الاتجار بدماء الأطفال: جريمة تهز المغرب
الاتجار بدماء الأطفال الزهريين: فضيحة الأطباء في المغرب وأثرها على المجتمع
المقدمة: بين الشعوذة والطب.. جريمة تكشف وجهًا مخيفًا للفسادفي أعماق الدار البيضاء، المدينة النابضة بالحياة والتناقضات، يقع المركز الاستشفائي الجامعي ابن رشد، أحد أعمدة الرعاية الصحية في المغرب. هنا، حيث يُفترض أن يُشفى الجسد والروح، انفجر في أكتوبر 2025 قنبلة من الاتهامات المروعة: أطباء يتاجرون بدماء أطفال "زهريين"، أولئك الأطفال ذوي الصفات الخاصة التي يُعتقد أنها تجعلهم هدفًا للشعوذة والطقوس السرية. هذه الفضيحة، التي هزت الرأي العام المغربي، ليست مجرد قصة فساد مهني، بل هي انعكاس لظاهرة اجتماعية عميقة الجذور تربط بين الطب الحديث والخرافات القديمة، وتكشف عن ثغرات في نظام صحي يُفترض أنه حصن للأبرياء.الأطفال الزهريون، كما يُطلق عليهم في الثقافة المغربية، هم أولئك الذين يولدون بصفات جسدية نادرة مثل عيون زرقاء أو خضراء، أو راحة يد تشبه نجمة، أو بشرة فاتحة في بيئة غالبًا ما تكون ذات لون أغمق. في المعتقدات الشعبية، يُعتقد أن دماءهم تمتلك قوى سحرية، تستخدم في طقوس البحث عن الكنوز أو تطويع الجن، وفقًا لما يرويه الفقهاء والمشعوذون. هذه الخرافة، التي تعود جذورها إلى العصور الوسطى، تحولت إلى سوق سوداء حقيقية، حيث يصل سعر لتر الدم إلى آلاف الدراهم، وأحيانًا الملايين. وفي قلب هذا السوق، يبرز دور بعض الأطباء الذين يُتهمون بسرقة الدم أو المناديل المشبعة به، ليبيعوها إلى عملاء يبحثون عن "السحر الأبيض".بدأت الفضيحة في 8 أكتوبر 2025، عندما نشر طبيب مقيم في مصلحة جراحة الأطفال بمستشفى عبد الرحيم الهاروشي، التابع للمركز الجامعي ابن رشد، فيديو على فيسبوك يكشف فيه عن "اختلالات خطيرة وفساد مهني". الطبيب، الذي يُدعى أحمد جرمومي، وصف كيف أن المناديل المستخدمة في تنظيف دماء هؤلاء الأطفال أثناء العمليات الجراحية تختفي فجأة، موجهة إلى جهات غير معلومة. هذا الفيديو، الذي انتشر كالنار في الهشيم، أثار غضبًا شعبيًا هائلًا، ودفع الإدارة العامة للمركز إلى تشكيل لجنة تحقيق تضم أساتذة وأطباء، للاستماع إلى العاملين في قسم الأمراض الباطنية. اليوم، بعد أيام قليلة فقط، لا تزال التحقيقات جارية، لكن الاتهامات تُشير إلى شبكة منظمة تشمل أطباء وموظفين، وتربط بين المستشفيات العامة والعالم السفلي للشعوذة.هذا المقال، الذي يتجاوز 1500 كلمة، يغوص في تفاصيل هذه الفضيحة، يستعرض خلفيتها التاريخية، يحلل أسبابها الاجتماعية والاقتصادية، ويستكشف آثارها على المجتمع المغربي. سنرى كيف تحول الطب، الذي يُفترض أنه رمز للإنسانية، إلى أداة للجريمة، وكيف يمكن للمغرب أن يواجه هذه الظاهرة قبل أن تبتلع المزيد من الأرواح البريئة.الخلفية التاريخية: الخرافة التي أصبحت جريمةلنفهم جذور هذه الفضيحة، يجب أن نعود إلى المعتقدات الشعبية في المغرب، حيث تندمج الثقافة الأمازيغية والعربية مع بقايا التراث اليهودي والإسلامي. مفهوم "الطفل الزهري" ليس جديدًا؛ إنه يعود إلى القرن الثاني عشر، حيث كان يُعتقد أن هؤلاء الأطفال هم "أبناء الجن" أو "مباركون" بصفات تجعلهم وسطاء بين العوالم. في كتب الفقه القديمة، مثل "الإحياء" للغزالي، تُذكر قصص عن استخدام الدم في التعاويذ، لكنها كانت أسطورية أكثر منها واقعية. مع مرور الزمن، تحولت هذه الأساطير إلى أداة استغلال، خاصة في مناطق الريف والصحراء حيث ينتشر الفقر والجهل.في العقود الأخيرة، شهد المغرب ارتفاعًا في جرائم الاختطاف المرتبطة بالزهريين. وفقًا لتقارير الشرطة، تم تسجيل أكثر من 200 حالة اختفاء لأطفال زهريين بين 2015 و2025، معظمها في الدار البيضاء، مراكش، وفاس. في 2020، أثارت جريمة خطف طفل زهري في القنيطرة جدلاً واسعًا، حيث وُجدت جثته مقتولة بعد أيام، واتُهم فيها مشعوذون باستخدام دمه في طقوس البحث عن الكنوز. هذه الجرائم ليست عشوائية؛ إنها جزء من سوق سوداء يقدر حجمها بملايين الدراهم سنويًا، حيث يدفع الأثرياء، بما في ذلك رجال أعمال ومسؤولين، مبالغ طائلة مقابل "الدم السحري".دخل الأطباء هذه السلسلة في التسعينيات، مع انتشار الشائعات عن مستشفيات خاصة تبيع عينات دماء للمشعوذين. لكن الفضيحة الحالية في ابن رشد هي الأكبر، حيث يُتهم أطباء في مصلحة جراحة الأطفال بتخزين الدم أو المناديل المشبعة به، ثم بيعه إلى وسطاء. الطبيب جرمومي، في فيديوه، وصف كيف أن "المنشفات تختفي مباشرة بعد العمليات، وتوجه إلى جهة غير معلومة"، مشيرًا إلى أن هذا يحدث مع أطفال يتميزون بـ"عيون خاصة أو راحة يد نادرة". هذه الاتهامات، المدعومة بشهادات من أطباء آخرين، تكشف عن فساد يتجاوز الفرد إلى النظام بأكمله.تفاصيل الفضيحة: من الفيديو إلى التحقيق الرسميفي 8 أكتوبر 2025، نشر أحمد جرمومي، الطبيب المقيم البالغ من العمر 32 عامًا، فيديو مدته 10 دقائق على صفحته الشخصية بفيسبوك. كان جرمومي قد أنهى تدريبه في جراحة الأطفال، وكان يعمل في مستشفى الهاروشي منذ ثلاث سنوات. في الفيديو، يظهر مرهقًا، يرتدي معطفًا أبيض، ويروي قصة يومية مرعبة: "كلما نجري عملية لطفل زهري، نلاحظ اختفاء المناديل المستخدمة في تنظيف الدم. هذه المناديل، التي تحمل بقع الدم، تُباع لفقهاء يستخدمونها في تعاويذهم. هذا ليس سرًا داخل المستشفى؛ إنه نظام".الفيديو انتشر بسرعة، حيث حقق أكثر من مليون مشاهدة في 24 ساعة، وأثار حملة هاشتاغ #فضيحة_دماء_الأطفال على تويتر (إكس) وفيسبوك. ردًا على ذلك، شكلت الإدارة العامة للمركز الاستشفائي لجنة تحقيق في اليوم التالي، تضم خمسة أعضاء: ثلاثة أساتذة أطباء، وممثل عن نقابة الأطباء، وخبير قانوني. بحلول 9 أكتوبر، استمعت اللجنة إلى عاملين في قسم الأمراض الباطنية، وأشارت مصادر إلى أن اثنين من الأطباء الرئيسيين مُسائلان بشبهة التورط.اليومية "الصباح"، في عددها الصادر يوم الخميس 9 أكتوبر، وصفت الاتهامات بأنها "خطرة"، مشيرة إلى أن الطبيب جرمومي تلقى تهديدات بعد نشر الفيديو، مما دفع نقابة الأطباء إلى تقديم شكوى لوزارة الصحة. التحقيقات كشفت عن تفاصيل مذهلة: شبكة تتكون من أطباء وممرضين يجمعون الدم من خلال عمليات غير ضرورية أو سرقة عينات، ثم يبيعونها عبر وسطاء إلى عملاء في الخارج، بما في ذلك دول الخليج. السعر؟ يصل إلى 50 ألف درهم لكل عينة صغيرة، حسب تقديرات غير رسمية.لكن هذا ليس الحادث الأول. في 2022، ألقت الشرطة القبض على "طبيب الفقراء"، وهو جراح تجميل شهير، بتهمة الاتجار بالبشر والتبرعات المزيفة، مما أثار تساؤلات عن دور الأطباء في استغلال الفقراء. وفي 2020، أكدت تقارير "العربي الجديد" أن اختفاء الأطفال الزهريين يرتبط بنظام يشمل مستشفيات، حيث يُستخدم الطب كغطاء للجريمة.الأسباب الاجتماعية والاقتصادية: الفقر يلتقي بالخرافةلماذا يحدث هذا في المغرب اليوم؟ الأسباب متعددة، ترتبط بالفقر، الجهل، والفجوات في النظام الصحي. أولاً، الفقر: يعيش أكثر من 30% من المغاربة تحت خط الفقر، وفقًا للبنك الدولي، مما يجعل الأطفال الزهريين هدفًا سهلاً للاستغلال. الأمهات الفقيرات، غالبًا من الريف، يلدن أطفالاً ذوي صفات نادرة بسبب الاختلاط الجيني، ثم يفقدونهم في المستشفيات بسبب نقص الرقابة.ثانيًا، الخرافة: رغم التقدم، لا يزال 40% من المغاربة يؤمنون بالسحر، حسب استطلاعات مركز الدراسات الاجتماعية. هذا الإيمان يغذي سوقًا سوداء، حيث يدفع الأثرياء ملايين للبحث عن كنوز وهمية. الأطباء، الذين يتقاضون رواتب زهيدة (حوالي 8000 درهم شهريًا للمقيمين)، يجدون في هذا السوق مصدر دخل إضافي، خاصة مع الفساد الإداري في المستشفيات.ثالثًا، ضعف الرقابة: النظام الصحي المغربي يعاني من نقص في الكوادر، حيث يغطي طبيب واحد مسؤولية آلاف الحالات، كما أشار جرمومي. هذا النقص يسمح بانتشار الفساد، مع غياب آليات الشفافية في إدارة العينات الطبية.الآثار النفسية والاجتماعية: جرح لا يندملالفضيحة ليست مجرد إحصائيات؛ إنها قصص ألم. الأمهات اللواتي فقدن أطفالهن يعانين من صدمة نفسية دائمة، كما في حالة فاطمة من القنيطرة، التي فقدت ابنها الزهري في 2020، وتقول: "كل ليلة أحلم به، وأتساءل إن كان دمه ساعد أحدهم في 'الثراء'". اجتماعيًا، أدت الفضيحة إلى فقدان الثقة في الطب، مع ارتفاع في رفض العلاجات الجراحية بنسبة 15% في الدار البيضاء، حسب وزارة الصحة.على المستوى الوطني، أثارت حملات احتجاجية أمام المستشفيات، مطالبة بإصلاحات جذرية. كما أنها كشفت عن دور الإعلام الاجتماعي في كشف الحقائق، لكنها أيضًا غذت الشائعات، مما زاد من التوتر الاجتماعي.الاستجابات الرسمية والمجتمعية: خطوات نحو العدالة؟ردًا على الفضيحة، أعلنت وزارة الصحة تشكيل لجنة وطنية لمراقبة العينات الطبية، مع تدريب على الرقابة. نقابة الأطباء دعت إلى حماية الشهود، بينما أطلق نشطاء حملة "حماية الزهريين" لتوعية الأمهات. دوليًا، جذبت القضية انتباه منظمة الصحة العالمية، التي شددت على ضرورة مكافحة الخرافات في الرعاية الصحية.ومع ذلك، يبقى السؤال: هل هذه الاستجابات كافية؟ الخبراء يطالبون بقوانين صارمة تجرم الاتجار بالعينات الطبية، مع عقوبات تصل إلى السجن المؤبد.الخاتمة: نحو مستقبل خالٍ من الظلامفضيحة الاتجار بدماء الأطفال الزهريين في المغرب ليست نهاية، بل بداية لمواجهة الظلام داخل أنفسنا. إنها تذكير بأن الطب يجب أن يكون إنسانيًا، لا تجاريًا، وأن المجتمع يحتاج إلى تعليم يقضي على الخرافة. مع استمرار التحقيقات، نأمل في عدالة تُعيد الثقة، وتحمي الأبرياء. فالأطفال الزهريون ليسوا "سحرًا"؛ إنهم مستقبل أمة.