«Mia Moglie»... حين تتحول الخصوصية إلى مادة للفضيحة الرقمية
مقدمة
في أغسطس من سنة 2025 اهتز الرأي العام الإيطالي ومعه جزء واسع من العالم بخبر إغلاق مجموعة على فيسبوك تحمل اسمًا عاديًا في الظاهر هو «Mia Moglie» أي «زوجتي» بالإيطالية، لكن خلف هذا الاسم البسيط كان يختبئ فضاء مظلم شارك فيه آلاف الرجال صورًا لزوجاتهم أو شريكات حياتهم، في أحيان كثيرة دون إذنهن أو علمهن، وجعلوا من هذه الصور مادة للتباهي والازدراء والتعليق الجنسي الساخر. لم يكن الأمر مجرد مجموعة صغيرة مجهولة، بل فضاء يضم أكثر من اثنين وثلاثين ألف عضو، ما يعكس حجم الظاهرة وخطورتها، وكيف تحولت إلى شبكة اجتماعية موازية تسند نفسها بصمت وتستمد قوتها من العادة السرية للتطبيع مع ما هو غير مقبول. حين بدأت التسريبات تخرج للعلن، وتكثفت البلاغات، قررت شركة ميتا المالكة لفيسبوك إغلاق المجموعة رسميًا يوم 20 أغسطس 2025، تحت ضغط موجة من الشكاوى والاحتجاجات قادتها ناشطات في مجال حقوق النساء، أبرزهن الكاتبة كارولينا كابريا التي جعلت من فضح هذه المجموعة مهمة شخصية وعامة في آن واحد، ففتحت الباب أمام نقاش وطني ودولي عن معنى الخصوصية في زمن الشبكات الاجتماعية، وعن العنف الرقمي الموجَّه ضد النساء.
عرض
لكن ما وقع لا يمكن أن يُقرأ فقط في لحظته الراهنة، بل هو فصل جديد في قصة طويلة بدأت منذ ظهور الإنترنت المفتوح وتطبيقات التواصل الاجتماعي، حيث لم يعد استغلال صور النساء حكرًا على دائرة ضيقة أو علاقة شخصية، بل أصبح مشاعًا في فضاءات واسعة لا تخضع لرقابة حقيقية، وأصبح كل هاتف ذكي قادرًا على التحول إلى أداة لتجميع المواد الحميمة وتسريبها ونشرها في مجموعات مغلقة أو شبه مغلقة. في إيطاليا وبلدان أخرى عُرفت منذ سنوات حالات مشابهة لما يُسمى بـ«الانتقام الإباحي» أو نشر الصور الخاصة دون موافقة، وهي جريمة أدرجها المشرع الإيطالي في القانون الجنائي سنة 2019 تحت ضغط قضايا مأساوية دفعت الحكومة وقتها إلى إدخال تعديلات تتيح متابعة كل من ينشر صورًا حميمة دون إذن صاحبها بعقوبة قد تصل إلى ست سنوات سجنًا. ومع ذلك ظل التطبيق محدودًا، لأن الشبكات الرقمية أكثر سرعة من قدرة القانون على الردع، ولأن الضحايا في الغالب يترددون في رفع دعاوى خوفًا من الفضيحة أو من طول الإجراءات القضائية التي قد تزيد من معاناتهم النفسية.
حادثة «Mia Moglie» جاءت لتعيد إلى السطح كل هذه الإشكالات. فمن الناحية الثقافية تكشف عن استمرار ذهنية ذكورية تعتبر جسد المرأة متاعًا عامًا يمكن التباهي به أمام مجموعة من الرجال الآخرين، وتحوِّل العلاقة الزوجية أو العاطفية إلى سوق للعرض والطلب الرمزي حيث يُقاس الرجل بمدى «جرأته» على مشاركة ما يُفترض أنه خاص وسري. هذه الثقافة ليست منفصلة عن تاريخ طويل من تطبيع السيطرة الذكورية، لكنها وجدت في التكنولوجيا الحديثة وسيطًا جديدًا يزيد من انتشارها ويجعلها أكثر وقاحة، إذ لم يعد الأمر يقتصر على دوائر الأصدقاء الضيقة، بل صار يمتد إلى عشرات الآلاف في مجموعات افتراضية. وما يزيد خطورة الظاهرة أن كثيرًا من المشاركين لم يروا في أنفسهم مجرمين، بل اعتبروا ما يقومون به نوعًا من التسلية أو من «التضامن الذكوري»، وهنا يكمن عمق الأزمة: حين يتحول الاعتداء على الخصوصية إلى سلوك عادي يُمارس دون شعور بالذنب.
من الناحية الاجتماعية أثار إغلاق المجموعة ردود فعل متباينة، بين من رأى في الأمر فضيحة كبيرة تعكس انهيار الحدود الأخلاقية، ومن حاول التهوين معتبرًا أن هذه مجرد صور يتداولها الناس في كل مكان. لكن الغالبية من المنظمات النسائية والحقوقية اعتبرت ما وقع جريمة كبرى ضد النساء، ووجهت أصابع الاتهام ليس فقط إلى الأفراد الذين شاركوا في النشر، بل أيضًا إلى المنصة التي سمحت بوجود المجموعة سنوات طويلة قبل أن تتدخل لإغلاقها. هذا الاتهام يطرح سؤالًا عميقًا حول دور المنصات الكبرى: هل يكفي أن تتدخل بعد التبليغ، أم أن عليها واجبًا استباقيًا في مراقبة ما يحدث داخلها؟ ميتا بررت موقفها بأنها لا تستطيع مراقبة كل المجموعات المغلقة إلا عند تلقي بلاغات واضحة، لكن هذا التبرير لم يُقنع الكثيرين الذين يرون أن الشركة تملك تكنولوجيا ذكاء اصطناعي قادرة على رصد الأنماط المشبوهة وتحديدها بسرعة، وأن امتناعها عن ذلك يعود إلى رغبتها في تجنب كلفة الرقابة المباشرة.
أما الحكومة الإيطالية فقد وجدت نفسها مضطرة للتحرك بسرعة بعد أن تحولت القضية إلى فضيحة وطنية. شرطة البريد الإلكتروني «Polizia Postale» فتحت تحقيقًا جنائيًا، وتم الإعلان عن تتبع المتورطين وجمع الأدلة من داخل المجموعة، خصوصًا أن العديد من الصور كانت مرفقة بتعليقات توضح هوية الضحايا أو علاقتهن بالمشاركين. لكن رغم هذه الخطوة العملية، وُجهت انتقادات للحكومة لأنها لم تسبق الأحداث بإجراءات وقائية، ولأنها لم تخصص موارد كافية لحماية النساء من العنف الرقمي. بعض السياسيين اكتفوا ببيانات تنديد، بينما طالبت جمعيات نسائية بإنشاء بروتوكول طوارئ يفرض على المنصات إزالة المحتوى الجنسي غير المرغوب فيه في ظرف لا يتجاوز ساعات، بدلًا من تركه لأيام أو أسابيع. هذا الجدل يعكس فجوة بين سرعة انتشار الفضيحة في الإعلام ووسائل التواصل، وبين بطء الدولة في تحويل الأزمة إلى إصلاحات تشريعية أو مؤسساتية.
القضية كذلك فتحت نقاشًا أوسع حول أوروبا والسياسة الرقمية المشتركة. فالقانون الإيطالي يجرم نشر الصور الخاصة، لكن الصور يمكن أن تنتشر في خوادم خارج البلاد أو عبر تطبيقات مشفرة مثل تيليغرام، ما يجعل الملاحقة أكثر صعوبة ويحتاج إلى تعاون دولي. الاتحاد الأوروبي كان قد أصدر في السنوات الأخيرة تشريعات تتعلق بخطاب الكراهية وحماية البيانات، لكن موضوع العنف الجنسي الرقمي لا يزال يحتاج إلى مقاربة أشمل، لأن الحدود القانونية التقليدية لا تنطبق بسهولة على فضاءات افتراضية بلا جغرافيا واضحة. حادثة «Mia Moglie» أبرزت هذه الإشكالية بوضوح، إذ سرعان ما ظهرت مجموعات بديلة على تطبيقات أخرى فور إغلاق المجموعة الأصلية، ما جعل الكثيرين يقولون إن الإغلاق لم يكن سوى قصّ فرع من شجرة عميقة الجذور.
على المستوى الفردي، الآثار التي تعرضت لها النساء ضحايا النشر لا تقل فداحة عن أي جريمة جسدية. كثيرات تحدثن عن شعور بالخيانة حين يكتشفن أن أزواجهن أو شركاءهن هم من رفعوا الصور، وعن خوف دائم من أن يراها الأبناء أو الأقارب أو زملاء العمل. هذه الصدمة النفسية قد تتحول إلى اكتئاب أو عزلة أو انهيار للعلاقات الاجتماعية. بعض الضحايا رفضن تقديم شكاوى لأنهن لا يردن الدخول في مسار قضائي قد يكشف مزيدًا من التفاصيل، وهو ما يضاعف من معاناتهن. ولهذا السبب دعا الخبراء إلى إنشاء خطوط ساخنة تقدم دعمًا نفسيًا وقانونيًا عاجلًا للنساء، وتوفر لهن آليات سريعة لإزالة الصور قبل أن تنتشر أكثر.
المأساة تكمن أيضًا في أن مثل هذه الممارسات لا تحدث في فراغ، بل في سياق ثقافي يطبع استهلاك صور النساء. هناك صناعة إباحية كاملة تُعيد إنتاج نفس التصورات التي ترى في الجسد الأنثوي موضوعًا للاستغلال، وهناك أعراف اجتماعية لا تزال تُثقل النساء بمسؤولية حماية شرف العائلة، ما يجعل فضح صورهن أكثر وقعًا وخطورة من فضح صور الرجال. هذا التفاوت في المعايير يفسر لماذا تشكّل النساء النسبة الأكبر من ضحايا «الانتقام الإباحي»، ولماذا تحتاج السياسات العامة إلى أن تكون حساسة للنوع الاجتماعي وأن تضع في الحسبان التفاوت في حجم الضرر.
من جهة أخرى، حادثة «Mia Moglie» لا تخص إيطاليا وحدها، فهي جزء من ظاهرة عالمية. ففي بلدان مختلفة ظهرت مجموعات مشابهة: في المملكة المتحدة أغلقت السلطات مواقع لنشر صور النساء من دون موافقتهن، وفي الولايات المتحدة جرى تمرير قوانين خاصة لمكافحة «revenge porn»، وفي دول عربية شهدت المحاكم قضايا متعلقة بتسريب صور شخصية. هذا الامتداد العالمي يبين أن التكنولوجيا واحدة، والثقافة الذكورية متشابهة، والمخاطر تتكرر، ما يفرض أن تكون المواجهة بدورها عالمية عبر تعاون دولي بين الحكومات وشركات التكنولوجيا ومنظمات المجتمع المدني.
إذا أردنا أن نلخص الدروس المستفادة، يمكن القول إن حادثة «Mia Moglie» أعادت فتح النقاش حول ثلاثة محاور مترابطة: المحور القانوني الذي يتعلق بمدى فعالية التشريعات الجنائية، المحور التقني الذي يخص مسؤولية المنصات في الرصد الاستباقي، والمحور الثقافي الذي يمس القيم الاجتماعية ونظرتنا للمرأة والجسد والخصوصية. فإذا اكتفينا بالرد القانوني وحده فلن نتجاوز المشكلة، لأن المنصات قادرة على إعادة إنتاجها في صيغ أخرى. وإذا اكتفينا باللوم الأخلاقي فلن نغيّر شيئًا، لأن الواقع الرقمي لا يعرف الانتظار. المطلوب إذن مقاربة شاملة تدمج الردع القانوني بالتحصين التقني وبالتربية المجتمعية.
ويمكن النظر إلى ما وقع باعتباره امتحانًا للديمقراطية الرقمية: كيف يمكن للمجتمع أن يضمن حرية التعبير من جهة، وحماية الأفراد من الانتهاك من جهة أخرى؟ هل من المشروع أن تراقب المنصات كل ما يحدث داخلها بشكل استباقي، أم أن ذلك يهدد الحرية الفردية؟ هذا التوتر بين الحرية والحماية هو جوهر النقاش، وقد أبانت فضيحة «Mia Moglie» أن المجتمع لم يجد بعد التوازن المناسب. فترك الأمور بلا رقابة يؤدي إلى كوارث مثل هذه، وفرض رقابة شاملة قد يفتح بابًا لانتهاك الحريات. التحدي إذن هو إيجاد خوارزميات ومعايير واضحة تضمن التدخل السريع في حالات الإساءة الواضحة دون المساس بالنقاش الحر.
خاتمة
في النهاية ما وقع في إيطاليا ليس قصة عابرة ولا فضيحة محلية يمكن أن تُطوى بسهولة. إنها مرآة لوجه قبيح من وجوه المجتمع الرقمي، وجه لا يعترف بالحدود بين الخاص والعام، ولا يحترم الكرامة الإنسانية حين تصطدم مع نزوات التباهي الذكوري. وقد يكون الإغلاق خطوة مهمة لكنه لا يمحو الأثر النفسي والاجتماعي الذي خلّفه، ولا يمنع احتمال عودة نفس الظاهرة تحت أسماء جديدة ومنصات مختلفة. الحل يتطلب شجاعة سياسية وتشريعية، وجرأة ثقافية في مواجهة القيم المريضة، كما يتطلب التزامًا تقنيًا أكبر من شركات التكنولوجيا التي لا يمكنها أن تكتفي بلعب دور المتفرج. وحين يتحقق هذا التكامل يمكن أن نقول إن حادثة «Mia Moglie» لم تكن فقط فضيحة، بل أيضًا منعطفًا دفع المجتمع إلى إعادة التفكير في حدوده الرقمية وأخلاقياته الجماعية.