قضية حبيبة الشماع: ظلال الشروق ...الرواية الأخرى التي هزت مصر

 تطورات نوفمبر 2025: تأجيلات الدعوى ضد أوبر وصراع العائلة من أجل 100 مليون جنيه


ظلال الشروق: قصة حبيبة الشماع

في أحياء الشروق الهادئة، حيث تتسلل أشعة الشمس الصباحية بين أبراج الإسكان الجديدة، كانت حبيبة الشماع تعيش حياة تبدو كلوحة فنية ناعمة. في الرابعة والعشرين من عمرها، كانت حبيبة فتاة من تلك التي تجمع بين الجمال والذكاء بسلاسة، كأنها مزيج من ألوان لوحة رسمها فنان حالم. خريجة كلية الإعلام في الجامعة البريطانية بالقاهرة، حيث قضت أيامها الأخيرة في الجامعة تتعلم كيفية سرد القصص، لم تكن تعلم أن قصتها الخاصة ستصبح يوماً ما عنواناً لأخبار الجرائد ومناقشات الشوارع. عملت في مجال الأثاث والديكور، تصمم غرفاً تتحول فيها الجدران إلى قصص حب صامتة، مليئة بالألوان الدافئة والأقمشة الناعمة. كانت متزوجة منذ عامين، زواجاً هادئاً يعتمد على الثقة والضحكات الخفيفة، وتعيش في شقة صغيرة في الرحاب، حيث تزرع الزهور في الشرفة وتستمع إلى موسيقى الجاز في المساء.
كانت عائلتها من الطبقة الوسطى المصرية التقليدية، أبوها موظف حكومي متقاعد يحب القراءة، وأمها ربة منزل تطبخ الكنافة بطريقة تجعل الجيران يطرقون الباب كل عيد. أخواتها الثلاث، الأكبر منها بسنوات قليلة، كن يدعمنها دائماً، يتبادلن معها النصائح حول الحياة الزوجية والأحلام المهنية. حبيبة كانت الوسطى، الفتاة التي تحمل الجميع على كتفيها بابتسامة، دون أن تشكو. في ذلك اليوم، الرابع عشر من مارس 2024، كان الجو بارداً قليلاً، شتاء القاهرة الذي يجمع بين الشمس الخجولة والريح الخفيفة. كانت حبيبة قد زارت صديقة لها في مستشفى مصر للطيران بالمزة، حيث كانت صديقتها تعاني من إرهاق شديد بعد عملية بسيطة. قضت الصباح هناك، تضحك وتحكي قصصاً عن أحدث تصاميمها، ثم قررت العودة إلى الرحاب قبل الغروب.
"ماما، هروح دلوقتي، الطريق مش هيطولش،" قالت حبيبة في مكالمة هاتفية قصيرة مع أمها، صوتها يحمل الدفء المعتاد. أمها، السيدة فاطمة، ردت بقلق أمومي خفيف: "خلي بالك من نفسك يا بنتي، ولو الطريق زحمة، اتصلي ببابا يجي ياخدك." لكن حبيبة ضحكت، "لا يا ماما، أنا كبرت، وأوبر هيوصلني في دقايق." كانت تثق في التطبيقات، تلك الوسيلة السحرية التي تحول الشوارع المزدحمة إلى رحلات مريحة. فتحت تطبيق أوبر، طلبت رحلة قصيرة، حوالي عشرة كيلومترات فقط، من المستشفى إلى باب الشقة في الرحاب. السيارة وصلت سريعاً، تويوتا سوداء لامعة، والسائق يرتدي قميصاً أبيض نظيفاً، يبتسم ابتسامة مهنية. كان اسمه محمود هاشم، في الرابعة والثلاثين من عمره، رجل عادي يحمل على كتفيه أحلاماً بسيطة وعبء عائلة كبير.
محمود لم يكن مجرماً في عيون أحد، على الأقل ليس في البداية. كان متزوجاً من زوجة تحبه، ولديه ثلاثة أولاد صغار في المدرسة الابتدائية، يركضون خلفه كل صباح يطلبون مصروفاً إضافياً للألعاب. حصل على دبلوم فني في التبريد والتكييف، لكنه وجد عملاً كسائق خاص لدكتور مشهور في القاهرة، يقود سيارته في الزيارات الطبية. لكن الراتب لم يكن كافياً لتغطية القروض على السيارة، أو مصاريف المدرسة، أو حتى الزيارات الطبية للأم المريضة. لذلك، انضم إلى أوبر، يعمل في الليالي والإجازات، يحصل على تقييم 5 نجوم من معظم الركاب. كان يصلي في المسجد كل جمعة، يساعد الجيران في إصلاح الثلاجات مجاناً، ويحلم بيوم يدفع فيه آخر قسط للسيارة. في ذلك اليوم، كان محمود قد أنهى رحلة أخرى، وتلقى طلب حبيبة. ركبت السيارة بهدوء، جلست في المقعد الخلفي، وأغلقت الباب بلطف. الرحلة بدأت عادية، الراديو يعزف أغنية قديمة لأم كلثوم، والطريق يتدفق ببطء نحو الشروق.
لكن الدقائق الـ9 التي تلت كانت كالزلزال الذي يغير مسار الأنهار. حسب الرواية الرسمية، التي روتها النيابة العامة لاحقاً، فوجئت حبيبة بمحاولة خطف من قبل السائق. كان محمود قد غير المسار فجأة، يقود نحو منطقة نائية، ويحاول إغلاق الأبواب بقفل أوتوماتيكي. الخوف انتابها، فاتصلت بأهلها أربع مرات متتالية، صوتها يرتجف في الخط: "ماما، السائق عايز يخطفني... ساعدوني!" لم تكن تعرف أن آخر مكالمة ستكون صرخة صامتة. قررت النجاة بأي ثمن، ففتحت الباب وألقت بنفسها من السيارة المتسارعة، قرب كشك الجدية، على بعد 200 متر فقط من مكان النزول المحدد. سقطت على الأسفلت بقوة، جسدها يرتطم بالأرض كورقة يابسة في عاصفة. الشهود الأوائل، رجل يبيع الخضروات وعابر سبيل، سمعوا صراخها: "أوبر... أوبر كان عايز يخطفني!" كانت مصابة بارتجاج دماغي شديد، دماء تنزف من رأسها، وعيونها تغلق تدريجياً. نقلت إلى المستشفى في سيارة إسعاف، لكن الإصابات كانت قاتلة. في غرفة الطوارئ، أعلن الطبيب الوفاة بعد ساعات قليلة، تاركة عائلتها في صدمة تجمد الزمن.
أما الرواية الأخرى، تلك التي رواها محمود هاشم في التحقيقات، فكانت مختلفة تماماً، كأنها صفحة من كتاب آخر. نفى محمود أي نية شريرة، قائلاً إن الرحلة كانت عادية كغيرها. "الست السيدة طلبت مني أخفف صوت الراديو، كانت بتكلم أهلها،" قال في إفادته، صوته يرتجف أمام النيابة. قرر إرضاءها برش عطر من زجاجة صغيرة في السيارة، عطر يستخدمه الدكتور الذي يعمل عنده لإخفاء رائحة السيجارة في الشتاء البارد. "رشيت شوية، وفجأة سمعت صوت ريح قوية، النوافذ كانت مفتوحة شوية عشان البرد." حسب روايته، خافت حبيبة من الصوت، ربما سمعَت قصصاً سابقة عن حوادث أوبر، ففتحت الباب وقفزت بنفسها. "وقفت السيارة 20 متر بعدها، شفت ناس بتساعدها، خفت على نفسي... قلت لو وقفت هيقولوا أنا اللي عملت كده." هرب محمود، لكنه اتصل بأوبر فوراً، لكن الشركة لم توجهه إلى الشرطة. استسلم بنفسه بعد يومين، يحمل الزجاجة كدليل، ودموعه تسيل أمام المحققين: "أنا راجل طيب، عندي عيال، ما عملتش حاجة غلط."
انتشرت القضية كالنار في الهشيم. عائلة حبيبة، المكسورة القلب، لم تكن لتسكت. السيدة فاطمة، أم حبيبة، جلست أياماً في الشقة، تحتضن صور ابنتها، تتذكر كيف كانت حبيبة تحب القهوة الساخنة في الصباح. "كانت بنتي الوردة، كانت عايزة تعمل معرض ديكور كبير،" قالت في مقابلة تلفزيونية، عيونها مليئة بالدموع. رفعوا بلاغاً فورياً، ودخلت النيابة العامة في المعركة. اتهموا محمود بثلاثة تهم رئيسية: الشروع في خطف حبيبة بالإكراه، تعاطي مخدرات (حشيش وترامادول بناءً على تحليل دم وبول)، وقيادة تحت التأثير. كشفت التحقيقات عن تناقضات: حساب أوبر الخاص بمحمود مغلق سابقاً بسبب شكاوى، منها شكوى تحرش من سيدة أخرى، فأنشأ حساباً جديداً مزيفاً. التحاليل أكدت آثار المخدرات في جسده، وشهود أكدوا صراخ حبيبة. اعتقل محمود، وأصبح السجن الوقائي مصيره لأشهر.
لكن الدفاع عن محمود لم يكن أقل شراسة. محاموه، رجال قانون يعرفون ثغرات النظام، رووا الرواية الأخرى بتفاصيل دقيقة. "التحاليل غلط، إيجابية زائفة من أدوية عادية أو فيتامينات،" قالوا، مطالبين بإعادة فحص. نفوا وجود عطور مهدئة، وأكدوا أن الرحلة قصيرة جداً لأي خطة خطف: لا تتبع مسبق، لا إعداد، الباب مقفل لكن لم يُستخدم. "السائق راجل مسالم، بيصلي في المسجد، بيساعد الفقراء،" شهد الدكتور الذي يعمل عنده، موضحاً استخدام العطر. عائلة محمود، الزوجة التي تبكي في المنزل مع الأولاد، أرسلت رسائل إلى الصحافة: "راجلنا مش مجرم، عيالنا محتاجينه." البودكاست "أوراق القضية"، الذي غطى القضية في حلقة بعنوان "الرواية الأخرى"، أبرز كيف أن أوبر مسؤولة جزئياً؛ الشركة لم تراقب السائقين جيداً، ولم توجه محمود بعد الاتصال الأولي.
وصلت القضية إلى المحكمة الأولى في مايو 2024، حيث كانت الجلسات مليئة بالتوتر. عائلة حبيبة جلسوا في الصف الأمامي، يمسكون بصورها، بينما عائلة محمود في الخلف، يصلون السرية. الحكم صدر قاسياً: سجن مشدد 15 سنة لمحمود، غرامة 50 ألف جنيه، وإلغاء رخصة القيادة مدى الحياة. "عدالة ناقصة،" صاح أبو حبيبة خارج المحكمة، "بنتي راحت، وده كله؟" لكن الاستئناف غير المسار. في أغسطس 2024، برأت محكمة جنايات مستأنف القاهرة محمود من تهمة الخطف، معتبرة القفز طوعياً للدفاع عن النفس، ولا دليل على نية مسبقة. خفضت الحكم إلى 5 سنوات عن المخدرات فقط، وغرامة 10 آلاف جنيه. "براءة جزئية، لكن عدالة كاملة لابنتنا،" قالت السيدة فاطمة، مشاعرها مختلطة بين الارتياح والغضب.

لم تنتهِ القصة هناك. في مايو 2025، وصلت القضية إلى محكمة النقض، أعلى سلطة قضائية. الجلسات كانت طويلة، مع شهود جدد وخبراء طبيين يناقشون التحاليل. أيدت المحكمة الحكم الاستئنافي، قائلة إن هروب محمود كان لإنقاذ نفسه لا لإخفاء جريمة، وأغلقت الباب على الطعن الجنائي. محمود، الآن في السجن، أصبح رمزاً للجدل: مجرم في عيون البعض، ضحية نظام في عيون الآخرين. أولاده يزورونه أسبوعياً، يرسمون له صوراً من المدرسة، بينما زوجته تبحث عن عمل لإعالة العائلة.لكن عائلة حبيبة لم ترضَ. رأوا في أوبر الشريك الخفي في الجريمة. الشركة، التي تكسب عمولات من كل رحلة دون أن تتحمل مسؤولية كاملة، لم تفحص السائقين جيداً، رغم الشكاوى السابقة ضد محمود. في سبتمبر 2025، بعد أشهر من الصمت، رفعوا دعوى مدنية ضد أوبر في محكمة القاهرة الاقتصادية، مطالبين بتعويض 100 مليون جنيه مصري. "أوبر مش مجرد تطبيق، دي شركة مسؤولة عن سلامة الناس،" قال محامي العائلة في مؤتمر صحفي، موضحاً كيف أن الإهمال في الرقابة أدى إلى المأساة. الدعوى استندت إلى قوانين حماية المستهلك، معتبرة أوبر "وسيطاً" يتحمل مسؤولية الإصابات الناتجة عن سائقيها.
الجلسات الأولى كانت مليئة بالحجج. أوبر ردت بأنها "منصة رقمية" لا صاحب عمل، وأن السائقين مستقلون. لكن عائلة حبيبة أحضرت شهوداً من ضحايا حوادث أخرى، وتقارير عن شكاوى غير معالجة. في سبتمبر، أجلت المحكمة الدعوى لأكثر من ثلاثة أشهر بسبب إجراءات الإعلان الخارجي عن الدعوى، مما أثار غضب العائلة. "هنستمر، ده خطوة أولى نحو العدالة الكاملة،" قالت السيدة فاطمة، محتضنة صورة ابنتها. في أكتوبر 2025، جرت جلسة أخرى، حيث ناقشت المحكمة ثلاثة سيناريوهات محتملة: رفض الدعوى لعدم مسؤولية أوبر، قبولها جزئياً مع تعويض محدود، أو حكم كامل بمبلغ هائل يغير سياسات الشركة. حتى نوفمبر 2025، لا يزال القرار معلقاً، مع تأجيلات إضافية، لكن العائلة مصرة. "حبيبة مش هتروح هدر،" يقول أبوها، "هنحارب لحد ما الشركات دي تحس بالمسؤولية."
القضية أثارت عاصفة في مصر. منشورات على وسائل التواصل تتحدث عن سلامة تطبيقات النقل، قصص فتيات أخريات يروين محاولات خطف مشابهة، وجدل حول دور الشركات الأجنبية في حياة المصريين. في الشوارع، أصبح اسم حبيبة رمزاً للنساء اللواتي يطالبن بحماية أفضل. أما محمود، في زنزانته، يقرأ رسائل من عائلته، يحلم بعودة إلى أولاده. والسيدة فاطمة، في شقتها الفارغة، تزرع الزهور كما كانت حبيبة تفعل، تنتظر يوماً يعود فيه السلام إلى قلبها.في النهاية، قصة حبيبة ليست مجرد حادث، بل درس قاسٍ عن الثقة في عالم رقمي، عن الروايات المتضاربة التي تكشف ثغرات النظام، وعن عائلات تتحدى الظلم لأجل ذكرى ابنة أو أب أو أخ. الشمس لا تزال تشرق على الشروق، لكن ظلالها أصبحت أطول، تحمل أسراراً لا تنتهي.
تعليقات