فضائح الدقيق والشعير المدعمان في المغرب: سرقة الدعم وتهديد الصحة العامة

فضائح الدقيق والشعير المدعمان: سرقة لقمة العيش وتهديد للصحة العامة في المغرب


المقدمة: الدعم الغذائي كسيف ذي حدين
في المغرب، يُعد الدقيق المدعم والشعير المدعمان ركيزتين أساسيتين لأمن غذائي يحمي ملايين الأسر الفقيرة من ارتفاع أسعار المواد الأساسية. يُخصص الدولة دعماً مالياً هائلاً لهذين المنتجين، حيث يصل الدعم السنوي للدقيق إلى نحو 16.8 مليار درهم، بينما يتجاوز الدعم للشعير المليارات أيضاً، ليغطي احتياجات الفلاحين الصغار والماشية في ظل الجفاف المتكرر. هذا الدعم ليس مجرد إجراء اقتصادي، بل هو التزام اجتماعي يهدف إلى ضمان العدالة الاجتماعية ومكافحة الفقر، خاصة في المناطق الريفية حيث يعتمد الشعب على الخبز كغذاء يومي أساسي، والشعير كعلف رئيسي للثروة الحيوانية.ومع ذلك، تحول هذا الدعم في السنوات الأخيرة إلى حقل خصب للفساد والغش، حيث أثارت فضائح متتالية تساؤلات حول فعالية الرقابة ونزاهة الجهات المسؤولة. من "طحن الورق" في مصانع الدقيق إلى تزوير لوائح توزيع الشعير، أصبحت هذه الفضائح ليست مجرد مخالفات إدارية، بل جرائم تُهدد الصحة العامة والاقتصاد الوطني. في أكتوبر 2025، فجّر النائب أحمد التويزي، رئيس الفريق النيابي لحزب الأصالة والمعاصرة، قنبلة برلمانية بكشفه عن تلاعبات في الدقيق المدعم، مما أثار موجة غضب شعبي عارم على وسائل التواصل الاجتماعي. وفي الوقت نفسه، تستمر فضائح الشعير المدعم في الكشف عن شبكات فساد تشمل منتخبين محليين وأباطرة اقتصاديين، مما يجعل الدعم الغذائي سيفاً ذا حدين: يحمي الفقراء في الظاهر، ويسرقهم في الباطن.هذا المقال يغوص في أعماق هذه الفضائح، مستعرضاً تفاصيلها، أسبابها، وتأثيراتها، معتمداً على تقارير إعلامية وشهادات رسمية، ليكشف عن واقع يتجاوز الإدانة إلى الدعوة لإصلاح جذري. فالفساد في هذه المنظومات ليس مصادفة، بل نتيجة ثغرات نظامية تسمح للطامعين باستنزاف موارد الدولة، مما يعمق الفجوة الاجتماعية ويهدد الاستقرار الغذائي.فضائح الدقيق المدعم: من "طحن الورق" إلى سموم الطاولةبدأت قصة فضائح الدقيق المدعم في المغرب كقطرات في بحر الشكاوى الشعبية، لكنها تحولت إلى عاصفة في السنوات الأخيرة، خاصة مع ارتفاع أسعار الطاقة والحبوب العالمية. الدقيق المدعم، الذي يُباع بثمن زهيد (حوالي 4 دراهم للكيلوغرام)، يُشكل 70% من إنتاج الدقيق الوطني، ويُستهلك يومياً في ملايين الأفران والمطابخ. ومع ذلك، كشفت تحقيقات برلمانية وإعلامية عن سلسلة من الانتهاكات التي تجعل هذا الدعم مصدراً للخسارة لا للكسب.الفضيحة الأبرز وقعت في أكتوبر 2025، عندما صعّد التويزي خلال جلسة برلمانية اتهاماته بأن بعض شركات المطاحن تقوم بـ"طحن الورق بلاصة الحبوب"، أي مزج الأوراق والنفايات مع الدقيق لزيادة الكميات، ثم بيعه للفقراء كدقيق مدعم نظيف. وفقاً لتويزي، تكلف هذه العملية الدولة 16.8 مليار درهم سنوياً، معظمها يذهب سدى بسبب نقص الرقابة على عمليات الطحن والتوزيع. هذا التصريح لم يكن مجرد كلام سياسي؛ فقد أثار حملة هاشتاغ #دقيق_الورق على تويتر، حيث شارك آلاف المغاربة صوراً وشهادات عن دقيق مشبوه يحتوي على شوائب غريبة، مثل ألياف غير عضوية تشبه الورق المقطع.لكن هذه ليست الفضيحة الأولى. في 2023، أجرت وزارة الزراعة والصيد البحري حملة تفتيشية كشفت عن 15% من المطاحن تخالف المعايير الصحية، بما في ذلك استخدام حبوب فاسدة أو مضافات كيميائية غير مصرح بها لتحسين اللون والملمس. وفي تقرير للمجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي (CESE) عام 2024، أُشير إلى أن 20% من الدقيق المدعم يُباع في السوق السوداء بأسعار أعلى، مما يحرم الفقراء من حصتهم ويُثري الوسطاء الفاسدين. هذه التلاعبات ليست محدودة بالكميات؛ فهي تشمل الجودة أيضاً، حيث أفادت دراسة لمختبرات ONSSA (النظام الوطني للسلامة الصحية للمنتجات الغذائية) بأن عينات من الدقيق المدعم تحتوي على مستويات عالية من الرصاص والفطريات، مما يزيد من مخاطر الإصابة بأمراض الجهاز الهضمي والسرطان لدى الأطفال والكبار.التأثير الاقتصادي مدمر: الدعم الذي يُفترض أن يحمي الفقراء يُستنزف جزئياً من قبل شركات كبرى تتحالف مع مسؤولين محليين لتجنب التفتيش. في 2022، أغلقت السلطات ثلاث مطاحن في الدار البيضاء بعد ضبط 500 طن دقيق مغشوش، لكن المسؤولين الرئيسيين لم يُحاكموا، مما يشير إلى غطاء سياسي. وفي رد فعل على اتهامات التويزي، نفت الفيدرالية الوطنية للمطاحن الادعاءات، مطالبة بأدلة، لكنها اعترفت بنقص في الرقابة خلال فترات الذروة. هذه الفضيحة ليست منعزلة؛ إنها جزء من نمط يعكس فشل المنظومة التنظيمية، حيث تُدار عمليات الاستيراد والتوزيع من قبل لجان غير شفافة، مما يفتح الباب للرشاوى والمحسوبية.فضائح الشعير المدعم: تلاعب في لوائح ونهب للفلاحينإذا كان الدقيق المدعم يُغذي الإنسان، فالشعير المدعمان يُغذي الماشية والفلاحين الصغار، الذين يعتمدون عليه للبقاء في ظل الجفاف الذي يضرب المغرب منذ 2019. يصل الدعم السنوي للشعير إلى 5 مليارات درهم، موزعاً على ملايين الأسر الريفية عبر برامج مثل "الضمان الاجتماعي الموسع". ومع ذلك، تحولت هذه الآلية إلى "حقل فساد"، كما وصفتها جريدة الصباح في تقريرها لعام 2025، حيث يُسيطر أباطرة اقتصاديون ومنتخبون محليون على التوزيع، محرومين الفلاحين الحقيقيين.أبرز الفضائح وقعت في فبراير 2025، عندما تحققت الفرقة الوطنية للدرك الملكي مع رؤساء جماعات قروية في جهة الشرق، متهمينهم بإعادة بيع حصص الشعير المدعم في السوق السوداء، مما أدى إلى خسائر تصل إلى ملايين الدراهم. في سيدي اليماني، على سبيل المثال، كشفت تحقيقات إعلامية أن "المحظوظين" – وهم أقارب المنتخبين – حصلوا على حصص كبيرة، بينما وقف الفلاحون في طوابير طويلة دون نصيبهم، مما أدى إلى موت آلاف الرؤوس الحيوانية بسبب نقص العلف. وفي أبريل 2025، أثار النائب إدريس السنتيسي فضيحة أخرى تحت قبة البرلمان، مكشوفاً عن لوائح مزورة تسمح لأشخاص غير مستحقين بالحصول على الشعير، مع استغلال بيانات شخصية دون علم أصحابها.تعود جذور هذه الفضائح إلى 2016، عندما وثّق موقع "هوية بريس" عملية بيع الشعير المدعم في دار الكداري، حيث تم تهريبه إلى أسواق غير رسمية بأسعار مضاعفة. وفي 2023، فجّر مستشار غرفة الفلاحة رضوان جادي قنبلة بكشفه عن تلاعب في جهة الدار البيضاء-سطات، حيث يُباع الشعير المدعم للمزارع الكبرى بدلاً من الصغار، مما يُعمق الفقر الريفي. التقرير نفسه أشار إلى أن 30% من الكميات المستوردة تُفقد في الطريق بسبب السرقة والتزوير، مع تورط أعوان سلطة في تزوير الوثائق لصالح أقاربهم.التأثير على الفلاحين كارثي: في دوار لماطر بجرادة، أدى نقص الشعير إلى موت الغنم، كما وثّق فيديو في 2022، حيث وزّع الزرع ليلاً لأشخاص غير مستحقين. اقتصادياً، يُقدر الخسارة السنوية بنحو 2 مليار درهم، مما يُضعف القدرة الإنتاجية للقطاع الزراعي ويزيد الاعتماد على الاستيراد. صحياً، يؤدي استخدام شعير فاسد كعلف إلى انتشار أمراض في الماشية، مما يهدد السلامة الغذائية للحوم والألبان.التأثيرات الشاملة: جرح في جسد الاقتصاد والمجتمعتتجاوز هذه الفضائح الدقيق والشعير إلى تهديد الثقة العامة في الدولة. اقتصادياً، تُكلف الخسائر أكثر من 20 مليار درهم سنوياً، مع تضخيم العجز الميزاني وارتفاع التضخم على المواد الأساسية. اجتماعياً، تُفاقم الفجوة بين الغني والفقير، حيث يُسرق الدعم من الأكثر احتياجاً لصالح النخبة. صحياً، تزيد حالات التسمم الغذائي بنسبة 15% في المناطق الفقيرة، وفقاً لإحصاءات وزارة الصحة. سياسياً، تُشعل هذه الفضائح احتجاجات، كما حدث في حملات 2025 على وسائل التواصل، مطالبة بمحاسبة المسؤولين.الخاتمة: نحو إصلاح جذري وشفافية حقيقيةفي الختام، فضائح الدقيق والشعير المدعمان ليست مجرد حوادث، بل أعراض مرض نظامي يتطلب علاجاً عاجلاً. يجب على الحكومة تعزيز الرقابة الإلكترونية، إنشاء لجان مستقلة للتوزيع، وتشديد العقوبات على المتورطين، كما طالب التويزي والسنتيسي. كما يُوصى بتفعيل دور البرلمان في التحقيقات، وتشجيع الإبلاغ الشعبي عبر تطبيقات آمنة. إن إنقاذ هذه المنظومات ليس رفاهية، بل ضرورة لاستعادة الثقة وتعزيز العدالة الاجتماعية. فالمغرب، الذي يُدعى "بلاد الخبز"، يستحق دعماً نظيفاً يُغذي شعبه لا يُسممه.
تعليقات