الفساد في الجماعات الترابية: شبكات الصفقات المشبوهة وتداعياتها على الاقتصاد الوطني
فساد مالي يهدد الاستقرار: النيابة العامة تحذر من أن الفساد يعيق التنمية، مع تورط رؤساء جماعات ترابية في صفقات مشبوهة مع مقاولين
المقدمةفي أعقاب تصريحات صادمة أدلى بها رئيس النيابة العامة بالمغرب، هشام البلاوي، أمس، أطلقت جرس الإنذار بشأن الخطر الداهم الذي يشكله الفساد المالي على أسس الدولة والمجتمع. إذ أكد البلاوي أن "جرائم المال العام تقوّض أسس التنمية الاقتصادية والاستقرار الاجتماعي في البلاد"، مشدداً على أن هذا الفساد لم يعد مجرد مخالفات إدارية عابرة، بل شبكة معقدة من الاختلاسات والصفقات المشبوهة التي تسري في شرايين الإدارة الترابية، خاصة في صفوف رؤساء الجماعات المحلية. هذه التصريحات، التي جاءت في سياق تقرير سنوي للنيابة، تكشف عن واقع مرير يهدد بتقويض الجهود الوطنية لتحقيق التنمية المستدامة، في وقت يسعى فيه المغرب إلى تعزيز مكانته كاقتصاد ناشئ في إفريقيا.يأتي هذا التحذير في لحظة حرجة، حيث أظهرت إحصاءات النيابة تسجيل أكثر من ألف ومئتي قضية فساد مالي خلال العام الماضي، بزيادة بنسبة 25% عن السنة السابقة، مع حجم أموال مختلسة يتجاوز خمسة مليارات درهم مغربي، أي نحو 500 مليون دولار أمريكي. ولم تقتصر الشبهات على المستويات العليا، بل امتدت إلى الجماعات الترابية، حيث تورط رؤساء مجالس في صفقات احتكارية مع مقاولين، تتضمن عمولات سرية وتلاعبات في العقود العمومية. هذه الظاهرة ليست جديدة، غير أنها اكتسبت في الآونة الأخيرة طابعاً أكثر خطورة، إذ أصبحت تهدد الاستقرار الاجتماعي من خلال تفاقم الفقر واللامساواة، وإثارة الغضب الشعبي الذي قد يتحول إلى احتجاجات واسعة النطاق.في هذا المقال، سنستعرض بالتفصيل الخلفية التاريخية لهذا الفساد، والحالات الراهنة التي أثارتها تحقيقات لجان التفتيش المركزية، والتأثيرات الاقتصادية والاجتماعية، مع الإشارة إلى الإجراءات القضائية المرتقبة. سنعتمد على بيانات رسمية وتقارير موثوقة لنرسم صورة شاملة، تكشف كيف أصبح الفساد عائقاً أمام التنمية، وكيف يمكن للمغرب مواجهته بإرادة سياسية قوية.خلفية الفساد المالي في المغرب: جذور وتطوريُعد الفساد المالي في المغرب ظاهرة تاريخية تعود جذورها إلى عقود مضت، حيث كان يُنظر إليه في الماضي كأداة لتوزيع الموارد بين النخب الحاكمة، في سياق انتقال الدولة من النموذج الاستعماري إلى الديمقراطية الناشئة. مع استقلال المغرب عام 1956، ورث البلاد نظاماً إدارياً مترهلاً، يعاني من غياب الشفافية في إدارة المال العام، مما سمح بانتشار الرشاوى والمحسوبية. في السبعينيات والثمانينيات، شهدت فترة الركود الاقتصادي تزايداً في حالات الاختلاس، خاصة في قطاعات الزراعة والتعمير، حيث كانت الجماعات الترابية أولى الضحايا للتلاعبات.مع دخول الألفية الجديدة، أطلقت المملكة سلسلة من الإصلاحات لمكافحة الفساد، أبرزها إنشاء المجلس الأعلى للحسابات عام 2007، والمؤسسة الوطنية للنزاهة والشفافية والمكافحة للفساد عام 2011، بموجب الدستور الجديد لعام 2011. كما أُقر القانون الجنائي الذي يعاقب على جرائم المال العام بعقوبات تصل إلى 20 عاماً سجناً، مع غرامات مالية تصل إلى ضعف المبلغ المختلس. ومع ذلك، بقيت هذه الإجراءات شكلية في كثير من الأحيان، إذ أشارت تقارير منظمة الشفافية الدولية إلى أن المغرب يحتل المرتبة 73 عالمياً في مؤشر إدراك الفساد لعام 2024، مع تراجع طفيف مقارنة بالسنوات السابقة.في سياق الجماعات الترابية، التي أُنشئت بموجب القانون التنظيمي 113-14 لتعزيز اللامركزية، أصبحت هذه الكيانات المحلية عرضة للفساد بسبب ضعف الرقابة المالية. فالجماعات، التي تدير ميزانيات تصل إلى مليارات الدراهم سنوياً من التمويلات الحكومية والضرائب المحلية، غالباً ما تفتقر إلى آليات رقابة داخلية فعالة. وفقاً لتقرير المجلس الأعلى للحسابات لعام 2024، سجلت 40% من الجماعات اختلالات في تدبير الصفقات العمومية، تشمل عدم احترام المساطر التنافسية وتضخيم التكاليف بنسبة تصل إلى 30%. هذا الواقع يعود جزئياً إلى الانتخابات المحلية، حيث يعتمد المنتخبون على شبكات المقاولين لتمويل حملاتهم الانتخابية، مما يخلق دائرة مغلقة من التبعية والفساد.في السنوات الأخيرة، ازدادت حدة التحدي مع انتشار جائحة كورونا، التي فتحت أبواباً لصفقات طارئة غير خاضعة للرقابة الصارمة، مما أدى إلى اختلاس ملايين الدراهم من ميزانيات الطوارئ. كما ساهمت اللامركزية الإدارية، رغم إيجابياتها، في تضخيم المساحة المتاحة للتلاعبات، حيث أصبح رؤساء الجماعات يتمتعون بصلاحيات واسعة في منح الرخص والعقود دون رقابة مركزية كافية. هكذا، أصبح الفساد ليس مجرد جريمة فردية، بل نظاماً يعيق التنمية، يحول دون وصول الموارد إلى المواطنين، ويُعمق الفجوة بين الدولة والشعب.التفاصيل الراهنة: تحقيقات وصفقات مشبوهةفي الآونة الأخيرة، أثارت تحقيقات لجان التفتيش المركزية التابعة للمفتشية العامة للإدارة الترابية، موجة من الكشوفات المقلقة حول تورط رؤساء جماعات في صفقات مشبوهة مع مقاولين. شملت هذه التحقيقات جهات الدار البيضاء-سطات، والرباط-سلا-القنيطرة، وبني ملال-خنيفرة، حيث رصدت التقارير اختلالات مالية خطيرة تشمل تلقي "عمولات" مقابل إعفاءات ضريبية، وتحكم مسؤولين سابقين في صفقات الجماعات، بالإضافة إلى اختلاسات بملايين الدراهم تتعلق بميزانيات المحروقات وأجور الأعوان العرضيين. في إحدى الحالات البارزة، كشفت التحقيقات عن احتكار شركات بعينها لمشاريع الجماعات، مما أدى إلى تضخيم تكاليف الخدمات بنسبة تصل إلى 50%، مع استخدام سندات الطلب كأداة للتلاعب بالمال العام في غياب الشفافية.من أبرز الحالات، قضية تبييض أموال عمومية مختلسة في جماعات جهة الدار البيضاء، حيث فتحت الهيئة الوطنية للمعلومات المالية تحقيقات عاجلة بناءً على إشعارات بالاشتباه في وقائع غسيل أموال من صفقات عمومية. تورط فيها رؤساء مجالس ومنتخبون نافذون في ضخ مبالغ نقدية ضخمة في رؤوس أموال شركات خاصة، بعضها مسجل باسم زوجاتهم أو أبنائهم، وأخرى تتخصص في الحراسة والنظافة والأشغال. كشفت التدقيقات في الكشوفات البنكية تدفقات مشبوهة لمبالغ تصل إلى مئات الملايين، مع تحويلات متتالية تحت غطاء "تدفقات تجارية مشروعة" منذ عام 2022. في حالة محددة، تلقت شركة لخدمات النظافة مساهمة مالية كبيرة في حساب جاري للشركاء، ثم حوّلتها إلى كيان آخر أعادها كـ"مبالغ مستردة"، مما أثار شبهات في عمليات الغسيل.أما في جهة فاس-مكناس، فقد أظهرت التقارير قصوراً كبيراً في حفظ وثائق الصفقات، مع غياب ملفات عروض المتنافسين، وتغييب ممثلي الخزينة العامة خلال جلسات فتح الأظرفة، في خرق واضح للمساطر القانونية. بلغ حجم الخسائر في هذه الجماعات ملايين الدراهم، مع تورط مقاولين في تزوير فواتير وتضخيم أسعار المواد. كذلك، في بني ملال-خنيفرة، كشفت تحقيقات الشرطة القضائية عن شبكة تربط رؤساء جماعات بشركات بناء، حيث منحت عقوداً بقيمة 1.5 مليار درهم مقابل رشاوى، مما أدى إلى إيقاف 20 مشروعاً بنية تحتية مؤقتاً. هذه الحالات ليست معزولة؛ فقد تلقت الهيئة 5171 إشعاراً بالاشتباه في غسل الأموال خلال سنة، وأحالت 54 ملفاً إلى النيابة، مع تقييد ممتلكات تشمل سيارات فاخرة وعقارات.تُعد هذه التحقيقات جزءاً من حملة موسعة أطلقتها وزارة الداخلية، بالتوازي مع أبحاث النيابة العامة، حيث أصدرت إرساليات إلى رؤساء المجالس للتعقيب على تقارير المجالس الجهوية للحسابات. وفقاً للمصادر، تستعد الوزارة لإعلان قرارات عزل جديدة تشمل عشرات الرؤساء، بناءً على المادة 64 من القانون التنظيمي، مع إحالة الملفات إلى المحاكم الإدارية. هكذا، يبرز الفساد في الجماعات الترابية كتهديد مباشر للنزاهة الانتخابية، إذ يحول المنتخبين إلى أدوات لمصالح خاصة، بعيداً عن خدمة المواطنين.التأثيرات الاقتصادية والاجتماعية: عائق أمام التنميةيُشكل الفساد المالي عائقاً رئيسياً أمام التنمية في المغرب، حيث يؤدي إلى خسائر اقتصادية هائلة تبلغ مليارات الدراهم سنوياً، مما يُبطئ النمو الاقتصادي بنسبة تصل إلى 2%، ويزيد من معدلات البطالة إلى 12% في المناطق الريفية المتضررة. فالأموال المختلسة من ميزانيات الجماعات كانت مخصصة لمشاريع التنمية المحلية، مثل بناء المدارس والمستشفيات والطرق، فتحولت إلى ثروات شخصية، مما يعمق اللامساواة الاجتماعية ويُفاقم الفقر في الأوساط الشعبية. كما أن تضخيم تكاليف الصفقات يقلل من كفاءة الإنفاق العمومي، حيث يصل هدر الموارد إلى 30% من الميزانيات المخصصة للإدارة الترابية.اجتماعياً، يُقوّض الفساد الثقة في المؤسسات، مما أثار موجة من الاحتجاجات الشعبية، خاصة بين الشباب من "جيل زد"، الذين يرون فيه دليلاً على فشل النظام الديمقراطي. في السنوات الأخيرة، شهدت مدن مثل الدار البيضاء والرباط مظاهرات تطالب بمحاسبة الفاسدين، مع دعوات لإصلاحات جذرية. كذلك، يُعيق الفساد الاستثمار الأجنبي، إذ يُصنّف المغرب كوجهة غير مستقرة، مما يهدد أهداف التنمية المستدامة لعام 2030. في النهاية، يصبح الفساد ليس مجرد جريمة مالية، بل قنبلة موقوتة تهدد التماسك الاجتماعي والاقتصادي.الإجراءات القضائية والردود الرسميةفي مواجهة هذا التحدي، أعلنت النيابة العامة التزامها بمكافحة الفساد بكل الوسائل، مع معالجة 850 قضية من أصل 1200، وإدانة 450 شخصاً، بينما تستمر التحقيقات في 350 أخرى. كما شدد رئيس النيابة على تعزيز التعاون الدولي لمكافحة غسيل الأموال عبر الحدود، بالشراكة مع منظمات مثل إنتربول. من جانبها، أطلقت وزارة الداخلية حملة رقابية موسعة، مع تفعيل آليات الرقابة الإلكترونية على الصفقات، وتدريب آلاف المنتخبين على مبادئ النزاهة. كذلك، أحالت الهيئة الوطنية للمعلومات المالية 54 ملفاً إلى المحاكم، مع تقييد ممتلكات المشتبه بهم.ردود الفعل الشعبية كانت قوية، مع دعوات من الجمعيات المدنية لإنشاء هيئة مستقلة لمكافحة الفساد، بينما أعرب البرلمان عن دعمه للإصلاحات، مع اقتراح تعديلات تفرض رقابة أكبر على ميزانيات الجماعات. ومع ذلك، يبقى التحدي في تنفيذ هذه الإجراءات بفعالية، بعيداً عن التأثيرات السياسية.الخاتمةفي الختام، يُمثل الفساد المالي في الجماعات الترابية تهديداً وجودياً لاستقرار المغرب، إذ يعيق التنمية ويُقوّض الثقة العامة. لمواجهته، يجب تعزيز الشفافية، وتشديد العقوبات، وتشجيع المشاركة المدنية، ليصبح المغرب نموذجاً في مكافحة الفساد. فالإرادة السياسية هي المفتاح لتحويل التحذيرات إلى إنجازات.