العدالة المتأخرة: اعتقال جلاد حلب شاهر البج ورامي مياسة

 اعتقال "جلاد حلب" ورامي مياسة: محاسبة مجرمي النظام السوري البائد

المقدمةفي أعقاب سقوط نظام بشار الأسد، الذي طال أمده لأكثر من نصف قرن، بدأت سوريا تشهد تحولات جذرية في مسارها نحو بناء دولة جديدة قائمة على العدالة والكرامة. بعد سنوات من الانتهاكات الوحشية، والمجازر، والتعذيب المنهجي الذي ارتكبته أجهزة النظام وميليشياته ضد المدنيين، أصبحت محاسبة الجناة أولوية ملحة لاستعادة الثقة في المؤسسات وشفاء الجراح الجماعية للشعب السوري. في الأيام الأخيرة من أكتوبر 2025، أعلنت وزارة الداخلية السورية الجديدة عن اعتقالات بارزة لمجرمين تورطوا في جرائم حرب وانتهاكات جسيمة خلال عهد النظام البائد. من بين هؤلاء، يبرز اعتقال شاهر عبد الله البج، الملقب بـ"جلاد حلب"، الذي أرهب سكان المدينة الكبرى بتعذيبه الوحشي وإهاناته المسجلة على الإنترنت، وكذلك رامي مياسة، المقرب من قادة الميليشيات الإرهابية ومشارك في إحدى أبشع المجازر في دمشق. هذه الاعتقالات ليست مجرد عمليات أمنية روتينية، بل هي رموز لانتقال السلطة من يد الظالمين إلى يد العدالة، وتأكيد على أن "الجلاد" اليوم يصبح "السجين"، كما يقول أحد النشطاء السوريين. في هذا المقال، سنستعرض تفاصيل هذين الاعتقالين، خلفيات الجناة، وتأثيرهما على المشهد السوري الجديد، مستندين إلى تقارير أمنية وإعلامية موثوقة.العرضشاهر البج: الشبيح الذي حوّل التعذيب إلى عرض إعلاميحلب، المدينة التي كانت يوماً رمزاً للتراث السوري والتجارة، تحولت خلال الثورة السورية إلى ساحة للدمار والرعب بفضل أشخاص مثل شاهر عبد الله البج. هذا الشبيح، الذي يُعرف بلقب "جلاد حلب"، كان أحد أبرز رموز الوحشية في عهد النظام البائد، حيث عمل كعنصر في ميليشيات "الشبيحة" التابعة للأسد، وهي مجموعات غير نظامية مسؤولة عن القتل والإرهاب ضد المدنيين. ولد البج في حلب، وسرعان ما انخرط في صفوف النظام منذ بداية الاحتجاجات السلمية عام 2011، مستغلاً موقعه الجغرافي في حي حيان الشعبي لتنفيذ عمليات الاعتقال التعسفي والسطو المسلح.تفاصيل جرائم البج تكشف عن شخصية مريضة تجعل من التعذيب فنّاً إعلامياً. في عام 2020، نشر البج فيديو على مواقع التواصل الاجتماعي يظهره وهو يعذب مدنياً بريئاً، يجبره على تقبيل قدميه، ويسبّه بألفاظ خارجة عن الحد، ويبصق عليه، بينما يصور المشهد بكاميرا هاتفه ليبثه مباشرة. هذا الفيديو، الذي انتشر على نطاق واسع، أثار غضباً شعبياً هائلاً، لكنه لم يؤدِ إلى اعتقاله في ذلك الوقت بسبب حماية النظام له. كما نشر صوراً شخصية يظهر فيها وهو يدهس سيارته على جثث قتلى، في إشارة صارخة إلى تفاخره بالقتل. وفقاً لتقارير من "موقع شام" الإخباري، تورط البج في عمليات قتل جماعي واعتقالات تشبيحية في حي حيان، حيث كان يقود مجموعات مسلحة تستهدف المتظاهرين والناشطين، مما أدى إلى مقتل عشرات المدنيين ونهب ممتلكاتهم. كانت جرائمه ليست عشوائية، بل جزءاً من استراتيجية النظام لكسر إرادة الثوار في حلب، المدينة التي شهدت معارك شرسة بين 2012 و2016، حيث سقط آلاف الضحايا.جاء اعتقال البج في 31 أكتوبر 2025، بعد حملة أمنية واسعة نفذتها مديرية الأمن الداخلي في حلب بالتعاون مع فرع مكافحة الإرهاب. وفقاً لتصريحات رسمية من وزارة الداخلية، تم القبض عليه في مخبأ سري في ضواحي المدينة، بعد خمس سنوات من الفيديو المشين، حيث كان يعتقد أنه نجا من العدالة. أحيل إلى القضاء المختص لاستكمال التحقيقات، وسط احتفاء شعبي بسيط لكن عميق، إذ أعاد الاعتقال ذكريات الرعب إلى أذهان الناجين. هذا الاعتقال يُعد انتصاراً لضحايا حلب، الذين يرون فيه بداية لإغلاق صفحة الشبيحة، تلك الميليشيات التي كانت تُدار من قبل رموز مثل ماهر الأسد وغيرهم.رامي مياسة: شريك في مجزرة التضامن وأحد أذرع الإرهاب المنظمفي الوقت نفسه، شهد ريف دمشق اعتقالاً آخر يُعزز من حملة المحاسبة، وهو اعتقال رامي مياسة، الشخصية الإجرامية التي كانت تُعرف بقربها من أمجد يوسف، أحد قادة الميليشيات الإرهابية في دمشق. مياسة، الذي يُعتقد أنه في الأربعينيات من عمره، كان يعمل كوسيط بين الميليشيات والأجهزة الأمنية للنظام، مستفيداً من شبكة علاقاته للتورط في جرائم حرب. على عكس البج الذي كان "جلاداً" ميدانياً، كان مياسة "منظماً"، يساهم في تخطيط العمليات الإرهابية وتنفيذها، مما يجعله شريكاً مباشراً في إحدى أبشع الفصول من تاريخ النظام: مجزرة حي التضامن.مجزرة التضامن، التي وقعت في ديسمبر 2012 في حي شعبي بدمشق، أسفرت عن مقتل أكثر من 100 مدني، معظمهم نساء وأطفال، جراء إطلاق نار عشوائي وتفجيرات نفذتها ميليشيات النظام بدعم من حزب الله وإيران. كان مياسة، حسب التحقيقات الأولية، أحد المشاركين الرئيسيين في هذه المجزرة، حيث قاد مجموعة من المدعومين ليوسف في الاقتحام والإعدامات الجماعية. وثقت منظمات حقوقية مثل "اللجنة السورية لحقوق الإنسان" تورطه في جرائم أخرى، بما في ذلك الاعتقالات التعسفية والتعذيب في مراكز الاحتجاز في ريف دمشق، حيث كان يقدم تقارير استخباراتية عن المتظاهرين لأجهزة المخابرات. كانت جرائمه تتجاوز القتل إلى النهب والابتزاز، مستغلاً الفوضى لجمع ثروات غير مشروعة من السكان الذين أجبرهم على الهرب أو الخضوع.تم القبض على مياسة في 30 أكتوبر 2025، في مدينة جرمانا جنوب دمشق، خلال عملية مشتركة بين الأمن الداخلي وإدارة مكافحة الإرهاب. كان مختبئاً في منزل متواضع، محاولاً التمويه كمواطن عادي، لكن التحقيقات الأمنية كشفت عن شبكة دعم له من فلول النظام. أعلن التلفزيون السوري عن الاعتقال، مشدداً على أن مياسة متهم بـ"جرائم حرب بحق السوريين"، ودعا الضحايا إلى تقديم شكاواهم إلى مركز الأمن في جرمانا. هذا الاعتقال يأتي في سياق حملة أوسع أعلنت عنها وزارة الداخلية، شملت اعتقال عشرات المتورطين في انتهاكات النظام، بما في ذلك ضباط سابقون في الأمن العسكري.يبرز ربط هذين الاعتقالين في حملة واحدة أهمية الجهود المنسقة للأجهزة الأمنية السورية الجديدة، التي تعتمد على التعاون بين المحافظات والاستخبارات المركزية. فبينما كان البج رمزاً للرعب في الشمال، يمثل مياسة الإرهاب المنظم في الجنوب، وكلاهما يعكسان آليات النظام في استخدام الشبيحة والميليشيات لقمع الثورة. هذه الاعتقالات أثارت تفاعلاً واسعاً على وسائل التواصل، حيث يرى السوريون فيها خطوة نحو "العدالة الانتقالية"، لكنها تثير أيضاً تساؤلات حول مصير الآلاف من الجناة الآخرين الذين ما زالوا طلقاء.الخاتمةاعتقال شاهر البج ورامي مياسة ليس نهاية الطريق، بل بداية مسيرة طويلة نحو العدالة في سوريا الجديدة. بعد عقود من الصمت المرعوب والدفن الجماعي، أصبحت هذه الاعتقالات رسالة واضحة: لا مكان للجلادين في المستقبل الذي يحلم به السوريون. إنها تُعيد الأمل إلى الناجين، الذين يرون في محاكمات الجناة فرصة لشفاء الجراح ومنع تكرار الوحشية. ومع ذلك، يظل التحدي كبيراً: كيفية بناء نظام قضائي مستقل، وجمع الأدلة من آلاف الشهود، ومواجهة الضغوط الخارجية من الداعمين السابقين للنظام. في النهاية، يقول الشعب السوري: "أنت كنت سجاني، وأنا الآن سجانك"، كما في تلك العبارة الشهيرة التي ترددت بعد الاعتقالين. سوريا اليوم ليست مجرد أرض محررة، بل أمة تسعى للعدالة، وستظل هذه الاعتقالات شاهداً على إصرارها على عدم النسيان.
تعليقات