المهن الفقيرة في المغرب: كيف يعيش العمال دون راتب يكفي؟ | تحليل 2025

المهن التي لا تغني ولا تسمن: واقع العمل الفقير في المغرب ودورة الفقر المستمرة


 المهن التي لا تغني ولا تسمن:نظرة على واقع العمل الفقير في المغرب

في قلب المغرب، بلد يجمع بين جمال الطبيعة والتراث الغني، يعيش ملايين المواطنين صراعاً يومياً مع الفقر والحاجة. رغم الإصلاحات الاقتصادية والنمو الذي شهده البلاد في العقود الأخيرة، إلا أن الواقع الاجتماعي يظل قاسياً على شرائح واسعة من السكان. وفقاً لتقارير المندوبية السامية للتخطيط، يعيش حوالي 1.42 مليون مغربي في حالة فقر مدقع بنهاية عام 2022، مع ارتفاع هذا العدد إلى 2.4 مليون شخص بحسب مؤشر الفقر متعدد الأبعاد لعام 2025 الصادر عن الأمم المتحدة. ومع تراجع معدل الفقر إلى 3.9% في 2023، إلا أن أكثر من 4 ملايين شخص ما زالوا مهددين بالوقوع فيه، خاصة في المناطق الريفية حيث يصل الفقر إلى 72% من الحالات.في هذا السياق، تبرز المهن المنخفضة الأجر كعامل رئيسي في استمرار دائرة الفقر. متوسط الراتب الشهري في المغرب لعام 2025 يبلغ حوالي 393.86 دولاراً أمريكياً (نحو 4000 درهم مغربي)، مما يضع البلاد في المرتبة التاسعة عربياً وثاني أدنى في المنطقة شمال أفريقيا بعد مصر. أما الحد الأدنى للأجور، فهو 3045 درهماً في القطاع الخاص (17.10 درهم للساعة)، و2418 درهماً في الزراعة، وهو ما يعادل أقل من 320 دولاراً أمريكياً شهرياً. هذه الأجور لا تكفي لتغطية احتياجات أسرة واحدة، خاصة مع ارتفاع تكاليف المعيشة بنسبة 5-7% سنوياً بسبب التضخم والأزمات المناخية.في هذا المقال المطول، سنستعرض بعض المهن التي يمكن أن يعيش صاحبها فقيراً، ولا تغني من جيبه، بل قد تدفعه إلى الاعتماد على الدعم الاجتماعي أو الهجرة غير الشرعية. سنركز على المهن الشائعة في القطاعات الزراعية، الخدمية، والصناعية، مع أمثلة واقعية وإحصاءات، لنفهم كيف تحول هذه الوظائف من مصدر رزق إلى قيد.الزراعة: عمال الأرض الذين يحصدون الفقرتُعد الزراعة عماد الاقتصاد المغربي، حيث يعمل فيها نحو 30% من القوى العاملة، خاصة في المناطق الريفية مثل سهول سوس والأطلس المتوسط. ومع ذلك، فإنها من أكثر المهن استنزافاً وأقلها أجراً. عمال الزراعة، الذين يقضون أيامهم في قطف الزيتون أو حصاد الطماطم تحت شمس حارقة، يكسبون أجراً يومياً لا يتجاوز 93 درهماً (حوالي 9.50 دولار)، أي 2418 درهماً شهرياً إذا عمل 26 يوماً.هذا الراتب الزائف لا يغطي سوى الطعام الأساسي، ناهيك عن السكن أو التعليم للأبناء. في تقرير للأمم المتحدة، يُشار إلى أن 72% من الفقراء في المغرب يعيشون في الريف، حيث تعتمد الأسر على هذه المهنة الموسمية التي تتوقف مع الجفاف أو الفيضانات. خذ مثالاً: محمد، عامل زراعي في منطقة تارودانت، يعمل 10 ساعات يومياً ليحصل على 80 درهماً، لكنه يعود إلى بيت طيني بدون كهرباء، وأطفاله يتسولون المدرسة. هذه المهنة لا تغني، بل تُفقر الجسد والروح، وتدفع الشباب إلى الهجرة نحو أوروبا عبر "البحر المتوسط الموت".خدمات النظافة والصيانة: الظلال غير المرئية للمدنفي المدن الكبرى مثل الدار البيضاء ورباط، حيث تتسارع عجلة التنمية، يعمل آلاف في مهن التنظيف والصيانة. هؤلاء "النظافيون" أو عمال الصيانة في المباني، يكسبون بين 3000 و4500 درهم شهرياً، وغالباً ما يُدفع لهم يومياً بـ100-150 درهماً دون تأمين اجتماعي. رغم أن عملهم أساسياً لصحة المدن، إلا أنهم يُعاملون كـ"غير مرئيين"، يعملون ليلاً ليجمعوا القمامة بأيدٍ عارية، معرضين للأمراض والإصابات دون تعويض.في استطلاع لموقع Bayt.com، يُصنف عمال التنظيف ضمن أدنى الرواتب، مع متوسط 3500 درهم، وهو أقل من خط الفقر الدولي الذي يبلغ حوالي 1300 درهم شهرياً للفرد الواحد (بناءً على 2.15 دولار يومياً). هذه المهنة تُورث الفقر عبر الأجيال؛ الأبناء يتركون المدرسة لمساعدة الوالدين، مما يُعمق الدورة. في الدار البيضاء، حيث يصل متوسط الرواتب إلى 5000 درهم، يظل هؤلاء خارج الدائرة، يعيشون في أحياء عشوائية تُدعى "البراري"، حيث ينفقون نصف دخلهم على النقل والإيجار.حراس الأمن: حراسة الثراء بأجور الفقرحراس الأمن، الذين يقفون أمام المباني الفاخرة والمصانع، يمثلون وجهاً آخر للعمل الفقير. راتبهم الشهري يتراوح بين 3500 و5000 درهم، مع نوبات عمل تصل إلى 12 ساعة يومياً دون إجازات منتظمة. في قطاع ينمو بسبب الاستثمارات الأجنبية، خاصة في طنجة والدار البيضاء، إلا أن الشركات الخاصة تدفع الحد الأدنى، مما يجعل الحارس يعتمد على "البقشيش" غير المنتظم.وفقاً لتقارير Hespress، يشكو حراس الأمن من عدم الاعتراف بحقوقهم، حيث يُصنف عملهم كـ"غير مهرة" رغم المخاطر الأمنية. أحمد، حارس أمن في مصنع نسيج بفاس، يقول إن راتبه 4000 درهم لا يكفي لإعالة أسرة من خمسة أفراد، فهو ينام في غرفة مشتركة ويأكل خبزاً جافاً. هذه المهنة لا تبني مستقبلاً، بل تُدمر الصحة والأحلام، وتُشجع على الاستغلال من قبل الشركات التي توفر تكاليفها على حساب العمال.العمالة المنزلية والخدم: النساء في قيود الفقرتُعد العمالة المنزلية من أكثر المهن انتشاراً بين النساء المغربيات، خاصة في المدن. الخادمات أو "الكرايات" يكسبن 2000-3000 درهم شهرياً، مع إقامة في المنزل أحياناً، لكنهن يعملن 14 ساعة يومياً دون حقوق أو تأمين. هذه المهنة، التي تشمل التنظيف والطبخ والرعاية، تُعاني من الاستغلال الشديد، حيث لا يُطبق عليها الحد الأدنى للأجور في كثير من الحالات.في تقرير للجزيرة نت، يُشار إلى أن النساء في هذه المهنة يشكلن 40% من المهددات بالفقر، مع ارتفاع معدلات العنف الأسري بسبب الضغوط المالية. فاطمة، خادمة في الرباط، تروي قصتها: "أعمل لأربع عائلات، لكن دخلي لا يغطي دواء أمي المريضة". هذه المهنة لا تغني، بل تُفقر الروح، وتُعيق تعليم الفتيات، مما يُعمق الفجوة الجندرية في المجتمع المغربي.عمال المصانع والتجزئة: صناعة الفقر في عصر التصنيعفي قطاع الملابس والنسيج، الذي يُصدر لأوروبا، يعمل مئات الآلاف في مصانع بتزنيت والدار البيضاء. رواتبهم تبدأ من 3200 درهم، مع حوافز ضئيلة، وغالباً ما تُخصم منها الغرامات على التأخير. عمال التجزئة في الأسواق أو المتاجر الصغيرة لا يتجاوز أجرهم 4000 درهم، مع عملهم في أماكن غير آمنة.وفقاً لـTime Doctor، يُصنف هؤلاء ضمن "المنخفضين الدخل" بـ4000 درهم، أي 415 دولاراً، وهو ما يجعلهم عرضة للديون والسهرات الطويلة. في مصنع بتزنيت، يشتكي العمال من الاستغلال الأجنبي، حيث يُباع الإنتاج بملايين اليورو بينما يعيشون في فقر مدقع. هذه المهن تُنتج الثراء للآخرين، لكنها تُنتج الفقر لأصحابها.تحليل اجتماعي: لماذا تفشل هذه المهن في مكافحة الفقر؟السبب الرئيسي هو غياب التنظيم والحماية الاجتماعية. رغم زيادة الحد الأدنى للأجور في 2025 بنسبة 5%، إلا أن التضخم يأكلها، ولا يُطبق في القطاع غير الرسمي الذي يشغل 40% من العمالة. كما أن نقص التعليم والتكوين يُقيد الترقية، مما يجعل هذه المهن "فخاً" لا مخرج منه. اجتماعياً، تُعمق هذه الوظائف التفاوت: الـ1% الأغنى يسيطر على 30% من الثروة، بينما يعاني الـ50% الأفقر من 10% فقط.بالإضافة إلى ذلك، الأزمات المناخية والجائحة أدت إلى فقدان وظائف، مما رفع البطالة إلى 13.3% في الربع الأول من 2025. الحلول المقترحة تشمل تعزيز التكوين المهني ودعم الاقتصاد الاجتماعي، لكن التنفيذ بطيء.خاتمة: نحو مستقبل أفضل أم استمرار الفقر؟المهن الفقيرة في المغرب ليست قدراً محتوماً، بل نتيجة سياسات اقتصادية تفضل الاستثمار على الإنسان. رغم الإنجازات في القضاء على الفقر المدقع كما أعلنت المندوبية السامية للتخطيط في 2025، إلا أن التحدي يكمن في جعل العمل مصدر كرامة وثراء حقيقي. يحتاج المغرب إلى إصلاحات جذرية: زيادة الأجور، تعزيز الحقوق، وتشجيع المهن الرقمية. حتى ذلك الحين، يظل ملايين المغاربة يعملون ليعيشوا، لا ليعيشوا جيداً. هل سنشهد تغييراً، أم سيستمر الفقر في حصاد أحلامهم؟ الإجابة بيد القادة والمجتمع.
تعليقات