رحلة بين مستشفى ياباني وآخر مغربي: من الانضباط والنظافة إلى الفوضى والمعاناة
مقدمة
من الطبيعي أن ينشغل الناس في مختلف بقاع الأرض بصحة أجسادهم وعافيتهم، إذ لا شيء يساوي نعمة السلامة الجسدية والقدرة على مواجهة الحياة بأقل قدر من العناء، ومن هنا كان القطاع الصحي في أي دولة مرآة تعكس صورة الدولة كلها في عيون مواطنيها وفي عيون العالم الخارجي. ومن بين التجارب التي تثير المقارنة وتتطلب التأمل، تجربة اليابان التي استطاعت أن تبني نظاماً صحياً متقدماً يضاهي أرقى الدول الغربية، وتجربة المغرب الذي لا يزال يواجه صعوبات عميقة في تنظيم وتسيير مستشفياته رغم كل محاولات الإصلاح التي تتكرر منذ عقود. والحديث عن مقارنة بين المستشفيات في اليابان والمغرب ليس ترفاً فكرياً بل ضرورة معرفية تساعد على فهم الفوارق الحضارية والاقتصادية والثقافية التي تترجم نفسها في صورة المباني والأجهزة والموارد البشرية، بل وحتى في علاقة الطبيب بالمريض. ومن خلال هذه المقارنة يمكن إدراك أن الصحة ليست مجرد دواء أو سرير أو عملية جراحية، بل هي انعكاس لسياسات دولة كاملة، ورؤية مجتمع لقيمة الإنسان.
عرض
حين تدخل مستشفى في اليابان تشعر منذ اللحظة الأولى أنك في فضاء مختلف، فالنظافة تكاد تلامس حد الكمال، والجدران والأرضيات اللامعة تجعل المريض يطمئن قبل أن يتلقى أي علاج. في استقبال المستشفى لا تضطر للانتظار ساعات طويلة، بل هناك نظام دقيق يحدد المواعيد إلكترونياً، ويعتمد على احترام الوقت بشكل صارم، وهو أمر يعكس ثقافة عامة لدى اليابانيين لا تقتصر على الطب بل تشمل حياتهم اليومية كلها. بينما في المغرب قد يجد المواطن نفسه يقف طويلاً في طوابير مزدحمة أمام قاعات الاستقبال، وقد يضطر لتكرار الزيارة أكثر من مرة من أجل موعد بسيط أو فحص روتيني، وهذا يعكس خللاً في البنية التنظيمية وفي توزيع الموارد البشرية. وإذا كان النظام الياباني يجعل المريض يشعر أنه فرد مهم في آلة اجتماعية متقنة، فإن المريض المغربي كثيراً ما يشعر أنه عبء زائد في مرفق صحي لا يملك القدرة على احتضانه بكرامة كاملة.
ومن الفوارق البارزة أيضاً أن اليابان تنفق بسخاء على تجهيز مستشفياتها بأحدث الأجهزة الطبية من أجهزة الرنين المغناطيسي إلى الروبوتات الجراحية التي تقوم بعمليات معقدة بدقة مذهلة، بينما في المغرب قد تبقى مستشفيات إقليمية كبيرة من دون جهاز سكانير واحد يعمل بشكل دائم، أو قد يتعطل جهاز الأشعة الوحيد في المستشفى لأشهر طويلة، مما يضطر المرضى للتنقل مئات الكيلومترات نحو العاصمة أو المدن الكبرى، مع ما يرافق ذلك من معاناة جسدية ومادية. هنا يتضح أن الفارق ليس تقنياً فقط بل هو أيضاً سياسي واقتصادي، إذ أن القرار في اليابان قائم على إعطاء الصحة أولوية قصوى، بينما في المغرب تبقى الصحة ضمن قائمة طويلة من القطاعات التي تتنافس على ميزانية محدودة غالباً ما تُهدر في جوانب غير ملحة.
وليس غريباً أن تكون كفاءة الأطباء والممرضين في اليابان نتاج تكوين طويل ودقيق، فالتعليم الطبي هناك يخضع لمعايير صارمة، والأطباء ملزمون بمتابعة تكوين مستمر يضمن مواكبتهم لأحدث ما وصلت إليه الأبحاث الطبية. أما في المغرب، ورغم وجود أطباء أكفاء على المستوى الفردي، إلا أن النظام التعليمي والصحي لا يوفر الظروف الكافية لهم لتطوير مهاراتهم باستمرار، كما أن هجرة الأدمغة تفاقم الوضع، إذ يفضل آلاف الأطباء والممرضين المغاربة الهجرة إلى أوروبا والخليج حيث يجدون ظروف عمل أفضل وتعويضات مالية أكثر عدلاً. وهكذا يفقد المغرب جزءاً من طاقته البشرية، في حين تحتفظ اليابان بكفاءاتها وتستثمر فيها.
ومن النقاط الجديرة بالملاحظة أن الثقافة الصحية في اليابان لا تتوقف عند جدران المستشفى، فالمواطن الياباني ينشأ منذ طفولته على عادات غذائية صحية وانضباط في نمط الحياة، مما يقلل نسبياً من حجم الضغط على المستشفيات. أما في المغرب، فإن ضعف الوعي الصحي وانتشار العادات الغذائية غير السليمة، إضافة إلى قلة ممارسة الرياضة، تجعل المستشفيات تواجه أعداداً متزايدة من المرضى الذين يعانون أمراضاً مزمنة مثل السكري وارتفاع الضغط وأمراض القلب، وهي أمراض كان يمكن تجنبها إلى حد بعيد لو كانت هناك سياسة وطنية ناجعة في مجال الوقاية والتثقيف الصحي. وهذا الجانب الثقافي يبرز أن المستشفى ليس فقط مكاناً للعلاج، بل هو جزء من منظومة شاملة تبدأ من البيت والمدرسة والمجتمع.
ولا يمكن إغفال الجانب المالي في هذه المقارنة، ففي اليابان يتمتع المواطن بنظام تأمين صحي شامل يغطي معظم التكاليف الطبية، مما يجعله يتوجه للمستشفى من دون خوف من الفاتورة. أما في المغرب، فرغم وجود بعض أنظمة التغطية الصحية، إلا أن عدداً كبيراً من المواطنين لا يزالون خارج هذه التغطية، أو يجدون أنفسهم مضطرين لدفع مبالغ باهظة مقابل أدوية أو عمليات جراحية، الأمر الذي يخلق شعوراً بالتمييز الطبقي حتى داخل المستشفى ذاته. فالذي يملك المال يمكنه اللجوء إلى مصحة خاصة مجهزة، أما الفقير فيظل عالقاً بين مستشفيات عمومية مكتظة وضعيفة الإمكانات. وهنا يظهر البعد الاجتماعي للموضوع، فالصحة تصبح مرآة للفوارق الاقتصادية الصارخة.
وعلى مستوى المعاملة الإنسانية، تبدو الفوارق جلية أيضاً، ففي المستشفى الياباني تحظى بإنصات حقيقي من الطبيب والممرض، حيث التواصل مع المريض جزء أساسي من العلاج، وتتم مراعاة حالته النفسية بقدر ما تتم مراعاة حالته الجسدية، بينما في المغرب قد يجد المريض نفسه ضحية غياب التواصل، إذ يكتفي الطبيب في كثير من الأحيان بتشخيص سريع ومقتضب تحت ضغط الوقت وكثرة الحالات، فيغادر المريض من دون أن يشعر أنه فهم وضعه الصحي بشكل كامل. وهذا الخلل لا يعود إلى قسوة الأطباء بل إلى غياب نظام يتيح لهم الوقت الكافي لكل حالة.
ربوتات تقوم بعمليات مختلفة
والأهم من كل ذلك أن المستشفى في اليابان ليس مجرد مبنى للعلاج، بل هو مؤسسة متكاملة مرتبطة بالبحث العلمي والجامعات، حيث يتم تطوير الأدوية والتجارب السريرية باستمرار، أما في المغرب فالبحث الطبي لا يزال ضعيفاً ومحدود الإمكانات، مما يجعل المستشفيات مجرد أماكن لتصريف الحالات المرضية أكثر من كونها مراكز للابتكار وإنتاج المعرفة. وهذا الفارق بين المستشفى كمؤسسة علمية والمستشفى كمرفق خدماتي هو ما يخلق الفجوة الحضارية بين بلد مثل اليابان وبلد مثل المغرب.
ورغم كل هذه الفوارق، لا يمكن إغفال أن المغرب حقق بعض التقدم في السنوات الأخيرة من خلال بناء مستشفيات جديدة وإطلاق برامج لتوسيع التغطية الصحية، إلا أن هذه الجهود لا تزال متواضعة مقارنة بحجم الحاجيات، وغالباً ما تصطدم ببيروقراطية معقدة وفساد مالي يلتهم جزءاً من الموارد. في المقابل، تميزت اليابان بالقدرة على تحويل كل إصلاح إلى خطوة ملموسة على الأرض، لأن هناك ثقة بين المواطن والدولة، ولأن مبدأ المحاسبة حقيقي وفعال. وهنا نلمس أن المستشفى ليس فضاءً معزولاً، بل هو صورة عن علاقة المجتمع بالدولة، فإذا كانت العلاقة قائمة على الثقة والمحاسبة والعدالة، انعكس ذلك في جودة الخدمات الصحية، وإذا كانت قائمة على انعدام الثقة واللامبالاة، فإن المستشفى يصبح مجرد بناية باردة لا تملك روح الرعاية.
خاتمة
في الخلاصة، إن المقارنة بين المستشفيات في اليابان والمغرب ليست مقارنة بين جدران وأسرة وأجهزة فقط، بل هي مقارنة بين فلسفتين في النظر إلى الإنسان. ففي اليابان الإنسان قيمة عليا تستحق أن تُسخَّر لها التكنولوجيا والمال والمعرفة، لذلك نجد مستشفيات متقدمة تنظيماً وتقنية وتعاملًا إنسانياً، بينما في المغرب ورغم وجود محاولات متكررة للنهوض بالقطاع الصحي، فإن غياب رؤية شمولية وإرادة سياسية حازمة يجعل المستشفيات تعكس أزمة عميقة في التنمية. والمطلوب ليس أن يطمح المغرب إلى نسخ التجربة اليابانية بحذافيرها، بل أن يتبنى بعض مبادئها الجوهرية مثل احترام الوقت، وتقديس الكرامة الإنسانية، والاستثمار الحقيقي في البحث العلمي، وضمان عدالة الولوج إلى العلاج. عندها فقط يمكن للمستشفى المغربي أن يتحول من فضاء للمعاناة إلى فضاء للأمل، ومن صورة عن العجز إلى صورة عن إمكانية النهوض.