حين خرجت ساكنة آيت عبي في مسيرة سلمية تكشف حجم التهميش القروي
مقدمة
في صباح الأمس كان إقليم أزيلال على موعد مع حدث احتجاجي استثنائي حين خرجت ساكنة دوار آيت عبي بجماعة تيلوكيت في مسيرة شعبية سلمية اتجهت بخطوات وئيدة نحو عاصمة الإقليم، رافعة مطالب اجتماعية بسيطة لكنها جوهرية، مطالب تختزل هموم سنين طويلة من التهميش والعزلة والمعاناة اليومية مع غياب أبسط شروط العيش الكريم. لم تكن المسيرة مجرد حشد عابر يملأ الطريق ويعود أدراجه، بل كانت فعلاً رمزياً مكثفاً جاء ليقول إن هؤلاء المواطنين لم يعودوا يحتملون صمتاً أكثر، وإن صوتهم يجب أن يُسمع في قلب المؤسسات حيث تصاغ القرارات وتوزع المشاريع. كان المشهد مؤثراً منذ لحظة الانطلاق: رجال بملامح متعبة من قسوة العمل اليومي في الحقول والجبال، نساء بلباس تقليدي يحمل في ألوانه عبق الأرض وصبر الأجيال، أطفال يسيرون بخطوات صغيرة لكنهم يرفعون شعوراً بالانتماء والمطالبة بحقوق مستقبلهم، وشيوخ تجاوزوا عتبة القوة الجسدية لكنهم أصروا على المشاركة لأنهم يعرفون أن المعركة الحقيقية ليست معركة يوم واحد بل تراكم سنوات من الإهمال.
عرض
من يتابع المسيرة عن قرب يكتشف أنها لم تكن وليدة لحظة غضب طارئة، بل ثمرة تراكم طويل من الصبر الممزوج بالخذلان. سكان هذه المناطق يعيشون يومياً مع طرق وعرة تفصلهم عن المراكز الحضرية، يحتاجون ساعات طويلة للوصول إلى الخدمات الأساسية التي يفترض أن تكون متاحة في محيطهم القريب. حين يمرض طفل أو امرأة حامل، تبدأ رحلة قاسية نحو أقرب مستوصف أو مستشفى، رحلة محفوفة بالمخاطر بسبب وعورة المسالك وانعدام وسائل النقل المناسبة، وقد تنتهي أحياناً بفقدان حياة كان يمكن إنقاذها لو توفرت البنية التحتية. الماء، وهو حق طبيعي لا يقبل الجدل، يتحول في هذه القرى إلى همّ يومي يتطلب قطع مسافات طويلة لجلبه من عيون متفرقة قد لا تكون صالحة للشرب، مما يعرض الأسر للأمراض والتعب المستمر. الكهرباء، التي صارت في العالم الحديث شرطاً أولياً لكل تنمية اقتصادية وثقافية، ما زالت بالنسبة إلى عدد من البيوت حلماً بعيد المنال أو خدمة متقطعة تفتقد إلى الاستقرار. التعليم بدوره ليس في أحسن حال، إذ يضطر الأطفال إلى قطع مسافات طويلة للوصول إلى مدارس تفتقر إلى التجهيزات والمعلمين، الأمر الذي يدفع الكثير من الأسر إلى التسرب المبكر من الدراسة، في دورة تكرس الفقر والجهل معاً.
المسيرة حملت هذه المطالب بلغة بسيطة ومباشرة: نريد طرقاً معبدة تفك العزلة، نريد ماءً صالحاً للشرب يصل إلى بيوتنا، نريد كهرباء مستمرة، نريد مستوصفاً صحياً يضمن الحد الأدنى من العناية الطبية، نريد مدارس مؤهلة لأبنائنا، ونريد أن نُعامل كمواطنين كاملي الحقوق لا كأرقام في إحصاءات موسمية. هذه المطالب تبدو للوهلة الأولى بديهية، فهي لا تتحدث عن مشاريع ضخمة أو استثمارات هائلة، بل عن ضروريات حياة لا يمكن لأي مجتمع أن يستمر دونها. ومع ذلك ظل سكان آيت عبي ينتظرون لعقود وعوداً لا تتحقق ومشاريع تبقى حبيسة الأوراق، فكان لا بد من أن يختاروا الشارع وسيلة للضغط والتذكير.
اللافت أن المسيرة كانت سلمية بشكل كامل، لم تُرفع فيها شعارات عنيفة ولا لافتات متشنجة، بل غلب عليها الطابع المدني الحضاري. هذا يعكس وعياً مجتمعياً بأن الحلول لا تأتي من الفوضى وإنما من التنظيم والضغط المشروع. لقد اصطف الناس في صفوف متراصة، ساروا على أقدامهم لمسافة طويلة رغم التعب والبرد، مرددين شعارات تطالب بالكرامة والعدل، في مشهد يكشف أن الساكنة لم تعد تؤمن بجدوى الانتظار الصامت. وفي الطريق، كان المشهد كاشفاً بحد ذاته: طرق متربة ضيقة، منازل متواضعة، طبيعة خلابة لكنها محاصرة بالإهمال، أطفال يلوحون للمسيرة من على جنبات الطريق وكأنهم يضعون آمالهم كلها في هذه الخطوة الجماعية.
حين وصلت المسيرة إلى مشارف عاصمة الإقليم، بدا واضحاً أن الرسالة وصلت، فالمشهد لم يعد قابلاً للتجاهل. استقبال وفد عن المحتجين من طرف ممثلي السلطة كان خطوة أولى، لكن الساكنة تعلم أن الوعود قد لا تكفي، فقد اعتادوا سماع كلمات مثل “سندرس مطالبكم” أو “سنقوم بزيارات تقنية” من قبل، لكنهم نادراً ما لمسوا تغييراً فعلياً. لذلك، فإن الجديد في هذه المسيرة هو أنها لم تكتف بالمطالبة، بل ربطت المطالب بضرورة تحديد آجال واضحة وجدول زمني للتنفيذ، مع إشراك ممثلين عن الساكنة في المتابعة. هذا الوعي يعكس تطوراً في ثقافة الاحتجاج بالمناطق القروية: لم يعد الناس يقبلون أن يكونوا متفرجين على مشاريع غامضة، بل يريدون أن يكونوا طرفاً في صياغة الحلول.
خلفية هذا الحدث مرتبطة ببنية أعمق من الاختلالات التي يعرفها المغرب القروي. فإقليم أزيلال، مثل غيره من أقاليم الأطلس، يعاني منذ عقود من هشاشة البنية التحتية وصعوبة التضاريس وغياب استثمارات عمومية كافية. رغم أن الخطاب الرسمي يكثر من الحديث عن تقليص الفوارق المجالية والاجتماعية، إلا أن الأرقام على الأرض تفضح بطء الإنجاز وغياب الاستمرارية. المشاريع التي تصل عادة ما تكون صغيرة ومجزأة، تفتقد إلى رؤية شمولية تربط بين التعليم والصحة والبنيات الطرقية وفرص الشغل. وفي ظل هذا النقص، يشعر المواطن القروي أن نصيبه من الدولة محدود جداً، وأنه مواطن من الدرجة الثانية مقارنة بسكان المدن الكبرى الذين يتمتعون بخدمات أوسع وفرص أفضل.
ما يميز مسيرة آيت عبي هو أنها كشفت عمق الهوة بين الخطاب التنموي والواقع المعيش. فحين تقول السلطات إنها تستثمر في البنى التحتية، يرد المواطن بسؤال بسيط: أين هي هذه الاستثمارات في قريتي؟ حين تقول الدولة إنها عممت الكهرباء والماء، يرد المواطن: لماذا ما زلت أقطع كيلومترات لجلب دلو ماء؟ حين يقال إن الصحة حق مضمون، يرد المواطن: لماذا أفقد أمي أو طفلي على طريق جبلية لأن المستشفى بعيد؟ هذا التناقض بين الكلام والواقع هو ما يفجر الاحتجاجات.
في المقابل، يمكن قراءة المسيرة كدليل على أن المجتمع القروي لم يعد مستسلماً للعزلة. لقد كسر حاجز الخوف والصمت، وقرر أن يمارس حقه في التعبير والاحتجاج بشكل حضاري. وهذا في حد ذاته تحول إيجابي ينبغي أن يُقرأ بعناية من طرف المسؤولين، لأن الاحتجاج السلمي هو جرس إنذار مبكر يمكن أن يمنع انفجارات اجتماعية أكبر إذا تمت الاستجابة له بجدية.
المسيرة أيضاً تطرح سؤال العدالة المجالية: هل يعقل أن تظل مناطق بكاملها على هامش التنمية بينما تُصرف أموال ضخمة في مشاريع متمركزة في مدن معينة؟ هل من الإنصاف أن يبقى أطفال القرى محرومين من مدارس لائقة بينما يقال إن المغرب يراهن على الاستثمار في الرأسمال البشري؟ هذه الأسئلة المؤرقة تتجاوز جماعة تيلوكيت إلى صورة أشمل عن المغرب العميق.
إن نجاح هذه المسيرة لا يقاس بعدد المشاركين فقط، بل بما ستسفر عنه من نتائج ملموسة. فإذا تحولت إلى بداية حوار حقيقي وخطة تنموية واضحة، فستكون قد حققت هدفها وأعطت نموذجاً لباقي القرى على كيفية المطالبة بالحقوق. أما إذا انتهت عند حدود الوعود المؤجلة، فستكون مجرد حلقة أخرى في مسلسل الإحباط الذي يعيشه القروي المغربي. لذلك تقع المسؤولية الآن على عاتق السلطات المحلية والجهوية والمركزية لتثبت أن صوت المواطن مسموع وأن مطالبه ليست مجرد صدى في الفراغ.
الأكيد أن المسيرة ستظل محفورة في ذاكرة المشاركين، ليس لأنها خطوة احتجاجية فحسب، بل لأنها جسدت معنى التضامن الجماعي. حين يخرج رجال ونساء وأطفال وشيوخ معاً في مسافة طويلة وشاقة، فإنهم يعلنون أن مطالبهم مشتركة وأن معركتهم واحدة. هذا الإحساس بالانتماء المشترك هو ما يعطي الاحتجاج قوته وشرعيته. وهو أيضاً ما يجعل تجاهله أمراً بالغ الخطورة، لأن أي محاولة لتمييع أو تهميش هذه المطالب قد تزرع بذور يأس أعمق.
خاتمة
في النهاية، ما جرى في أزيلال أمس ليس مجرد مسيرة قروية، بل مرآة لوضعية أوسع في المغرب القروي. هو صرخة ضد الإقصاء، ودعوة لإعادة النظر في أولويات السياسات التنموية، وتذكير بأن التنمية لا تقاس فقط بمؤشرات الاقتصاد الكلي، بل أيضاً بمدى وصول الماء والكهرباء والطرق والمدارس والمستوصفات إلى أبعد قرية. هي دعوة إلى أنسنة السياسات العمومية، أن ترى الدولة في هؤلاء المواطنين شركاء في الوطن لا مجرد أرقام. وإذا كان المغرب يطمح إلى بناء نموذج تنموي جديد، فإن البداية الحقيقية لا تكون إلا من هناك، من دواوير الأطلس التي تطالب بالحد الأدنى من العيش الكريم، لأن نجاح أي نموذج لن يقاس بما تحققه المدن الكبرى فقط، بل بما يشعر به القروي البسيط في حياته اليومية.