعيداً عن أضواء المسارح الكبرى أو شاشات التلفزيون. كان التهامي، الأكبر سناً، يُلقب بـ"البزخ" لأسلوبه الجريء والمباشر في السخرية، بينما يتميز الجيلالي بـ"المزڭيطي" لقدرته على التمثيل الدرامي الذي يضفي عمقاً على السكيتشات. نشآ في بيئة متواضعة، حيث كانت الحياة في ليساسفة – أحد أحياء الدار البيضاء الشعبية – مليئة بالتحديات اليومية. الفقر كان رفيقهما الأول، إذ لم يكن لديهما سوى آلات موسيقية بسيطة كالعود والدف، التي يستخدمانها ليحولا الهموم إلى ضحك. هذه البدايات المتواضعة شكلت جوهر فنّهما، فكان الضحك لديهما ليس ترفاً، بل سلاحاً لمواجهة الجوع والحرمان.
مع مرور الزمن، انتقل الثنائي من العروض الشارعية إلى تسجيل أشرطة فكاهية على شكل VCD وأقراص مدمجة، التي انتشرت في الأسواق والمتاجر الصغيرة داخل المغرب وخارجه. لم يخلُ سوق أو دكان من أعمالهما، التي كانت تُباع بأسعار زهيدة، تعكس حال الطبقة الشعبية التي ينتميان إليها. من أبرز أعمالهما سكيتش "الطلاب مرضى ومسخوط"، الذي يسخر من نظام التعليم المغربي ومعاناة الطلاب الفقراء، حيث يصور الإخوة شخصيتين يتنازعان حول "المرضى الحقيقيين" مقابل "المسخوطين" الذين يتظاهرون بالمرض للتهرب من الدراسة. هذا السكيتش، الذي يجمع بين الغناء الشعبي والحوار السريع، يُظهر براعتهما في لمس الجراح الاجتماعية دون إيذاء، بل بطريقة تجعل الجمهور يضحك ويبكي معاً. كذلك، "السحارة"، الذي يتناول خرافات الريف المغربي وكيف يستغلها الناس لتبرير فشلهم، معتمدين على إيقاعات الدف التقليدية لتعزيز الإيقاع الفكاهي. وفي "البرارك"، يسخرون من الانتخابات الجماعية، حيث يصور التهامي مرشحاً فاسداً يعد بـ"البرارك" (الأبراج) الوهمية، بينما يلعب الجيلالي دور الناخب الساذج الذي يقع في الفخ. هذه الأعمال لم تكن مجرد ترفيه، بل نقد اجتماعي حاد، يعكس تناقضات المجتمع بين الوعود الكاذبة والواقع المرير.
ومع ذلك، كانت المسيرة الفنية لثنائي الهناوات مليئة بالعثرات، إذ لم يحظَ بأي دعم رسمي من الإعلام أو المؤسسات الفنية. التلفزة المغربية، التي كانت تُفضل البرامج الرسمية والمسرحيات الكبرى، تجاهلت وجودهما تماماً، رغم أن أعمالهما كانت تُشاهد في كل ركن من أركان المغرب. كانا يعتمدان على مبيعات الأشرطة الشخصية، التي لا تكفي لتغطية نفقات الحياة اليومية. هذا التجاهل لم يكن مصادفة، بل جزءاً من سياسة فنية تُفضل الإنتاجات المدعومة على الشعبي الأصيل، مما جعل الإخوة يعيشان في عزلة فنية. في مقابلات نادرة، عبرت زوجة الجيلالي عن مرارتها، قائلة إن "الفنانين الكبار لم يزوروا الدار ولو مرة واحدة بعد وفاته، ولا حتى السلطات الرسمية سألت عن أطفاله". هذا الفقدان للدعم لم يكن سوى وجه من وجوه الظروف القاسية التي رافقت حياتهما.
قسى الدهر على التهامي والجيلالي بفقر مدقع جعلهما يعيشان في شقة متواضعة بحي ليساسفة، حيث كانت الجدران تشهد على ليالي الجوع والقلق. كان الفقر يلازم خطواتهما، إذ لم يكن لديهما دخل ثابت، وكانت مبيعات الأشرطة تكاد تكون رمزية. يروي أحد الشهود في فيديو وثائقي أن "الإخوة كانوا يتجولان في الأسواق بملابس بالية، يحملان العود والدف، ويضحكان ليخفيا الدموع". هذا الفقر لم يكن مادياً فحسب، بل نفسياً، إذ كانا يشعران بالغربة وسط عالم فني يُفضل النجوم اللامعين على المهمشين. أضف إلى ذلك الصعوبات الصحية؛ فقد أصيب الجيلالي بمرض خطير في الكبد، ناتج عن سنوات من الإرهاق والسهر في العروض الشعبية دون راحة. دخل المستشفى في حالة حرجة، ولم ينم ليومين كاملين قبل وفاته، تاركاً خلفه خمسة أطفال صغار يعتمدون على أمهم وحدها. كانت زوجته، في مقابلة مؤثرة، تتحدث عن "الجحيم الذي نعيشه اليوم، نسيَنا الجميع، ولا أحد يسأل عنا". أما التهامي، فقد استمر في الإبداع رغم الفقدان، لكنه لم يستطع الاستمرار طويلاً؛ إذ أثقل عليه الفقر والحزن، فمات بعد سنوات قليلة، في وفاة تجاهلها الإعلام تماماً. رحمهما الله، فقد كانت وفاتهما ليست نهاية للضحك فحسب، بل شهادة على قسوة الزمن تجاه الفنانين الشعبيين.
لم يكن الفقر والمرض وحدهما الذين قسوا على الثنائي، بل كان النسيان الجماعي أقسى. رغم أن أعمالهما تحقق ملايين المشاهدات على يوتيوب اليوم، إلا أن الدوائر الفنية الرسمية لم تحتفل بهما، ولم يُقم حفل تكريمي أو يُنتج فيلم وثائقي رسمي عن رحلتهما. هذا التجاهل يعكس مشكلة أعمق في الثقافة المغربية، حيث يُُفضل الفن الرسمي على الشعبي، رغم أن الأخير هو الذي يحمل نبض الشعب. في سكيتش "الرزق"، يسخر الإخوة من صعوبة كسب العيش، حيث يتنازعان حول "من يأكل أولاً"، وهو ما يلخص حياتهما تماماً. كذلك، "الزواج"، الذي يصور فوضى الزيجات الشعبية، و"الحباب" الذي يتحدث عن الموت بطريقة طريفة، لكنه ينتهي بلمسة حزينة تعكس خوفهما من النهاية. هذه الأعمال ليست مجرد تاريخ، بل دروس في الصمود؛ إذ استطاع الثنائي تحويل معاناتهما إلى فن يضحك الجماهير ويُفكرها في واقعها.
خاتمةفي الختام، يبقى ثنائي الهناوات شاهداً على جمال الإبداع الشعبي وقسوته في آن. رحلة التهامي والجيلالي ليست قصة نجاح تقليدية، بل سيرة صمود أمام الفقر والمرض والنسيان. اليوم، مع انتشار أعمالهما عبر الإنترنت، يعود الضحك إلى حياة الأجيال الجديدة، لكن السؤال يظل: متى يُكرم المغرب فنانيه الشعبيين قبل فوات الأوان؟ رحمهما الله، وأسكنهما فسيح جناته، فقد أضحكا الشعب وأبكوه في الوقت نفسه. إرثهما ليس في الأشرطة القديمة فحسب، بل في الذاكرة الجماعية التي تذكرنا بأن الضحك الحقيقي يولد من الألم، وأن الفنانين مثل الهناوات هم أبطال الشوارع قبل أن يكونوا نجوم الشاشة.
مقدمةفي أروقة الفن الشعبي المغربي، يبرز اسم "ثنائي الهناوات" كرمز للإبداع الذي ينبثق من رحم الشوارع والأسواق، حيث يلتقي الضحك بالألم، والسخرية بالواقع القاسي. التهامي الهناوات، المعروف فنياً بـ"البزخ"، والجيلالي الهناوات، الذي يُلقب بـ"المزڭيطي"، هما أخوان من قبيلة السياسفة في حي ليساسفة بالدار البيضاء، قد تركا بصمة لا تُمحى في تاريخ الفكاهة المغربية الشعبية. لم يكن عملهما مجرد تسلية عابرة، بل مرآة تعكس تناقضات المجتمع المغربي، من خلال لهجة دارجة حية وسكيتشات تلامس جيوب الفقراء وأحلام المهمشين. رحمهما الله، فقد قسى عليهما الدهر بفقر مدقع ومرض عضال، ولم يلقَ الإعلام الرسمي أو السلطات الفنية أي اهتمام بهما، تاركاً إرثهما ينتشر عبر الأشرطة القديمة والمنصات الرقمية، حيث يحقق ملايين المشاهدات دون أن يُذكر اسمهما في الدوائر الرسمية.
عرضيُعد ثنائي الهناوات امتداداً طبيعياً لتجربة الثنائيات الفكاهية الشعبية التي بدأت في أواخر الستينيات، مستلهمين من رواد مثل "قشبال وزروال"، حيث يجمع الغناء الشعبي بالسخرية الاجتماعية عبر اللهجات المحلية والتناقضات اليومية. بدأ الإخوة الهناوات رحلتهما الفنية في أحضان الأسواق الأسبوعية والحلقات الموسمية، بعيداً عن أضواء المسارح الكبرى أو شاشات التلفزيون. كان التهامي، الأكبر سناً، يُلقب بـ"البزخ" لأسلوبه الجريء والمباشر في السخرية، بينما يتميز الجيلالي بـ"المزڭيطي" لقدرته على التمثيل الدرامي الذي يضفي عمقاً على السكيتشات. نشآ في بيئة متواضعة، حيث كانت الحياة في ليساسفة – أحد أحياء الدار البيضاء الشعبية – مليئة بالتحديات اليومية. الفقر كان رفيقهما الأول، إذ لم يكن لديهما سوى آلات موسيقية بسيطة كالعود والدف، التي يستخدمانها ليحولا الهموم إلى ضحك. هذه البدايات المتواضعة شكلت جوهر فنّهما، فكان الضحك لديهما ليس ترفاً، بل سلاحاً لمواجهة الجوع والحرمان.
مع مرور الزمن، انتقل الثنائي من العروض الشارعية إلى تسجيل أشرطة فكاهية على شكل VCD وأقراص مدمجة، التي انتشرت في الأسواق والمتاجر الصغيرة داخل المغرب وخارجه. لم يخلُ سوق أو دكان من أعمالهما، التي كانت تُباع بأسعار زهيدة، تعكس حال الطبقة الشعبية التي ينتميان إليها. من أبرز أعمالهما سكيتش "الطلاب مرضى ومسخوط"، الذي يسخر من نظام التعليم المغربي ومعاناة الطلاب الفقراء، حيث يصور الإخوة شخصيتين يتنازعان حول "المرضى الحقيقيين" مقابل "المسخوطين" الذين يتظاهرون بالمرض للتهرب من الدراسة. هذا السكيتش، الذي يجمع بين الغناء الشعبي والحوار السريع، يُظهر براعتهما في لمس الجراح الاجتماعية دون إيذاء، بل بطريقة تجعل الجمهور يضحك ويبكي معاً. كذلك، "السحارة"، الذي يتناول خرافات الريف المغربي وكيف يستغلها الناس لتبرير فشلهم، معتمدين على إيقاعات الدف التقليدية لتعزيز الإيقاع الفكاهي. وفي "البرارك"، يسخرون من الانتخابات الجماعية، حيث يصور التهامي مرشحاً فاسداً يعد بـ"البرارك" (الأبراج) الوهمية، بينما يلعب الجيلالي دور الناخب الساذج الذي يقع في الفخ. هذه الأعمال لم تكن مجرد ترفيه، بل نقد اجتماعي حاد، يعكس تناقضات المجتمع بين الوعود الكاذبة والواقع المرير.
ومع ذلك، كانت المسيرة الفنية لثنائي الهناوات مليئة بالعثرات، إذ لم يحظَ بأي دعم رسمي من الإعلام أو المؤسسات الفنية. التلفزة المغربية، التي كانت تُفضل البرامج الرسمية والمسرحيات الكبرى، تجاهلت وجودهما تماماً، رغم أن أعمالهما كانت تُشاهد في كل ركن من أركان المغرب. كانا يعتمدان على مبيعات الأشرطة الشخصية، التي لا تكفي لتغطية نفقات الحياة اليومية. هذا التجاهل لم يكن مصادفة، بل جزءاً من سياسة فنية تُفضل الإنتاجات المدعومة على الشعبي الأصيل، مما جعل الإخوة يعيشان في عزلة فنية. في مقابلات نادرة، عبرت زوجة الجيلالي عن مرارتها، قائلة إن "الفنانين الكبار لم يزوروا الدار ولو مرة واحدة بعد وفاته، ولا حتى السلطات الرسمية سألت عن أطفاله". هذا الفقدان للدعم لم يكن سوى وجه من وجوه الظروف القاسية التي رافقت حياتهما.
قسى الدهر على التهامي والجيلالي بفقر مدقع جعلهما يعيشان في شقة متواضعة بحي ليساسفة، حيث كانت الجدران تشهد على ليالي الجوع والقلق. كان الفقر يلازم خطواتهما، إذ لم يكن لديهما دخل ثابت، وكانت مبيعات الأشرطة تكاد تكون رمزية. يروي أحد الشهود في فيديو وثائقي أن "الإخوة كانوا يتجولان في الأسواق بملابس بالية، يحملان العود والدف، ويضحكان ليخفيا الدموع". هذا الفقر لم يكن مادياً فحسب، بل نفسياً، إذ كانا يشعران بالغربة وسط عالم فني يُفضل النجوم اللامعين على المهمشين. أضف إلى ذلك الصعوبات الصحية؛ فقد أصيب الجيلالي بمرض خطير في الكبد، ناتج عن سنوات من الإرهاق والسهر في العروض الشعبية دون راحة. دخل المستشفى في حالة حرجة، ولم ينم ليومين كاملين قبل وفاته، تاركاً خلفه خمسة أطفال صغار يعتمدون على أمهم وحدها. كانت زوجته، في مقابلة مؤثرة، تتحدث عن "الجحيم الذي نعيشه اليوم، نسيَنا الجميع، ولا أحد يسأل عنا". أما التهامي، فقد استمر في الإبداع رغم الفقدان، لكنه لم يستطع الاستمرار طويلاً؛ إذ أثقل عليه الفقر والحزن، فمات بعد سنوات قليلة، في وفاة تجاهلها الإعلام تماماً. رحمهما الله، فقد كانت وفاتهما ليست نهاية للضحك فحسب، بل شهادة على قسوة الزمن تجاه الفنانين الشعبيين.
لم يكن الفقر والمرض وحدهما الذين قسوا على الثنائي، بل كان النسيان الجماعي أقسى. رغم أن أعمالهما تحقق ملايين المشاهدات على يوتيوب اليوم، إلا أن الدوائر الفنية الرسمية لم تحتفل بهما، ولم يُقم حفل تكريمي أو يُنتج فيلم وثائقي رسمي عن رحلتهما. هذا التجاهل يعكس مشكلة أعمق في الثقافة المغربية، حيث يُُفضل الفن الرسمي على الشعبي، رغم أن الأخير هو الذي يحمل نبض الشعب. في سكيتش "الرزق"، يسخر الإخوة من صعوبة كسب العيش، حيث يتنازعان حول "من يأكل أولاً"، وهو ما يلخص حياتهما تماماً. كذلك، "الزواج"، الذي يصور فوضى الزيجات الشعبية، و"الحباب" الذي يتحدث عن الموت بطريقة طريفة، لكنه ينتهي بلمسة حزينة تعكس خوفهما من النهاية. هذه الأعمال ليست مجرد تاريخ، بل دروس في الصمود؛ إذ استطاع الثنائي تحويل معاناتهما إلى فن يضحك الجماهير ويُفكرها في واقعها.
خاتمةفي الختام، يبقى ثنائي الهناوات شاهداً على جمال الإبداع الشعبي وقسوته في آن. رحلة التهامي والجيلالي ليست قصة نجاح تقليدية، بل سيرة صمود أمام الفقر والمرض والنسيان. اليوم، مع انتشار أعمالهما عبر الإنترنت، يعود الضحك إلى حياة الأجيال الجديدة، لكن السؤال يظل: متى يُكرم المغرب فنانيه الشعبيين قبل فوات الأوان؟ رحمهما الله، وأسكنهما فسيح جناته، فقد أضحكا الشعب وأبكوه في الوقت نفسه. إرثهما ليس في الأشرطة القديمة فحسب، بل في الذاكرة الجماعية التي تذكرنا بأن الضحك الحقيقي يولد من الألم، وأن الفنانين مثل الهناوات هم أبطال الشوارع قبل أن يكونوا نجوم الشاشة.