الليلة الدامية والأسرار المدفونة داخل الجدار
الأم الشيطانية: قصة جريمة هزت أحياء طنجة
المقدمة: بيت من الرمال والأسرارفي أحياء طنجة العتيقة، حيث يلتقي البحر المتوسط بالرياح الشمالية الباردة، تقع حارة ضيقة تُدعى "الزقاق الأزرق"، نسبة إلى جدرانها المتشققة المطلية بلون أزرق باهت يذكر بأحلام المهاجرين الذين غادروا هذه الأرض بحثًا عن حياة أفضل. في أحد المنازل المتواضعة هناك، بيت طابقين مبني من الطوب الإسمنتي الرخيص، عاشت عائلة تبدو عادية من بعيد: أب، أم، وخمسة أولاد. كان المنزل يطل على سوق صغير مليء بروائح التوابل والسمك الطازج، حيث يبدأ اليوم بصوت الأذان من مسجد قريب، وينتهي بضجيج السيارات العتيقة التي تحمل العمال إلى الموانئ.كان محمد، الزوج والأب، رجلاً في الأربعينيات من عمره، يعمل سائقًا لشاحنة نقل بضائع بين طنجة وتطوان. كان قوي البنية، ذا لحية كثيفة سوداء، وعيون حادة تعكس سنوات من التعب والإحباط. نشأ محمد في قرية ريفية فقيرة قرب تطوان، حيث تعلم منذ الصغر أن الحياة قاسية، وأن الرجل يجب أن يسيطر على بيته كما يسيطر على الطريق الوعر. تزوج من فاطمة، فتاة في العشرينيات من عائلة متواضعة في طنجة، في زواج تقليدي رتّبته العائلتان ليوفرا لهما مأوى من الفقر. كانت فاطمة، اليوم في منتصف الخمسينيات، امرأة نحيلة ذات وجه شاحب وشعر أسود طويل يخفيه حجابها دائمًا. كانت تعمل خياطة في المنزل، تصنع ملابس للجيران مقابل حفنة من الدراهم، وتربي الأولاد بيدين خشنتين من الغسيل والطبخ.الأبناء الخمسة – أحمد (الأكبر، 21 عامًا الآن)، يوسف (19)، سعيد (17)، خالد (15)، وأحمد الصغير (13) – كانوا مزيجًا من البراءة والندوب. في البداية، كانت العائلة تبدو سعيدة: أعياد ميلاد بكعكة رخيصة، وأمسيات يجتمعون فيها حول تلفاز قديم يبث مسلسلات تركية. لكن تحت هذا السطح الهادئ، كان ينمو سمٌّ بطيء. محمد، الذي عانى من فقدان وظيفة سابقة بسبب إدمانه على الخمرة، أصبح يفرغ غضبه في المنزل. كانت الضربات تبدأ بسبب أتفه الأمور: طبق مكسور، أو تأخر في العشاء. "أنتِ لا تستحقين حتى الخبز الذي آكلينه!" كان يصرخ في فاطمة، وهي تتلوى على الأرض محاولة حماية رأسها. الأطفال، الذين كانوا يختبئون في غرفهم، سمعوا الصرخات ليالٍ طويلة، حتى أصبحت الجدران تشهد على جحيم يومي.مع مرور السنين، تحول الكره إلى خطة. فاطمة، التي كانت في الأصل امرأة هادئة تحب الصلاة والقراءة في القرآن، بدأت تغرس في عقول أولادها بذور الثأر. "أبوكم شيطان، يدمر حياتنا. لو لم يكن موجودًا، لعشنا في سلام"، كانت تهمس لهم أثناء الليالي الباردة، وهي تغطي كدماتها بكريم رخيص. الأبناء، الذين كانوا يبلغون أعمارهم بين 8 و15 عامًا في ذلك الوقت، بدأوا يرون الأب كعدو، لا كأب. أحمد الكبير، الذي ترك المدرسة ليعمل عاملاً في ورشة، كان الأكثر تأثرًا؛ كان يرى في أمه المنقذة الوحيدة. يوسف وسعيد، المراهقان، بدآ يدخنان سرًا، مستوحين من أصدقاء في الحارة، وخالد وأحمد الصغير كانا يبكيان كل ليلة، لكنهما تعلما الكراهية مبكرًا.كانت طنجة في تلك السنوات تشهد تحولات: المدينة السياحية النابضة بالحياة، مع موانئها الحديثة وأسواقها الدولية، تخفي تحت سطوحها جرائم يومية من الفقر والعنف. العائلة عاشت في هذا التناقض: من الخارج، كان محمد يُرى كرجل مجتهد، يعود كل مساء ببعض الدراهم لشراء الخبز. من الداخل، كان المنزل سجنًا. العرض: الليلة الدامية والأسرار المدفونةكانت الليلة الباردة من ديسمبر 2018، حيث يغرق الزقاق الأزرق في ضباب كثيف يخفي أضواء الشوارع الخافتة. محمد عاد إلى المنزل متأخرًا، بعد يوم طويل في نقل بضائع من الميناء، وكأس من الخمر في معدته جعله أكثر عنفًا. دخل المنزل وهو يثرثر بغضب: "أين العشاء؟ هل أنتِ تنتظرين أن أموت جوعًا؟" فاطمة، التي كانت في المطبخ الضيق، ردت بهدوء مصطنع: "الطعام جاهز، يا محمد. اجلس." لكن عينيها كانتا تحملان شرارة اليوم الذي طال انتظاره.الأطفال كانوا مجتمعين في غرفة الجلوس الواحدة، يتظاهرون باللعب بكرة قدم قديمة، لكنهم كانوا يترقبون الإشارة. أحمد الكبير، الذي كان يبلغ 15 عامًا آنذاك، أمسك بسكين المطبخ الحاد الذي أعدته أمه مسبقًا، مخفيًا تحت الوسادة. فاطمة، بصوت هادئ لكنه حازم، قالت للأولاد: "اليوم، ننقذ أنفسنا. هو لا يستحق الحياة التي يدمرها." محمد، غير مدرك للخطر، جلس على السرير العتيق في غرفة النوم، وهو يشعل سيجارة، متذمرًا من البرد والعمل.بدأت اللحظات الأخيرة بسرعة مذهلة. أحمد اندفع أولاً، يمسك بذراع أبيه القوية، بينما يوسف وسعيد يقفزان على ساقيه، يضغطان بكل قوتهما الفتية. محمد صاح مذهولاً: "ما هذا الجنون؟ أيها الأولاد، أتركوني!" لكنه لم يكن يتخيل أن يديه الخاصة، التي ضُرِبَتْ بها عائلته لسنوات، ستُقَيَّدُ الآن. فاطمة، التي كانت تنتظر اللحظة، أمسكت بالسكين من يد أحمد، وغرزتها في صدر زوجها مرة تلو الأخرى. الدماء سالت كالنهر، تغمر الفراش الأبيض البالي، وتملأ الغرفة برائحة معدنية مرعبة. محمد حاول الصراخ، لكنه خنقته الطعنات السبع عشرة التي أصابت قلبه ورئتيه. الأطفال، الذين كانوا يبكون ويصرخون في البداية، أصبحوا صامتين، يشاهدون الأمر كحلم مرعب. خالد الصغير، البالغ 7 أعوام، غطى عينيه بيديه، لكنه لم يغادر المكان.استغرق القتل دقائق قليلة، لكن الإخفاء كان يتطلب ساعات من الرعب. فاطمة، التي كانت ترتجف لكن عقلها يعمل كآلة، أمرت الأولاد بحمل الجثة إلى الحمام الخلفي. كانت الجثة ثقيلة، مغطاة بالدماء، وكل خطوة كانت تترك أثرًا أحمر على الأرضية الإسمنتية. هناك، في زاوية الحمام، كان هناك جدار نصف مبني كان محمد نفسه بدأ ببنائه لتوسيع المنزل. فاطمة، بمساعدة أحمد ويوسف، قصّت الجثة إلى أجزاء باستخدام السكين والمنشار الصغير من أدوات محمد. الدموع اختلطت بالدماء، والأطفال كانوا يتقيؤون، لكن أمهم كانت تهمس: "هذا لأجلنا، يا ولادي. لن يعود الشيطان." دفنوا الأجزاء داخل الجدار، ثم صبّوا الإسمنت فوقها، يغسلون الأرض بالماء البارد لإزالة الآثار. بحلول الفجر، كان الجدار كاملاً، وكأن شيئًا لم يحدث.الحياة بعد الجريمة كانت مسرحية مروعة. فاطمة أخبرت الجيران أن محمد "غادر إلى تطوان للعمل في مشروع جديد"، وأرسلت الأطفال إلى المدرسة كالمعتاد. لكن السر كان يأكل العائلة من الداخل. الأبناء أصبحوا انطوائيين، يتجنبون الأصدقاء، ويتقاتلون فيما بينهم بسبب الكوابيس. أحمد ترك الورشة وبدأ يتعامل مع تجار المخدرات في الحارة، مستوحى من قصص الثراء السريع. فاطمة، التي كانت تخيط، بدأت تبيع الحشيش للجيران لتغطية النفقات، محولة المنزل إلى مخبأ صغير. السنوات مرت: 2019، 2020، 2021... الجدار كان يهمس بسرّه كلما مرت فاطمة بجانبه، لكنها كانت تتجاهله، تغني أغاني قديمة للأطفال لتهدئتهم.في مايو 2024، انهار كل شيء. كانت الشرطة في طنجة تتحقق من شبكة تهريب مخدرات صغيرة في الحارة، ووصلت إلى أحمد، الذي كان يبيع الحشيش في السوق. أثناء التحقيق في مركز الشرطة، سأل الضابط أحمد عن والده: "أين أبوك؟ لماذا لا يظهر في الوثائق العائلية منذ سنوات؟" أحمد، تحت الضغط، انهار وبكى، ثم اعترف بكل شيء. الشرطة اقتحمت المنزل في صباح يونيو 2024، حيث وجدت فاطمة تجلس على الأرض، محاطة بالأولاد الذين كانوا يرتجفون. "كان يجب أن أفعل ذلك"، قالت فاطمة بهدوء، وهي تشير إلى الجدار. استخدموا المثاقب الكهربائية لفتحه، وخرجت رائحة الموت المكبوتة، مع عظام مبيضة وأجزاء محنية من جثة محمد. الجيران تجمعوا خارج المنزل، يهمسون بصدمة: "كيف لم نلاحظ؟"التحقيق كان مكثفًا. اعترفت فاطمة بكل التفاصيل، قائلة إن القتل كان "دفاعًا عن النفس والأطفال"، ووصفت الضرب اليومي الذي عاشته لسنوات. الأبناء، الذين كانوا الآن مراهقين وشبابًا، شهدوا بأنهم "أُجْبِرُوا"، لكنهم اعترفوا بمشاركتهم. الطب الشرعي أكد أن الطعنات كانت عميقة، وأن الجثة محفوظة جيدًا بسبب الإسمنت. القضية انتقلت إلى محكمة الاستئناف في طنجة، حيث ناقشت غرفة الجنايات الابتدائية التفاصيل في جلسات علنية هزت الرأي العام. الصحف المغربية غطتها بعناوين مثل "الأم الشيطانية" و"جريمة الجدار الدامي"، وأثارت نقاشات حول العنف الأسري والمسؤولية القانونية للقاصرين.الخاتمة: أحكام الزمن والندم المتأخرفي ديسمبر 2024، أصدرت المحكمة حكمها النهائي، بعد جلسات دامت أشهرًا. فاطمة، الجناة الرئيسية، حُكِمَ عليها بالسجن 25 عامًا نافذًا، بتهمة القتل العمد والإخفاء. أحمد الكبير، الذي كان الأكثر مشاركة، حصل على السجن المؤبد، مع إمكانية الاستئناف بعد 20 عامًا. يوسف وسعيد حصلا على 20 عامًا كل، بسبب دورهما في الإمساك والإخفاء، بينما خالد وأحمد الصغير، اللذان كانا أصغر سنًا، حُكِمَ عليهما بـ10 سنوات مع إمكانية الإفراج المشروط بعد 5 سنوات، مع علاج نفسي إلزامي. مجموع الأحكام بلغ 77 عامًا سجنًا، رمزًا للظلام الذي ألقته العائلة على نفسها.اليوم، المنزل في الزقاق الأزرق فارغ، مغلق بأقفال صدئة، والجيران يتجنبونه كمكان مسكون. فاطمة، من خلف جدران السجن في طنجة، تكتب رسائل إلى أولادها، تعتذر فيها عن "اللعنة التي ألقيتها عليهم". الأبناء، الذين نقل بعضهم إلى مراكز إصلاحية، يحاولون إعادة بناء حياتهم، لكنهم يحملون ندوبًا لا تمحى. القضية أثارت حملات توعية في المغرب حول العنف الأسري، مع دعوات لقوانين أقوى لحماية النساء والأطفال، وأصبحت دراسة حالة في علم النفس الجنائي.في النهاية، هذه القصة ليست مجرد جريمة، بل مرآة للمجتمع: كيف يمكن للعنف أن يولد عنفًا أكبر، وكيف يمكن للحب الملتوي أن يصبح قاتلاً. محمد، الضحية، كان وحشًا في بيته، لكنه أصبح شبحًا مدفونًا. فاطمة، المنقذة في عيون أولادها، أصبحت الشيطانة في عيون العالم. والأطفال، الذين كانوا أبرياء، أصبحوا مجرمين بسبب صمت المجتمع. إنها تذكير بأن الجدران لا تخفي الأسرار إلى الأبد، وأن العدالة، مهما تأخرت، تأتي لتكشف الظلام.