قوانين السلطة أم قيود الضمير؟.. وهبي يُسجن الشك ويُعفى الفساد في المغرب


حرب على الانتخابات: بين تجريم الشك وإسقاط الإثراء غير المشروع


مقدمة

 في زمن يُفترض أن تكون فيه الديمقراطية شعلة تضيء دروب الحرية لا سياجا يحجب الشمس، يأتي المغرب ليُذكرنا بأن الكلمة قد تُصبح جريمة والشك جرما أكبر. إن مشروع القانون التنظيمي الجديد الذي قدمه وزير العدل عبد اللطيف وهبي، والذي يقضي بالحبس من سنتين إلى خمس سنوات لكل من يشكك في نزاهة الانتخابات، ليس مجرد تشريع عابر بل هو إعلان حرب على الضمير الوطني. هذا القانون الذي يُدعى رقم 53.25، ويُعدل القانون التنظيمي رقم 27.11 المتعلق بمجلس النواب، يُفترض أنه يحمي العملية الانتخابية من التضليل الرقمي والأخبار الكاذبة، لكنه في الحقيقة يُغلق أبواب النقد ويُسكت أصوات الشعب. وفي الوقت نفسه الذي يُفرض فيه هذا القيد على الحرية، نرى الحكومة تسحب مشروعا أساسيا مثل قانون تجريم الإثراء غير المشروع، وتُعلق تشريعات أخرى من صنع وهبي نفسه، مما يُثير تساؤلا مرا. أهو المغرب الذي نعرفه، أم أننا نعيش في مسرحية كوميدية سوداء حيث يُحمى الفاسدون ويُعاقب الناقدون؟ في هذا المقال، سنغوص في أعماق هذا التناقض، مستعرضين كيف يُصبح القانون أداة للقمع لا للعدل، وكيف يُفقد الشعب الثقة في مؤسساته، لنصل إلى خاتمة تُعلن فيها الحاجة إلى ثورة فكرية قبل الانتخابات القادمة.
عرض
يبدأ الأمر بفهم جوهر هذا القانون الجديد، الذي يُصمم ليُجرم نشر أو ترويج الأخبار الزائفة أو الوقائع الكاذبة التي تُشكك في نزاهة الانتخابات، سواء عبر المنصات الرقمية أو أدوات الذكاء الاصطناعي. يُقدم وهبي هذا المشروع أمام لجنة العدل والتشريع بمجلس النواب، مدعيا أنه يأتي في سياق حماية الديمقراطية من التدخلات الخارجية والحملات المنظمة التي تُهدد إرادة الناخبين. العقوبات شديدة اللهجة: حبس يمتد من سنتين إلى خمس، مصحوب بغرامة مالية تتراوح بين خمسين ألف وثلاثمائة ألف درهم. على السطح، يبدو الأمر منطقيا في عصر يغرق فيه العالم بالتضليل، حيث أصبحت وسائل التواصل الاجتماعي ساحة للمعارك الإعلامية. لكن دعونا نُقلب الورقة، فالمشكلة ليست في مكافحة الكذب، بل في تعريف الكذب نفسه. من يحدد ما هي الشبهة في الانتخابات؟ هل هي تلك التي تُشير إلى شراء الأصوات في الدوائر الريفية، أم تلك التي تتحدث عن تدخل السلطة في توزيع الطعام الانتخابي؟ أم أنها مجرد أي كلمة تُعبّر عن عدم الرضا من نتائج الاقتراع؟ هذا القانون يُمنح السلطات صلاحيات واسعة لتفسير "التشكيك"، مما يُحوّل الصحفيين والناشطين إلى مجرمين محتملين. تخيلوا شابا في مدينة الدار البيضاء ينشر تغريدة يقول فيها إن الانتخابات كانت مسرحية، فإذا به يُسحب إلى السجن لسنوات، بينما يتجول الفاسدون أحرارا. هذا ليس حماية للديمقراطية، بل هو قتل لها باسمها.
والأمر لا يقف عند هذا الحد، فالتناقض يزداد عمقا عندما ننظر إلى السياق الذي يُقدّم فيه هذا التشريع. في الوقت الذي يُفرض فيه هذا القانون لإسكات الشكوك حول الانتخابات، نرى الحكومة تُسحب مشروع قانون تجريم الإثراء غير المشروع، الذي كان يُفترض أنه خطوة جريئة نحو مكافحة الفساد. هذا المشروع، الذي كان يُعدّل القانون رقم 5.12 المتعلق بمكافحة الإثراء غير المشروع، كان يهدف إلى تشديد العقوبات على الذين يجمعون ثروات بطرق غير مشروعة، ويُلزم المسؤولين بإفصاح عن ممتلكاتهم. لكن فجأة، يُعلّق التنفيذ، ويُعاد النظر فيه، بينما يُصرّح وهبي نفسه بأن السبب هو "التعديلات اللازمة" لتجنب الإساءة. أي إساءة؟ هل هي إساءة للفاسدين الذين يُشكلون جزءا من النظام نفسه؟ في المغرب، حيث يُقدر حجم الفساد بمليارات الدراهم سنويا حسب تقارير منظمة الشفافية الدولية، يُصبح تجريم الإثراء غير المشروع مجرد وعد جوفاء يُسحب عندما يقترب من الواقع. تخيلوا المشهد: الوزير يُقدّم قانونا يُسجن الناقد لسنوات بسبب شك في الانتخابات، بينما يُترك الثري الفاسد يبني قصوره دون مساءلة. هذا ليس تناقضا، بل هو استراتيجية مدروسة للحفاظ على التوازن الاجتماعي المريض، حيث يُحمى الجسد الفاسد ويُقطع اللسان الذي يُشير إليه.
وليس هذا التناقض الوحيد في تشريعات وهبي، فوزير العدل هذا، الذي يُدير حقيبة العدل منذ سنوات، له تاريخ طويل من المشاريع التي تبدأ بالوعود وتنتهي بالإحباط. خذوا على سبيل المثال مشروع القانون المتعلق بتعديل مدونة الأسرة، الذي كان يُفترض أنه يُعزز حقوق المرأة في الطلاق والحضانة، لكنه أُجّل مرات عديدة بسبب "الاعتراضات الاجتماعية"، وفي النهاية لم يُقدّم إلا شكلا من الشكليات. أو مشروع قانون مكافحة العنف ضد النساء، الذي يُعدّل القانون رقم 103.13، ويُقدّم كخطوة تاريخية، لكنه يفتقر إلى آليات التنفيذ الفعالة، مما يُترك العنف يستمر دون رادع حقيقي. وهبي يُقدّم هذه التشريعات كجواهر تُزيّن صدر الدولة، لكنها في الواقع مجرد قشور فارغة تُخفي الفراغ الداخلي. في الوقت الذي يُصرّ فيه على تجريم الشك في الانتخابات، نرى قوانين أخرى مثل تلك المتعلقة بحماية البيانات الشخصية تُتجاهل، حيث يُسرّب خصوصية المواطنين يوميا دون عقاب. هذا النهج يُذكّرنا بتلك الحكومات الاستبدادية في التاريخ، التي تُبني جدرانا عالية حول القصور بينما تُترك الشوارع تغرق في الوحل. في المغرب، يُصبح القانون أداة للدفاع عن السلطة لا عن الشعب، ويُفقد الثقة في البرلمان الذي يُفترض أنه يُمثّل الإرادة الشعبية.
دعونا نُوسّع النظرة لنرى التأثيرات الاجتماعية لهذا القانون والتناقضات المحيطة به. أولا، على الصحافة والإعلام: في بلد يُعاني من قيود على حرية الصحافة حسب تصنيفات "مراسلون بلا حدود"، يُصبح هذا التشريع سيفا معلقا فوق رؤوس الصحفيين. تخيلوا مراسلا يُحقّق في مخالفات انتخابية، فيُتهم بالتضليل لمجرد نشر تقرير يُشير إلى غياب الشفافية في عدّ الأصوات. هذا ليس افتراضيا، بل هو واقع حدث في انتخابات سابقة حيث أُغلقت مواقع إخبارية وأُعتقل ناشطون بتهم مشابهة. الشباب، الذين يُشكّلون عماد الثورات الرقمية، سيكونون الأكثر تضررا، إذ أن المنصات الاجتماعية هي ساحتهم الوحيدة للتعبير. شاب في فاس أو مراكش ينشر فيديو يُنتقد فيه التلاعب الانتخابي، فإذا به يُواجه السجن، مما يُولّد ثقافة الصمت والخوف. وفي المقابل، يُترك الإثراء غير المشروع يُمارس بحرية، حيث يُبنى الثراء على حساب الفقراء، ويُصبح السلطويون أثرياء بين عشية وضحاها دون مساءلة. هذا التناقض يُعزّز اللامساواة الاجتماعية، إذ يُشعر الشعب بأنه يُحاكم على كلماته بينما يُعفى الفاسدون من أفعالهم. تاريخيا، نجد أمثلة مشابهة في دول مثل تركيا أو مصر، حيث أدّت قوانين مكافحة "التضليل" إلى قمع المعارضة، وانخفاض الثقة في الانتخابات إلى أدنى مستوياتها. في المغرب، مع اقتراب الانتخابات التشريعية والجماعية، يُصبح هذا القانون أداة لضمان "الاستقرار" بأي ثمن، لكنه في الحقيقة يُهدّد الاستقرار الحقيقي بالغضب الشعبي المكبوت.

أما عن سحب قانون تجريم الإثراء غير المشروع، فهو ليس مجرد خطأ إداري بل هو اعتراف ضمني بضعف النظام أمام مصالح المتورطين. هذا المشروع كان يُلزم الجهات المعنية بتتبع الثروات غير المبررة، ويُفرض عقوبات تصل إلى السجن مدى الحياة في حالات الإثراء الكبير. لكنه أُجّل بعد ضغوط من نواب ومسؤولين يُخشَى أن يُطالَمْ أنفسهم، مما يُثبت أن التشريعات تُصمّم للعرض لا للتطبيق. وهبي، الذي يُدافع عن قوانين القمع، يتردّد في مواجهة الفساد الداخلي، وهذا يُذكّرنا بقول المتنبي: "وَمَا الْعَدْلُ إِلَّا أَنْ تَكُونَ الْأَشْيَاءُ مَوْضُوعَةً أَهْلَهَا". هنا، الأشياء موضوعة عكس أهلها، فالقانون يُحمي الظالم ويُعاقب المظلوم. وفي سياق تشريعات وهبي الأخرى، نجد مشروع القانون المتعلق بتعديل الجرائم الإلكترونية، الذي يُوسّع نطاق الجرائم الرقمية ليشمل الإساءة إلى الدولة، مما يُكمّل دائرة القمع. هذه التشريعات مجتمعة تُشكّل شبكة تُحاصر الحريات، بينما تُترك الثغرات مفتوحة أمام الفساد. الشعب المغربي، الذي ثار في حركة 20 فبراير للمطالبة بالعدالة الاجتماعية، يجد اليوم نفسه أمام حكومة تُقدّم له قيودا جديدة بدلا من إصلاحات حقيقية. الفقر يزداد، البطالة تُلازم الشباب، والفساد يُنهش في جسد الدولة، لكن الحل الوحيد المقدّم هو سجن من يشكك في هذا الواقع. هذا ليس عدلا، بل هو استبداد يرتدي ثوب الديمقراطية.خاتمةفي الختام، يُقفِر هذا القانون الجديد جرحا عميقا في جسد الديمقراطية المغربية، ويُكشف عن وجه الحكومة الحقيقي الذي يُفضّل حماية السلطة على خدمة الشعب. بينما يُسحب قانون الإثراء غير المشروع وتُعلّق تشريعات أخرى من صنع وهبي، يبقى السؤال معلقا: متى يُصبح القانون سيفا للعدل لا للقمع؟ الشعب المغربي، بتاريخه الغني بالنضالات، ليس مجرّد متفرّج في هذه المسرحية، بل هو البطل الذي يجب أن يُعيد كتابة السيناريو. ندعو النواب والناشطين والصحفيين إلى الوقوف ضد هذا التشريع، وإلى المطالبة بإصلاحات جذرية تبدأ بتجريم الفساد وتنتهي بحماية الحريات. فالديمقراطية ليست صندوق اقتراع يُفتح كل خمس سنوات، بل هي حوار مستمر بين الشعب والسلطة. إذا أغلقت السلطة أبواب الحوار، فإن الشعب سيفتح نوافذ الثورة. وفي النهاية، تذكّروا قول الشاعر: "وَإِنْ كَانَ الْعَالَمُ يَحْتَاجُ إِلَى قَلْبٍ وَاحِدٍ يَدُقُّ بِالْحُرِّيَّةِ"، فدعونا نجعل قلوبنا تدقّ بها قبل فوات الأوان. المغرب يستحق أكثر من قوانين القمع، يستحق ديمقراطية حقيقية تُبنى على العدل لا على الخوف.
تعليقات