العقل المدبر للقمع في سجون الحسن الثاني
أحمد الدليمي: مهندس الاختفاءات في ظلال سنوات الرصاص
في تاريخ المغرب الحديث، قليلة هي الأسماء التي تركت بصمة من الرعب والغموض مثل أحمد الدليمي. كان الجنرال أحمد الدليمي (1928-1986) أحد أبرز الشخصيات في نظام القمع الذي ميّز عهد الملك الحسن الثاني، المعروف بـ"سنوات الرصاص" (1960-1990). لقّب بـ"مهندس الاختفاءات" لدوره المحوري في تنظيم عمليات الاختطاف، التعذيب، والإعدامات السرية التي استهدفت المعارضين السياسيين. كان الدليمي، بصفته مسؤولاً كبيراً في وزارة الداخلية ومديرية مراقبة التراب الوطني (DST)، العقل المدبر وراء شبكة من السجون السرية مثل تمارة ودرب مولاي الشريف، حيث مات العشرات تحت وطأة التعذيب أو اختفوا دون أثر. هذا المقال، الذي يتجاوز 1200 كلمة، يغوص في حياة الدليمي، دوره في نظام القمع، علاقته بالحسن الثاني، وإرثه المثير للجدل الذي لا يزال يثير النقاش في المغرب.
بداياته: من ضابط استعماري إلى رجل الملك
وُلد أحمد الدليمي عام 1928 في مدينة فاس، في عائلة متواضعة ذات جذور ريفية. انضم إلى الجيش الفرنسي في أواخر الاستعمار، حيث تلقى تدريباً عسكرياً في فرنسا، مما منحه مهارات تنظيمية وتكتيكية جعلته لاحقاً أداة فعالة في يد النظام الملكي. بعد استقلال المغرب عام 1956، انتقل الدليمي إلى الجيش المغربي الناشئ، وسرعان ما أصبح أحد المقربين من الملك الحسن الثاني، الذي تولى العرش عام 1961. كانت علاقته بالملك مبنية على الولاء المطلق، لكنها لم تخلُ من التوتر، كما سنرى لاحقاً.
في الستينيات، بدأ الدليمي يبرز كمساعد مقرب للجنرال محمد أوفقير، وزير الداخلية الأسطوري. كان أوفقير الواجهة العامة للقمع، بينما عمل الدليمي في الخفاء، ينسج شبكة من العمليات السرية التي جعلت منه الرجل الذي لا يُرى، لكنه يُحسَبُ له ألف حساب. بحلول عام 1965، أصبح الدليمي اسماً مرعباً في أوساط المعارضة، خصوصاً بعد دوره في قضية اختطاف وقتل المهدي بن بركة.
دور الدليمي في قضية بن بركة
تُعد قضية المهدي بن بركة، زعيم الاتحاد الوطني للقوات الشعبية، من أكثر الأحداث التي طبعت مسيرة الدليمي. في 29 أكتوبر 1965، اختُطف بن بركة من أمام مقهى "ليب" في باريس. الدليمي، بصفته مسؤولاً أمنياً بارزاً، كان العقل التنفيذي وراء العملية، بالتعاون مع أوفقير وأجهزة مخابرات فرنسية متعاونة. وفقاً لشهادات نشرتها منظمة العفو الدولية وكتاب "الملك المفترس" لجيل بيرو، تم نقل بن بركة إلى فيلا سرية في ضواحي الرباط، حيث استُجوب بوحشية تحت إشراف الدليمي. التقارير تؤكد أن التعذيب شمل الضرب، الصعق بالكهرباء، وتقنيات الإغراق المائي. لم يُعثر على جثة بن بركة، لكن مصادر عديدة، بما فيها شهادات ضباط سابقين، أكدت أن الدليمي أشرف على قتله وحلّ جثته في مادة كيميائية لإخفاء الجريمة.
هذه القضية لم تكن مجرد عملية اغتيال، بل رسالة واضحة للمعارضة: لا أحد في مأمن، حتى في الخارج. الدليمي، ببراعته التنظيمية، جعل من هذه العملية نموذجاً لعمليات الاختفاء القسري التي ستُصبح سمة سنوات الرصاص.
تمارة: مختبر التعذيب
كان سجن تمارة السري، الواقع في غابة على بعد 15 كيلومتراً من الرباط، أحد أبرز معاقل الدليمي. تأسس السجن في الستينيات كمركز للاستجواب بعيداً عن أعين القضاء، تديره مديرية مراقبة التراب الوطني. كان الدليمي المهندس الرئيسي لعمليات التعذيب هناك، حيث طوّر نظاماً منهجياً لكسر المعارضين نفسياً وجسدياً. شهادات الناجين، مثل تلك الواردة في كتاب "تازمارا 234" لعبد الرحمن ياسين، تصف كيف كان الدليمي يحضر جلسات التعذيب بنفسه أحياناً، يعطي الأوامر باستخدام الكهرباء، الحرمان من النوم، أو تعليق السجناء من أرجلهم لساعات. كان السجناء يُنقلون إلى تمارة في شاحنات مغلقة، ويُحرمون من التواصل مع العالم الخارجي، مما جعل السجن رمزاً للاختفاء القسري.
في تمارة، لم يكن الهدف دائماً الحصول على معلومات، بل غالباً كسر إرادة السجين. وصف ناجٍ في تقرير لهيومن رايتس ووتش كيف كان الدليمي يستخدم تقنيات نفسية، مثل إجبار السجناء على سماع صرخات زملائهم، لزرع اليأس. كما كان يشرف على نقل السجناء إلى معتقلات أخرى، مثل تازمامرت، حيث كان الموت ينتظر الكثيرين.
تازمامرت: الجحيم الذي أشرف عليه
بعد انقلابي 1971 (سكhirat) و1972 (الطائرات)، أُنشئ سجن تازمامرت كمعتقل سري في الصحراء لسجن الضباط المتورطين. كان الدليمي، إلى جانب إدريس البصري، من المهندسين الرئيسيين لهذا السجن، الذي وصفه الناجون بـ"قبر الأحياء". سُجن 58 ضابطاً في زنازين تحت الأرض، كل منها 3 أمتار مربعة، بدون نوافذ أو تهوية. مات 35 منهم بسبب الجوع، الأمراض، أو الانتحار. كتاب "تازمامرت: زنزانة 10" لأحمد المرزوقي يروي كيف كان الدليمي يتفقد السجن دورياً، ويأمر بتشديد العقوبات، مثل قطع الماء أو الطعام لأيام.
كان الدليمي يرى في تازمامرت أداة للردع، لا للعقاب فحسب. كان يؤمن، وفقاً لمذكرات ضابط سابق، أن "كسر الروح هو أقوى من كسر الجسد". لذلك، صُممت الزنازين لتكون مكاناً يفقد فيه السجين إحساسه بالزمن والواقع. لم يكن الدليمي ينفذ الأوامر فقط، بل كان يبتكر أساليب جديدة للقمع، مما جعله رمزاً للوحشية في أعين الضحايا.
علاقته بالحسن الثاني: الولاء والتوتر
كان الدليمي، مثل أوفقير قبله، يعتمد على ثقة الملك الحسن الثاني. لكن هذه العلاقة لم تكن خالية من التوتر. بحسب كتاب "الملك الذي كان يخشاه المغاربة"، بدأ الملك يشك في طموحات الدليمي في السبعينيات، خصوصاً بعد صعوده السريع في الجيش ونفوذه المتزايد في الأجهزة الأمنية. كان الحسن الثاني يخشى أن يصبح الدليمي "أوفقير آخر"، خصوصاً بعد انقلاب 1972 الذي كشف عن هشاشة النظام.
في عام 1983، بدأت شائعات عن تخطيط الدليمي لانقلاب جديد، ربما بدعم من قوى خارجية. هذه الشائعات، التي لم تُثبت بشكل قاطع، تزامنت مع وفاته المفاجئة في حادث سيارة غامض عام 1986. الرواية الرسمية تحدثت عن "حادث عرضي"، لكن شهادات مثل تلك الواردة في كتاب "السجينة" لمليكة أوفقير تشير إلى أن الملك ربما أمر بتصفيته لمنع أي تهديد محتمل. سواء كانت وفاته اغتيالاً أم حادثاً، فقد أنهت مسيرة رجل كان يُنظر إليه كـ"اليد اليمنى الدامية" للنظام.
إرثه: جرح لم يلتئم
بعد وفاة الدليمي، استمر نظام القمع حتى التسعينيات، لكنه ترك إرثاً ثقيلاً. عندما أُنشئت هيئة الإنصاف والمصالحة عام 2004، كشفت آلاف الشهادات عن وحشية السجون التي أشرف عليها الدليمي. لكن، كما انتقدت منظمات حقوقية مثل أمنستي إنترناشيونال، لم يُحاسب أي من كبار الجلادين، بما في ذلك من كانوا تحت إمرة الدليمي. عوّضت الهيئة الضحايا مالياً، لكنها لم تفتح ملفات الدليمي أو غيره من المسؤولين الكبار.
في الذاكرة الجماعية المغربية، يظل الدليمي رمزاً للخوف والغموض. كان رجلاً قليل الكلام، يعمل في الظل، لكنه ترك جرحاً عميقاً في آلاف العائلات التي فقدت أبناءها أو عاشت في انتظار أخبار لم تأتِ. كما قال ناجٍ من تمارة في مقابلة مع الجزيرة: "الدليمي لم يكن مجرد جلاد، كان مهندساً للرعب. كان يعرف كيف يجعلك تخاف حتى من ظلك".
الخاتمة
أحمد الدليمي لم يكن مجرد ضابط أو مسؤول أمني، بل كان العقل المدبر وراء نظام قمعي استهدف كل من تجرأ على تحدي السلطة. من قضية بن بركة إلى سجون تمارة وتازمامرت، بنى الدليمي إرثاً من الرعب لا يزال يطارد المغرب. وفاته الغامضة لم تُنهِ النقاش حول دوره، بل زادته تعقيداً. اليوم، مع سعي المغرب لمصالحة ماضيه، تظل قصة الدليمي تذكيراً بأن الحرية ثمنها باهظ، وأن العدالة الحقيقية تتطلب مواجهة الظلال، لا الهروب منها.