من سيدي مومن إلى قلب الدار البيضاء: قصة الدم واليأس والأمل بعد 22 عامًا على أكبر هجوم إرهابي في تاريخ المغرب
قضية 16 مايو في الدار البيضاء: صدمة الإرهاب وآثارها الدامية
المقدمة: ليلة الرعب في قلب الدار البيضاءفي ليلة السبت 16 مايو 2003، تحولت مدينة الدار البيضاء، العاصمة الاقتصادية للمملكة المغربية، إلى مسرح لسلسلة من التفجيرات الإرهابية الأكثر دموية في تاريخها الحديث. كانت هذه الهجمات المتزامنة، التي نفذها 14 انتحاريًا باستخدام أحزمة ناسفة، أولى عمليات الإرهاب الانتحاري في المغرب، وأسفرت عن مقتل 45 شخصًا، معظمهم مدنيون، وإصابة أكثر من 100 آخرين. لم تكن هذه التفجيرات مجرد حدث عابر، بل كانت نقطة تحول في مسار مكافحة الإرهاب بالمغرب، حيث أثارت صدمة جماعية وأجبرت الحكومة على إعادة صياغة استراتيجياتها الأمنية والاجتماعية.تُعرف هذه الأحداث بـ"قضية 16 مايو"، وهي مرتبطة ارتباطًا وثيقًا بالجماعات السلفية الجهادية، التي يُعتقد أنها لها صلات بتنظيم القاعدة. وقعت بعد أيام قليلة من تفجيرات الرياض في السعودية، مما أثار تساؤلات حول وجود تنسيق دولي. في هذه المقالة، سنستعرض الخلفية التاريخية، تسلسل الأحداث، الجناة، التحقيقات، والتأثيرات الطويلة الأمد، مع الاستناد إلى شهادات وروايات شخصية، لنرسم صورة شاملة لهذه القضية التي غيرت وجه المغرب.الخلفية: جذور التطرف في أحياء التهميشقبل الغوص في تفاصيل الليلة المأساوية، يجب فهم السياق الاجتماعي والسياسي الذي مهد لها. في التسعينيات، شهد المغرب صعودًا للتيارات الإسلامية المتطرفة، مستمدة من الجماعة الإسلامية المقاتلة في المغرب (GIMF)، التي كانت تروج لأيديولوجيا جهادية تتأثر بالقاعدة. كانت هذه الجماعات تجند من الأحياء الشعبية المهمشة، مثل حي سيدي مومن في الدار البيضاء، حيث يعيش آلاف الشباب في ظروف معيشية قاسية: دور صفيح، بطالة مرتفعة، وبؤس يغذي اليأس.حي سيدي مومن، الذي يقطنه اليوم أكثر من 700 ألف نسمة، كان في 2003 رمزًا للتهميش. كاريانات مثل طوما، زرابة، والرحامنة كانت مليئة بدور الصفيح، وغياب الخدمات الأساسية مثل المدارس والمستشفيات. يقول أحمد بريجة، الرئيس السابق للمقاطعة: "كانت الأراضي ضيعات فلاحية مهمشة، والسكان يعانون من الجهل والفقر". هذا الواقع جعل الحي خصبًا للتجنيد الإرهابي، حيث وجد الشباب في الخطاب السلفي الجهادي مخرجًا لإحباطاتهم.علاوة على ذلك، كان المغرب يعاني من توترات إقليمية، خاصة مع الجزائر، وتأثير الحروب في أفغانستان والعراق على الشباب المغربي. يُعتقد أن زعيمًا مثل أبو مصعب الزرقاوي، الذي أصبح لاحقًا زعيم القاعدة في العراق، لعب دورًا في تشجيع مثل هذه العمليات. ومع ذلك، لم تتبنى أي جماعة مسؤولية رسمية عن التفجيرات، مما أثار نظريات مؤامرة، كما في شهادة محمد العماري، الذي وصفها بـ"مؤامرة كبرى" للقضاء على الحركة الإسلامية المعتدلة.تسلسل الأحداث: ليلة الدماء والفوضىبدأت الهجمات حوالي الساعة 10:45 مساءً، في ليلة هادئة في الدار البيضاء. كان المنفذون، معظمهم شبان بين 20 و24 عامًا من سيدي مومن، يرتدون أحزمة ناسفة محشوة بـ1.5 كيلوغرام من المتفجرات لكل واحد. استهدفوا خمسة مواقع رئيسية، ترمز إلى "الحضارة الغربية واليهودية" حسب الادعاءات اللاحقة.أول الهجمات وقعت في مطعم "كازا دي إسبانيا"، الذي يملكه إسباني، حيث قتل المهاجمون حارس الأمن بالسكين ثم فجروا أنفسهم داخل المطعم المزدحم بالزبائن. أسفر هذا الانفجار عن مقتل 20 شخصًا، معظمهم مغاربة، وإصابة العشرات. كان المشهد مرعبًا: أجساد مشوهة، جدران مدمرة، وصرخات الجرحى تملأ الهواء.ثم توجه مهاجمون آخرون إلى فندق "فرح"، الفندق الخمس نجوم الفاخر، حيث فجروا أنفسهم عند المدخل، مما أدى إلى مقتل البواب وحامل الأمتعة، وإصابة عدة نزلاء أجانب. في الوقت نفسه، حاول اثنان تفجير مقبرة يهودية بجهاز تحكم عن بعد، مما أسفر عن مقتل ثلاثة أشخاص قريبين، بينما فشل هجوم آخر على المركز الاجتماعي اليهودي لأنه كان مغلقًا.في حي البرنوصي، فجر مهاجم نفسه قرب مطعم إيطالي، مما أدى إلى مقتل رجلي شرطة مغربيين، وكان الهجوم قريبًا من القنصلية البلجيكية. في جميع الهجمات، قتل 12 من المنفذين، بينما اعتقل اثنان قبل تنفيذ عملهما. استمرت الفوضى طوال الليل، مع انتشار الشائعات وإغلاق الشوارع، ووصول الملك محمد السادس إلى الموقع في اليوم التالي للتضامن مع الضحايا.الأهداف والضحايا: رموز الهجوم على الآخركانت الأهداف مدروسة: مطعم إسباني، فندق فاخر، مراكز يهودية، ومطعم إيطالي، ترمز جميعها إلى الغرب واليهودية في نظر المتطرفين. قُتل 45 شخصًا، منهم 31 مدنيًا و14 من رجال الأمن، بما في ذلك 8 أوروبيين (3 إسبان). الجرحى تجاوزوا 100، بعضهم ما زال يعاني من الآثار النفسية حتى اليوم.من بين الضحايا، كان هناك عائلات كاملة في المطعم الإسباني، ونزلاء أجانب في الفندق. أدت التفجيرات إلى حالة من الذعر الجماعي، حيث أغلقت المدارس والأسواق، وانخفض السياحة بنسبة 30% في الأشهر اللاحقة.الجناة والتحضير: شباب اليأس أم أدوات مؤامرة؟كان المنفذون 14 شابًا من سيدي مومن، بمستويات تعليمية منخفضة وخلفيات اجتماعية صعبة. محمد العماري، الناجي الثاني، وصف في شهادته المثيرة لعام 2005 كيف وصلت المتفجرات جاهزة قبل ساعة من التنفيذ، وأن الشباب لم يكن لديهم خبرة في صنعها. نفى صلة بالجماعات الدولية، معتبرًا الأحداث "مؤامرة" لإضعاف الإسلاميين المعتدلين، وشبهها بعمليات الموساد في العراق.عبد الفتاح بويقضان كان المسؤول التنظيمي، لكنه تراجع في اللحظة الأخيرة. يُشير التحقيق إلى صلات بالسلفية الجهادية، لكن العماري ينفي أي تنظيم داخلي أو خارجي.التحقيقات والمحاكمات: اعتقالات جماعية وجدل حقوقيبعد التفجيرات، أعلنت السلطات حالة الطوارئ، واعتقلت أكثر من 2000 مشتبه به، معظمهم من سيدي مومن. بدأت المحاكمات في مايو 2004، حيث حكم على 9 متهمين بالإعدام أو السجن المؤبد، لكن 9 هربوا من سجن القنيطرة في 2008 بحفر نفق.أثار التحقيق جدلاً حقوقيًا: اتهامات بالتعذيب، الحبس الانفرادي، والاعترافات المستخرجة بالقوة. في 2016، طالب معتقلون سابقون بتحقيق جديد، معتبرين التفجيرات "كذبة كبرى". أصدر المغرب قانونًا جديدًا لمكافحة الإرهاب، لكنه وُصف بأنه ينتهك الحريات.التأثيرات الفورية: صدمة وإعادة هيكلة أمنيةأدت التفجيرات إلى رفع الإنذار الأمريكي إلى الأسود، وإدانة دولية. زار الملك المواقع، وأطلقت حملة أمنية استباقية، فككت عشرات الخلايا. اقتصاديًا، انخفض الاستثمار الأجنبي مؤقتًا، واجتماعيًا، زاد التمييز ضد السلفيين.التأثيرات طويلة الأمد: إعادة بناء سيدي مومن ومكافحة التطرفبعد 20 عامًا، شهد سيدي مومن تحولًا جذريًا بفضل برنامج التنمية 2007-2010 (200 مليار سنتيم)، الذي اجتث البراريك وأنشأ سكنًا لائقًا، مدارس، ومرافق صحية. يقول رشيد باهي: "اليوم أفضل من الأمس". أُنشئت مراكز مثل "إدماج" لتكوين الشباب، وتدرب 6000 شاب.أطلق برنامج "مصالحة" في 2017 لإعادة دمج المتطرفين، مع دعم نفسي وديني. رغم ذلك، استمرت الهجمات، مثل مراكش 2011 وإيغرد 2018. يعاني الحي من بطالة ومخدرات، وأسر المعتقلين تنتظر عفوًا، كما تقول شقيقة أحد المحكومين بالمؤبد: "نحن من حُكم علينا". محمد الماموني، معتقل سابق، حصل على إجازتين في السجن وأصبح سائقًا بعد العفو.الروايات الشخصية: أصوات من الجرح المفتوحتُضيف الشهادات عمقًا إنسانيًا. يقول محمد كمسي: "الوضع يختلف تمامًا عن دور الصفيح". أما عبد الحق الضاف، فيرى في المركز التنموي أملًا للشباب. لكن محمد الماموني ينفي الجريمة: "استنكرنا الحدث، وكانت أيدي خفية وراءه". هذه الروايات تكشف عن جرح لم يندمل بعد.الخاتمة: دروس من الرمادقضية 16 مايو ليست مجرد تفجيرات، بل درس في مخاطر التهميش وأهمية التنمية الشاملة. غيرت المغرب استراتيجيته، لكن التحديات مستمرة: تطرف عابر للحدود، وبؤس اجتماعي. اليوم، مع عودة مسلحين من سوريا، يظل التركيز على الوقاية. كما قال الملك محمد السادس: "الإرهاب عدو مشترك". هذه القضية تذكرنا بأن السلام يبنى بالعدل، لا بالقوة وحدها.