هل بيعت القيم الفنية في المغرب؟ بين الغناء النابي والسينما الإباحية

 غياب النقاد والمراقبين: تحول المجال الفني المغربي نحو التجارة الرخيصة


المجال الفني في المغرب بين التجارة والقيم الضائعة

في قلب المغرب الذي يجمع بين التراث الغني والحداثة المتسارعة يقع المجال الفني كمرآة تعكس نبض المجتمع وتحدياته. منذ عقود كان الفن المغربي يعبر عن الهوية الثقافية والدينية العميقة مستمدا من جذور امازيغية وعربية واسلامية تجعله يحمل رسائل تعليمية وترفيهية في آن. لكن في السنوات الاخيرة شهد هذا المجال تحولا جذريا نحو الجانب التجاري الذي يفرض نفسه كقانون غير مكتوب يحكم الانتاج والعرض. الغناء والتمثيل والسينما اصبحت مجالات تتسابق فيها الشركات المنتجة لتحقيق الارباح بغض النظر عن التأثير على القيم الاجتماعية والاخلاقية. وفي بلد اسلامي محافظ مثل المغرب حيث يعلم الجميع حدود اللياقة والحشمة يبرز سؤال مؤلم هل بيعت القيم فعلا واصبح الفن سلعة رخيصة تُقحَم فيها الكلمات النابية واللقطات الاباحية لجذب المشاهد؟ واين ذهب النقاد الذين كانوا يبررون الجميل ويحذرون من القبيح ويوجهون الجمهور نحو ما يفيد ويبتعدون عما يضر؟ هذا المقال يغوص في اعماق هذه الظاهرة مركزا على غياب النقاد والمراقبين الذين كانوا حارسا للمنتوج الفني المغربي ويستعرض تطور الغناء والسينما مع التركيز على الجانب التجاري الذي يهدد الهوية الثقافية.تطور الغناء المغربي من التراث الى الانتاج التجاريبدأ الغناء المغربي كفن شعبي يعكس الحياة اليومية والقيم الاجتماعية. في الثلاثينيات من القرن الماضي شهدت الموسيقى المغربية نهضة كبيرة مع رواد مثل محمد التاجي ومحمد الغيث يوسفي الذين مزجوا بين التراث الاندلسي والغناء الشعبي ليخلقوا اسلوبا يحمل رسائل وطنية واجتماعية. كانت الاغاني تعبر عن الحب والوطنية والحكمة دون تجاوز للحدود الاخلاقية وكانت تُسمع في المناسبات العائلية والدينية كالمواسم والاعياد. هذا التراث الغني امتد الى الستينيات مع فنانين مثل عبد الهادي بلخياط وطارق الشعيبي الذين جعلوا الغناء المغربي يتجاوز الحدود ويصل الى الجمهور العربي.لكن مع العولمة والتوسع الرقمي في العقود الاخيرة تغير المشهد. اصبح الغناء مجالا تجاريا يسيطر عليه المنتجون والمنصات الرقمية مثل يوتيوب وسبوتيفاي حيث يُقاس النجاح بعدد المشاهدات لا الجودة الفنية. هنا برزت الظاهرة الجديدة للاقحام الكلام النابي والمحتوى الاستفزازي لجذب الشباب. في المغرب بلد يحافظ على قيمه الاسلامية والعائلية اصبحت الاغاني الراب والشعبية الجديدة تحمل كلمات تتحدث عن الجنس والمخدرات بطريقة صريحة كأنها تحدي للتقاليد. على سبيل المثال فرق مثل كناوة ديفيزيو وغيرهم من الفنانين الشباب ينتجون اغاني مثل "دوكا دوكا" و"يا لايمي" التي تجمع بين التراث والحداثة لكنها غالبا ما تقع في فخ التجارة بإدخال كلمات نابية لزيادة الانتشار. هذا التأثير التجاري يدفع الفنانين الى التخلي عن الجودة مقابل الشهرة السريعة فبدلا من الاغاني الهادفة التي كانت تُسمع في الراديو وتُحفظ في الذاكرة اصبحت الاغاني قصيرة ومثيرة للجدل لتحقيق ملايين المشاهدات.المشكلة لا تقتصر على الكلمات النابية بل تمتد الى فقدان الرسالة الاجتماعية. في السابق كان الغناء يعالج قضايا مثل الفقر والحرية والحب النبيل لكن اليوم يغلب عليه الجانب الاستهلاكي الذي يبيع الجسد والعواطف السطحية. وهنا يبرز سؤال هل بيعت القيم؟ نعم في كثير من الحالات لان المنتجين يعرفون ان الجمهور الشاب ينجذب للمحتوى الجريء وهذا يضمن الارباح. لكن هذا التحول يهدد الهوية المغربية التي تعتمد على الاحترام والحشمة ويجعل الغناء يفقد دوره التعليمي والترفيهي الصحي.التمثيل والسينما المغربية بين الواقعية والاستغلال التجاريالسينما المغربية التي بدأت في الستينيات كفن ملتزم بالواقع الاجتماعي مع مخرجين مثل حميد بن المهدي ومحمد العدوي شهدت تطورا ملحوظا في الالفية الجديدة. اصبحت تنتج اكثر من 20 فيلما سنويا وتشارك في المهرجانات الدولية لكن هذا التطور جاء مصحوبا بغلبة السيناريوهات التجارية التي تفضل الدراما الخفيفة والكوميديا السطحية على القصص الهادفة. الافلام الاجتماعية التي تتحدث عن الفقر والمهاجرة والمرأة لا تزال موجودة لكنها قليلة مقارنة بالانتاج التجاري الذي يهدف الى الربح السريع من خلال قاعات السينما والمنصات الرقمية.من بين انواع الافلام التي تطغى عليها التجارية تلك الكوميديات العائلية الممزوجة بالدراما الرومانسية والتي غالبا ما تقع في فخ الاقحام الكلام النابي واللقطات الجريئة. في بلد محافظ مثل المغرب حيث يعلم الممثلون جيدا حدود اللياقة اصبحت هذه العادة الجديدة شائعة لجذب الجمهور الشاب. على سبيل المثال فيلم "لحظة ظلام" للمخرج نبيل عيوش عام 2003 كان اول فيلم منعته الرقابة في الالفية الجديدة بسبب لقطات اباحية ومشاهد جنسية مثلية مكشوفة مما اعتبر تسليعا للجسد بدلا من توظيفا دراميا. وفيلم "المنسيون" الذي عرض في مهرجان الفيلم العربي بوهران عام 2010 حرك جدلا كبيرا بسبب مشاهد ساخنة طردت العائلات من قاعات السينما مما اعاد فتح نقاش طابو الجنس في السينما العربية.امثلة اخرى كثيرة مثل فيلم "ماروك" للمخرجة ليلى العمراني الذي اثار جدلا بسبب الكلام البذيء في الحوارات والمشاهد الجنسية الساخنة وفيلم "جناح الهوى" لعبد الحي العراقي عام 2011 الذي تناول المفاهيم الخاطئة عن الجنس لكنه اعتمد على لقطات جريئة لضمان الشهرة في المهرجانات الاسبانية. هذه الافلام تُقدَّم تحت ستار الواقعية لكنها في الغالب تكون استغلالا تجاريا يعتمد على الجرأة لتحقيق المبيعات. الممثلون الذين يعلمون جيدا بطبيعة المجتمع الاسلامي المغربي يقبلون بهذا لان الرفض يعني فقدان الفرص والدور الرئيسي. وهكذا اصبحت السيناريوهات تتسم بالتجارية الخالصة حيث يُقحَم الكلام النابي كـ"تخسار الهضرة" واللقطات الاباحية المجانية لتكون بطاقة جذب للمشاهدين مما يجعل العائلات تتجنب القاعات ويحول السينما الى سلعة للشباب فقط.هذا التحول يثير تساؤلا عميقا هل بيعت القيم؟ الاجابة نعم في كثير من الجوانب لان الضغط التجاري يدفع المخرجين والممثلين الى التخلي عن الالتزام الاخلاقي مقابل النجاح المالي. في الماضي كانت الافلام مثل "كازابلانكا" و"عنتر بن شداد" تحمل رسائل هادفة تعزز القيم الاجتماعية لكن اليوم يغلب الانتاج الذي يبيع الجسد والكلام الخشن مما يهدد التوازن بين الترفيه والتربية.غياب النقاد والمراقبين صمت مدوي امام المنتوج الفنيالا ان الجانب الاكثر الما في هذا الواقع هو غياب النقاد والمراقبين الذين كانوا في السابق صوتا حرا يوجه الجمهور ويحاسب المنتجين. في الستينيات والسبعينيات كان نقاد مثل محمد بنيس وعبد الله العروي يقدمون تحليلات عميقة للاغاني والافلام تجعل السامع يقرر ما يسمع وما يتجنب. كانوا يبررون الجميل بطريقة تجعل الجمهور يقدره ويحذرون من القبيح بمنطق يقنع لا يفرض. لكن اليوم اصبح النقد نادرا ومعزولا امام سطوة المنتجين والقنوات التلفزيونية.في المغرب نقاد معدودون على رؤوس الاصابع وادوارهم مفقودة بسبب غياب التأصيل الاكاديمي والتأثير الحقيقي على الجمهور. يقول الناقد حسن النفالي في تصريح له ان الاعلام الفني المغربي يفتقر الى المحتوى التحليلي ويغلب عليه الترويج السطحي مما يجعل النقد يبدو غير مؤثر. كما ان الرقابة الحكومية ضعيفة وغير فعالة فهي تمنع بعض الافلام لكنها لا تتابع الانتاج اليومي على المنصات الرقمية. في الفن التشكيلي مثلا يشكو الرسامون من غياب التقييم والتوثيق مما يعزز الفوضى في السوق. وفي التلفزيون اصبح النقد نادرا بسبب الخوف من الردود القوية من المنتجين الذين يسيطرون على الاعلام.هذا الغياب يعود الى عدة اسباب منها ضعف التسويق للمنتوج الثقافي الجاد وغياب الفعاليات التي تشجع على النقاش الحر. كما ان الفنانين انفسهم يغيبون عن النقاش العمومي حول القضايا الاجتماعية خوفا من الرقابة الذاتية مما يجعل الصمت يعم الجميع. في رمضان مثلا تشهد الدراما انتقادات للرداءة لكنها لا تؤدي الى تغيير لان الشركات تستعين بالانستغرام لتخطي النقد. هذا الغياب يجعل المنتوج الفني يتيه دون توجيه فالاغاني النابية تُنشر دون تحذير والافلام الجريئة تُعرض دون مناقشة مما يعمق الشعور ببيع القيم.خاتمة دعوة لاستعادة الوعي والنقدفي النهاية يبقى المجال الفني المغربي مجالا خصبا يمكن ان يعود الى جذوره الهادفة لو عاد النقاد والمراقبون الى دورهم. غيابهم ليس مصادفة بل نتيجة للضغوط التجارية التي تجعل الفن سلعة لا رسالة. يجب على المجتمع والحكومة دعم النقد المستقل وتعزيز الرقابة الثقافية دون قمع الابراع. وعلينا كجمهور ان نختار المنتوج الذي يعزز قيمنا لا يهدمها. فالمغرب بلد الامازيغ والعرب والاسلام يستحق فنا يفخر به لا يخجل منه. هل بيعت القيم؟ ربما لكن يمكن استعادتها بالوعي والنقد الحر.
تعليقات