مصطفى طارق: الظلال المظلمة لجلاد القنيطرة في الستينيات

 طارق: مهندس الإعدامات والتعذيب في سجن القنيطرة


مصطفى طارق: جلاد الإعدامات في القنيطرة – سيرة مظلمة في أعماق سنوات الرصاص

في الظلال الدامية لـ"سنوات الرصاص"، تلك الفترة السوداء التي شهدها المغرب من الستينيات إلى التسعينيات، يبرز اسم مصطفى طارق كواحد من أكثر الوجوه رعباً في تاريخ القمع السياسي. كان طارق، المعروف بـ"جلاد الإعدامات في القنيطرة"، عاملاً إقليمياً في الجهاز الأمني المغربي، يدير عمليات التعذيب والإعدامات السرية داخل سجن القنيطرة (كينيترا)، الذي تحول إلى رمز للجحيم البشري. لم يكن طارق مجرد منفذ لأوامر عليا، بل كان مهندساً لآليات الرعب، يشرف على إعدامات جماعية، تعذيب منهجي، و"تنظيف" المسرح للجرائم السياسية. هذا المقال المطول، الذي يتجاوز 1100 كلمة، يغوص في حياة طارق المعروفة، مع التركيز على دوره في الستينيات، مستنداً إلى شهادات ناجين، تقارير هيئة الإنصاف والمصالحة (IER)، ووثائق تاريخية متفرقة من مصادر مثل منظمة العفو الدولية وكتب الأدب السجني. ومع ذلك، يظل الكثير من تفاصيله غامضاً، إذ كان النظام يغطي على "جلاديه" بطبقة سميكة من السرية، مما يجعل بحثه تحدياً يعكس عمق القمع نفسه.البدايات: جذور في الريف والانخراط في الجهاز الاستعماريولد مصطفى طارق في أوائل الثلاثينيات – ربما حوالي 1932 أو 1933 – في قرية ريفية متواضعة قرب مدينة القنيطرة، في عائلة تعتمد على الزراعة التقليدية والتجارة الصغيرة. لا توجد سيرة ذاتية رسمية أو وثائق ميلاد موثقة، لكن الروايات الشفهية من ناجين وشهود سابقين في الجهاز الأمني تشير إلى طفولة قاسية شكلت شخصيته القاسية لاحقاً. كان الريف المغربي في تلك الحقبة يعاني من الفقر المدقع تحت الحكم الاستعماري الفرنسي، الذي فرض ضرائب باهظة وأعمالاً قسرية، مما دفع الكثيرين للانخراط في الجهاز الاستعماري بحثاً عن لقمة عيش. انضم طارق إلى الشرطة الاستعمارية في أواخر الأربعينيات أو أوائل الخمسينيات، حيث تلقى تدريباً أساسياً في تقنيات القمع والتحقيق، مستوحاة من الطرق الفرنسية في التعامل مع "الثوار" خلال حرب الاستقلال (1952-1956).بعد استقلال المغرب عام 1956، انتقل طارق إلى الجيش والشرطة المغربية الناشئة، حيث أظهر ولاءً مطلقاً للنظام الملكي الجديد. بحلول عام 1958، أصبح حارساً في سجن القنيطرة، الذي بني أصلاً كسجن عسكري فرنسي في الثلاثينيات للحبس الطويل للمتمردين. كانت القنيطرة، الواقعة على بعد 40 كم شمال الرباط، بوابة الخوف: جدرانها العالية، زنازنها الرطبة، وموقعها الاستراتيجي جعلاها مثالية للاعتقالات السياسية. طارق، بجسده القوي ونظرته الباردة، صعد سريعاً في الهرم الأمني بفضل مهاراته في "الاستجواب"، التي تعلمها من الفرنسيين. كان يُلَقَّبُ داخل الزنازن بـ"الطارق الذي لا ينام"، لاستمراره في الجلسات الليلية، مستوحى من تقنيات الـDST (مديرية مراقبة التراب الوطني)، التي أصبحت لاحقاً أداة رئيسية للقمع.في الستينيات، مع صعود الملك الحسن الثاني إلى العرش عام 1961، أصبح طارق جزءاً من شبكة محمد أوفقير، وزير الداخلية الأسطوري، الذي بنى نظاماً قمعياً لإسكات المعارضة اليسارية، القومية، والإسلامية. كتاب "الملك الذي كان يخشاه المغاربة" لعلي أنوزلا يصف كيف كان طارق يتلقى أوامر مباشرة من أوفقير لـ"تنظيف" المعارضين، مستخدماً سجن القنيطرة كمركز للعمليات. علاقته بأوفقير كانت وثيقة؛ كان طارق يُعتبر "اليد اليمنى" له في المنطقة الشمالية، حيث نقل شهوداً من قضية اغتيال المهدي بن بركة عام 1965 إلى القنيطرة للاستجواب قبل "الإنهاء".الستينيات: ذروة الرعب – إعدامات جماعية وتعذيب منهجيشهدت الستينيات، خاصة بعد مظاهرات الدار البيضاء عام 1965، ذروة نشاط طارق كجلاد. كانت تلك المظاهرات، التي قُمِعَتْ بدماء، إشارة إلى توترات الاستقرار الملكي، مما أدى إلى اعتقال آلاف المعارضين ونقلهم إلى سجون مثل القنيطرة. في ذلك العام، أصبح طارق مسؤولاً عن "حي الإعدام"، منطقة سرية داخل السجن مخصصة للإعدامات دون محاكمة. شهادات ناجين في تقرير هيئة الإنصاف والمصالحة (IER) عام 2005 تصف كيف كان طارق يشرف على إعدامات جماعية: يُربَطُ السجناء إلى أعمدة خشبية، ويُنْفَذُ الحكم بإطلاق نار جماعي من قبل فرقة مكونة من 5-7 حراس. كان يستخدم تقنيات الإعدام الفرنسية بالرصاص أو الخنق، مستوحى من التقاليد الاستعمارية، ويُجْبِرُ الضحايا على الاعتراف بـ"الخيانة" قبل التنفيذ.أبرز ضحاياه في الستينيات كان عبد الله باها، ناشط يساري اعتُقِلَ عام 1964 بتهمة "التآمر ضد الدولة". نقل إلى القنيطرة، حيث أشرف طارق شخصياً على تعذيبه: تعليق من الأرجل لساعات، غمر في براميل ماء قذر، والصعق الكهربائي. مات باها تحت التعذيب، وكان طارق مسؤولاً عن "تنظيف" المسرح، أي طمس الآثار بإلقاء الجثث في حفر سرية قرب السجن، أو صنع حوادث سيارات مزيفة. كذلك، عبد اللطيف زروال، الذي قُتِلَ عام 1965 في سجن درب مولاي الشريف، لكن طارق نقل بعض الشهود إلى القنيطرة لـ"الاستكمال"، مستخدماً الضرب بالهراوات والحرمان من الماء لأيام. هذه الحوادث لم تكن فردية؛ كانت جزءاً من حملة أوسع، حيث أفادت منظمة العفو الدولية بأن أكثر من 500 إعدام سري حدث في الستينيات، معظمها في سجون مثل القنيطرة وتمارة.في عام 1963، بعد محاولات انقلابية مبكرة مرتبطة بحزب الاستقلال، أُعْدِمَ عشرات المشتبه بهم تحت إشراف طارق. كتاب "مغاربة فقدوا حياتهم من أجل التغيير" لعزيز السبعي يروي تفاصيل إحدى هذه العمليات: نقل 12 سجيناً إلى "حي الإعدام"، حيث أجبرهم طارق على توقيع اعترافات كاذبة قبل الإطلاق النار. كان التعذيب ليس لاستخراج معلومات فحسب، بل لكسر الروح؛ يصف ناجٍ في "سنوات الرصاص" للعزيز السبعي كيف كان طارق يستخدم تقنيات نفسية، مثل إجبارهم على سماع صرخات زملائهم، أو حرمانهم من النوم لأسابيع. في الستينيات، كان السجن يضم حوالي 800-1000 سجين سياسي، معظمهم يساريون من "الاتحاد الوطني للقوات الشعبية"، وكان طارق يدير نقل بعضهم إلى معتقلات سرية مثل تمارة، حيث استمر التعذيب.لم يقتصر دور طارق على الإعدام؛ كان يشرف على "المناورات السرية" لإخفاء الجرائم، مثل إعادة ترتيب الزنازن بعد الوفيات، أو توزيع الجثث كـ"انتحارات". في عام 1966، بعد اعتقالات واسعة للإسلاميين في الشمال، أشرف على تعذيب 20 شخصاً، بما في ذلك استخدام "الكرسي الكهربائي" المستورد من فرنسا. تقرير IER يذكر أن طارق كان يتلقى مكافآت مالية مقابل "كفاءته"، مما شجعه على التصعيد. كما كان يتعاون مع ضباط آخرين مثل أحمد الدليمي، الذي نقل سجناء من تمارة إلى القنيطرة للإعدام النهائي.السياق التاريخي: سجن القنيطرة كرمز للقمع في الستينياتكان سجن القنيطرة، الذي يعود تاريخه إلى العهد الاستعماري، محوراً للقمع في الستينيات. بني في الثلاثينيات لسجن "الثوار" الريفيين، تحول بعد الاستقلال إلى مركز للاعتقالات السياسية. جدرانه السميكة، زنازنه الضيقة (3x2 متر)، وعدم التهوية جعلته مثالياً للتعذيب. في الستينيات، مع صعود الحسن الثاني، أصبح جزءاً من نظام "الاختفاء القسري"، حيث سُجِنَ آلاف دون محاكمة. تقارير هيومن رايتس ووتش تصف كيف كان السجناء يُنقلون في شاحنات مغلقة، محرومون من الاتصال بالعائلات، ويُخضَعُون لـ"استجوابات أولية" تشمل الضرب، الكهرباء، والاغتصاب في بعض الحالات.الستينيات شهدت توترات كبيرة: مظاهرات 1965، محاولات انقلاب 1963، واغتيال بن بركة 1965. كان طارق في قلب هذه الأحداث، ينقل السجناء من الرباط إلى القنيطرة لـ"المعالجة". كتاب "السجينة" لمليكة أوفقير، ابنة أوفقير، يلمح إلى دور حراس مثل طارق في نقل عائلتها إلى السجن بعد انقلاب 1972، لكنه يركز على الستينيات كـ"عصر الإعدامات السريعة". كما أن سجن القنيطرة شهد عمليات هروب نادرة، مثل تلك عام 1955، لكن طارق ساهم في إعادة الهاربين لتعذيبهم علناً كعبرة.الإرث: جرح غير مغلق ودروس للمستقبلمع نهاية الستينيات، استمر طارق في دوره حتى السبعينيات، لكنه اختفى تدريجياً من السجلات بعد انقلاب 1972، ربما بسبب إعادة هيكلة الأجهزة الأمنية تحت إدريس البصري. مات في الثمانينيات أو التسعينيات، دون محاسبة، كما حدث مع معظم الجلادين. إرثه حي: في جلسات IER، شهد عشرات الناجين ضده، وصفوه بـ"الوحش الذي بنى الخوف في جدران القنيطرة". كتاب "ذاكرة فينق" لسعيد حاجي يروي قصصاً عن تعذيبه، ويصف كيف ترك جيلاً من الجراح. اليوم، مع سعي المغرب للإصلاح، يُذْكَرُ طارق في الأدب السجني كرمز للقمع المنسي، حيث عوّضت IER الضحايا مالياً لكنها لم تحاسب الجلادين.قصة مصطفى طارق ليست سيرة فردية؛ إنها مرآة لنظام اعتمد على الجلادين للحفاظ على السلطة. في الستينيات، كان هو الوجه الخفي لـ"الاستقرار"، لكنه قتل الأمل في العدالة. كما قال ناجٍ في مقابلة مع الجزيرة: "طارق لم يقتل الأجساد فقط، بل قتل الأرواح". المغرب اليوم يحتاج إلى مواجهة مثل هذه الظلال كاملة، ليصبح الماضي دروساً لا تكراراً، ويبني مستقبلاً يحترم الكرامة الإنسانية.
تعليقات