حراك GenZ 212: غضب جيل Z بين المطالب الاجتماعية والقمع الأمني
مقدمة
منذ سنوات طويلة ظل السؤال مطروحًا حول موقع الشباب المغربي في الحياة العامة وحول قدرتهم على فرض أجندة جديدة في النقاش الوطني، غير أن كل المحاولات الرسمية لدمجهم كانت غالبًا شكلية لا تغير من جوهر المعادلة. جيل Z، ذلك الجيل الذي ولد ونشأ في زمن الهواتف الذكية وشبكات التواصل الاجتماعي، لم يعد اليوم مجرد كتلة صامتة تتابع من بعيد، بل أصبح لاعبًا أساسيًا يملك أدواته الخاصة في التعبئة والتأثير، ويمتلك لغة مختلفة في الاحتجاج والضغط. وقد تجلى ذلك بوضوح مع اندلاع حركة GenZ 212 في أواخر شتنبر 2025، والتي مثلت أكبر تعبير جماهيري لهذا الجيل منذ عقد على الأقل، بعدما خرج الآلاف إلى الشوارع في مدن مختلفة، مرددين شعارات غاضبة تندد بتردي الخدمات الصحية والتعليمية، وبالأخص بعد المأساة التي شهدها مستشفى الحسن الثاني بأكادير حيث توفيت ثماني نساء أثناء عمليات قيصرية. هذا الحدث، وإن كان الشرارة المباشرة، إلا أنه جاء لينفجر فوق تراكمات سنوات من التهميش والوعود غير المنجزة، فوجد الشباب فيه اللحظة المناسبة ليقولوا كلمتهم، وليعيدوا النقاش حول أولوية الإنسان البسيط في السياسات العمومية.
عرض
لم تقتصر احتجاجات GenZ 212 على المسيرات السلمية والهتافات في الساحات العامة، بل سرعان ما تحولت في بعض المناطق إلى مواجهات دامية كشفت عن حجم الهوة بين الشباب والدولة. ففي مدن مثل إنزكان وأيت عميرة ووزان، وقعت صدامات حادة بين قوات الأمن والمحتجين، استُخدمت فيها القنابل المسيلة للدموع والهراوات، كما وثقت مقاطع مصورة دهس مواطنين بسيارات الشرطة، مما أدى إلى سقوط جرحى وقتلى أثاروا موجة صدمة وغضب عارم داخل البلاد وخارجها. هذه الصور التي انتشرت على نطاق واسع عبر منصات تيك توك وإنستغرام لم تترك مجالًا للإنكار، بل وضعت السلطات في موقف صعب، إذ بدا أن القوة المفرطة قد زادت الطين بلة بدل أن تردع الشباب. فبدل أن يتراجع الحراك، توسع نطاقه وازدادت حدته، وتحوّل بعضه إلى أعمال تخريب كرد فعل على القمع، حيث أُضرمت النيران في ممتلكات عمومية وخاصة، وأغلقت طرق رئيسية، وارتفعت شعارات أكثر راديكالية تتهم الدولة مباشرة بالتقصير والإهمال وحتى بالقتل.
هذه التطورات فتحت الباب لنقاش واسع حول إستراتيجية التعامل الأمني مع الاحتجاجات، إذ تساءل كثيرون إن كانت المقاربة الأمنية الصلبة ما زالت قادرة على إخماد أصوات جيل لا يشبه الأجيال السابقة. فجيل Z متشبع بالصور واللقطات الفورية، وما يُنشر عبر الهواتف المحمولة من فيديوهات يخلق رواية مضادة للرواية الرسمية، ويصعب السيطرة عليه. كل حادثة دهس أو اعتقال أو ضرب تُوثق وتُتداول بسرعة، فتتحول إلى دليل مادي ضد الخطاب الرسمي الذي يتحدث عن "ضبط النفس" أو "تدخل محدود". هنا يظهر التناقض بين لغة الدولة ولغة الشارع، حيث يرى الشباب أن القمع دليل على غياب الإرادة السياسية في الإصلاح، بينما ترى السلطات أن الفوضى لا يمكن أن تُترك دون رد.
من ناحية أخرى، برزت إشكالية غياب قيادة واضحة للحراك، وهو ما زاد من تعقيد الموقف. فبينما كانت الدولة تبحث عن محاورين للتفاوض، لم يكن للحراك وجه معروف أو لجنة تمثل مطالبه. الشباب الذين خرجوا إلى الشارع يتحركون في فضاء شبكي لامركزي، حيث لا أحد يستطيع الادعاء أنه القائد أو الناطق الرسمي. هذا الوضع أعطى للحراك قوة من جهة لأنه يصعب تفكيكه أو السيطرة عليه، لكنه من جهة أخرى أفقده إمكانية صياغة لائحة مطالب دقيقة يمكن مناقشتها في طاولة الحوار. كل ما كان يتكرر هو شعارات عامة عن الكرامة والتعليم والصحة والعدالة الاجتماعية، دون تفصيل في كيفية تحقيق ذلك أو أولوياته. وهنا ظهرت فجوة بين الطابع العفوي للحراك وبين الحاجة إلى برامج عملية تترجم الغضب إلى حلول ملموسة.
الإعلام الرسمي لعب دوره المعتاد في محاولة تأطير الصورة. ركزت نشراته وتقاريره على مشاهد التخريب والمواجهات مع الأمن، وقللت من شأن المطالب الاجتماعية، مقدمة الحراك كحالة شغب يقودها مراهقون أو مندسون. لكن هذا الخطاب بدا ضعيف التأثير في ظل قوة الإعلام البديل عبر الإنترنت، حيث تم تداول شهادات حية من الجرحى وأهالي الضحايا، وصور الأجساد المدهوسة، والمواجهات الدامية، مما رسخ رواية مغايرة لدى الرأي العام. وهنا يمكن القول إن معركة السرديات كانت لصالح الشباب، إذ تمكنوا من فرض روايتهم وإحراج السلطات على الصعيدين الداخلي والخارجي. منظمات حقوقية دولية بدورها عبرت عن قلقها من استخدام القوة المفرطة، بينما بدأت وسائل إعلام أجنبية تنشر تقارير عن "انتفاضة الجيل الجديد في المغرب"، وهو ما زاد من الضغط على الحكومة.
رد الفعل الرسمي تمثل في تصريحات تؤكد "التفهم لمطالب الشباب" مع إدانة "كل أشكال العنف والتخريب"، مع وعود بفتح تحقيق في حادثة أكادير وتخصيص موارد إضافية للصحة والتعليم. لكن كثيرين اعتبروا هذه الردود غير كافية، خاصة في ظل غياب إجراءات ملموسة وفورية على الأرض. الشباب لم يخرجوا ليستمعوا إلى بيانات بل يريدون رؤية مستشفيات مجهزة ومدارس في مستوى لائق وفرص عمل حقيقية. وفي غياب هذه التغييرات، ظل الحراك يتغذى من شعور واسع بأن الوعود السابقة لم تُنفذ وأن الزمن السياسي الرسمي يسير ببطء شديد مقارنة بسرعة التحولات الاجتماعية.
من الناحية التاريخية، يُذكّر هذا الحراك بحركات احتجاجية سابقة مثل حراك الريف في 2016–2017 أو حركة 20 فبراير في 2011. غير أن الفرق الجوهري أن جيل Z يقود اليوم التعبئة دون ارتباط بأحزاب أو نخب سياسية، مما يجعله أكثر استقلالية وأصعب في الاحتواء. حراك الريف كان له قادة بارزون اعتقلوا لاحقًا، أما في حالة GenZ 212 فلا وجود لشخصيات يمكن استهدافها، فالميدان كله شبكة متداخلة من الأصوات والحسابات. وهذا يعكس التغير العميق في طبيعة الاحتجاجات المعاصرة، حيث يصبح العالم الرقمي فضاء للتنظيم الذاتي غير المرئي، في حين يظل العالم الواقعي مسرحًا للانفجار المفاجئ.
أما على مستوى المجتمع، فقد أحدثت الأحداث انقسامًا في المواقف. هناك من تعاطف مع الشباب واعتبرهم صوت الحق الذي يطالب بأبسط مقومات العيش الكريم، وهناك من خاف من الانزلاق إلى الفوضى والفلتان، خصوصًا بعد حوادث التخريب التي طالت الممتلكات الخاصة والعامة. هذا الانقسام يعكس بدوره أزمة ثقة عميقة: فالمواطن العادي بين سندان الحاجة إلى التغيير ومطرقة الخوف من عدم الاستقرار. ومع أن كثيرين يلومون الدولة على سوء التدبير، إلا أن القلق من العنف يجعل بعضهم مترددًا في الانضمام للحراك. هذه الازدواجية تزيد من تعقيد المشهد وتجعله مفتوحًا على كل الاحتمالات.
في التحليل النهائي، يظهر حراك GenZ 212 كحدث مفصلي في علاقة الدولة المغربية بجيلها الجديد. فهو لم يكن مجرد احتجاج على حادثة صحية بل تعبيرًا عن تراكم طويل من الإحباط، فجّره جيل لا يقبل بالوعود القديمة ولا بلغة الصبر. جيل يريد حلولًا فورية، ويرى في الشبكات الرقمية سلاحًا أقوى من أي خطاب رسمي. وإذا كانت الدولة قد نجحت في تهدئة احتجاجات سابقة عبر الاعتقالات أو عبر الوعود المرحلية، فإن الوضع الآن مختلف لأن القاعدة الاجتماعية أوسع ولأن العالم الخارجي يراقب بدقة أكبر، ولأن الأدوات الرقمية تجعل من كل حادثة محلية قضية وطنية في ثوانٍ معدودة.
خاتمة
خاتمة القول إن مستقبل المغرب مرهون بقدرته على الاستماع إلى هذا الجيل قبل أن تتفاقم الهوة. القمع قد يؤجل الأزمة لكنه لن يحلها، والتخريب قد يعبر عن الغضب لكنه لن يقدم بدائل. وحده الحوار الجدي المقرون بإصلاحات ملموسة يمكن أن يبني الثقة المفقودة. وإذا فشلت الدولة في الاستجابة، فإن جيل Z سيبقى شوكة في خاصرتها، يخرج كل مرة أقوى وأكثر تنظيمًا، حتى تتحقق وعود الكرامة والعدالة التي يرفعها. وما بين دهس الأجساد في الشوارع وصوت الهواتف التي توثق كل شيء، يكتب المغرب فصلا جديدا من تاريخه، قد يحدد لعقود قادمة شكل العلاقة بين السلطة والمجتمع.