إصلاحات بنكيران وأخنوش بين التقشف والاحتكار: المواطن المغربي يدفع الثمن

قرارات التقاعد والضرائب والدعم… كيف تحولت الوعود إلى أعباء على الشعب؟



 المقدمة: بين الوعود والواقع… كيف أثرت الإصلاحات على المواطن المغربي؟

في المغرب، حيث يعيش أكثر من سبعة وثلاثين مليون نسمة، أغلبهم من الشباب والأسر المتوسطة والفقيرة، تحولت القرارات الاقتصادية والاجتماعية للحكومات المتعاقبة إلى موضوع نقاش دائم وجدال محتدم. فمنذ تولي عبد الإله بنكيران رئاسة الحكومة سنة 2011 مروراً بحكومة عزيز أخنوش منذ 2021، شهد المغرب سلسلة من “الإصلاحات” التي وُصفت رسميًا بالجريئة، لكنها أثارت في الواقع غضباً شعبياً واسعاً بسبب تأثيرها المباشر على القدرة الشرائية والحقوق الاجتماعية للمواطن العادي. بنكيران، الذي جاء على موجة الربيع العربي بشعارات محاربة الفساد وإعادة توزيع الثروة، سرعان ما أغرق الشعب في إصلاحات تقشفية رفعت الأسعار وقلصت المكتسبات الاجتماعية. أما أخنوش، رجل الأعمال الثري، فقد ركز على تحسين مناخ الأعمال، لكن ذلك تَرجَم عملياً في تعزيز الاحتكارات وإضعاف الحريات، مع قوانين جديدة زادت العبء على الطبقات الوسطى والفقيرة. وفي سبتمبر 2025، ومع اقتراب نهاية الولاية الحالية، بلغ معدل البطالة 12% (و35% بين الشباب)، بينما وصلت نسبة الفقر إلى 15% في العالم القروي، والتضخم يلتهم قرابة 20% من دخل الأسر المتوسطة. هذا المقال يحاول تفصيل أبرز القرارات والقوانين الضارة الصادرة عن حكومتي بنكيران (2011-2017) وأخنوش (2021-2025)، مع تقديم بدائل ملموسة قابلة للتطبيق من طرف الحكومة المقبلة، بما يضمن عدالة اجتماعية وتنمية مستدامة وإعادة بناء ثقة المواطن في الدولة وفق مبادئ دستور 2011 الذي نص على الدولة الاجتماعية.

العرض: بين إصلاحات التقشف وسياسة الليبرالية الاحتكارية
في عهد بنكيران، عانت الفئات الشعبية والوسطى من قرارات تقشفية حملت على عاتقها وحدها كلفة إنقاذ المالية العمومية. رفع الدعم عن المحروقات بموجب قانون المالية 2013-2014 أدى إلى ارتفاع أسعار الوقود بنسبة وصلت إلى 40%، وهو ما انعكس مباشرة على أسعار النقل والمواد الأساسية، فتراجعت القوة الشرائية للأسر الضعيفة بما يقارب 10% وفق تقارير رسمية. إصلاح نظام التقاعد سنة 2013 زاد الطين بلة، بعدما رُفع سن التقاعد وأضيفت مساهمات جديدة أرهقت الموظفين، فيما بقيت امتيازات السياسيين خارج دائرة المساءلة، ما عمّق الشعور باللاعدالة. أما تحرير أسعار الغاز والبوتان، فقد ضرب الأسر القروية التي تعتمد عليه في الطبخ والتدفئة، بينما ساهم الاقتطاع من أجور المضربين وتقييد التوظيف في تأجيج الاحتجاجات وزيادة البطالة في صفوف الشباب. ولم تكن الإصلاحات الضريبية أرحم، إذ تم رفع الضريبة على القيمة المضافة وزيادة الضغط الجبائي على الطبقة الوسطى، في حين ظلت الشركات الكبرى خارج المساءلة الضريبية الحقيقية، ما أدى إلى تفاقم الفوارق الاجتماعية. هذه القرارات، رغم مساهمتها في خفض عجز صندوق المقاصة وإنقاذ ميزانية الدولة مؤقتاً، خلفت أزمات اجتماعية عميقة وأسهمت في هزيمة حزب العدالة والتنمية في انتخابات 2021.

ومن بين القرارات التي زادت غضب الشارع وأضعفت الثقة في المؤسسات مسألة معاشات البرلمانيين ورؤساء الحكومات. ففي الوقت الذي طُلب من الموظفين والعمال البسطاء أن يتحملوا كلفة إصلاح نظام التقاعد عبر رفع سن الإحالة إلى 63 سنة وزيادة الاقتطاعات من أجورهم، كان المسؤولون السياسيون يستفيدون من امتيازات تقاعدية استثنائية. عبد الإله بنكيران نفسه، الذي قاد هذه الإصلاحات، خرج بعد نهاية ولايته بتقاعد شهري يقارب سبعة ملايين سنتيم وسيارة فارهة ، بينما ظل البرلمانيون يتلقون معاشاً ثابتاً يقارب ثلاثة ملايين سنتيم، بغض النظر عن سنوات الخدمة أو مساهماتهم الفعلية في الصندوق. هذا التناقض الصارخ بين الدعوة إلى التقشف وعيش الطبقة السياسية في رفاهية على حساب المال العام، عمّق شعور المواطنين بالظلم، وأصبح رمزاً لسياسة الكيل بمكيالين التي كرست القطيعة بين الشعب ومؤسساته المنتخبة.

أما في عهد أخنوش، فقد تبنت الحكومة خياراً ليبرالياً يخدم فئة محدودة من رجال الأعمال على حساب عموم المواطنين. فمشروع قانون الإضراب 2024-2025 قيد حق العمال في الاحتجاج وفرض عقوبات قاسية وصلت إلى السجن، ما اعتبر ضربة للحريات النقابية. كذلك جاء إصلاح الضريبة على الدخل ليثقل كاهل الطبقة المتوسطة بعدما رُفعت نسبتها إلى 28%، بينما استفادت الشركات الكبرى من إعفاءات واسعة، ما زاد التضخم وانخفضت القدرة الشرائية للأسر بنسبة 12%. تعديل قانون المسطرة الجنائية لسنة 2025 حدّ من دور الجمعيات في متابعة قضايا الفساد، ما ساهم في طمس ملفات حساسة وزاد الشعور بانعدام العدالة. كما واصلت الحكومة رفع الدعم عن الكهرباء والغاز، فارتفعت فواتير الأسر بشكل كبير وأثرت على القطاع الفلاحي. أما القوانين المرتبطة بمحاربة الفساد فبقيت شكلية بعدما تم تأجيل قانون الإثراء غير المشروع ومنح إعفاءات جديدة للشركات النافذة، ما عزز ثقافة الريع والمحسوبية. ورغم تحقيق نسب نمو متوسطة بلغت 3.8% سنة 2024، إلا أن ذلك تم على حساب اتساع الفوارق الجهوية وارتفاع البطالة خاصة في الجنوب.

أمام هذه السياسات، تبدو الحاجة ملحة لتغيير جذري في التوجهات المقبلة. البدائل المطروحة تتطلب إعادة النظر في سياسة الدعم عبر استهداف الأسر الفقيرة ببطاقات إلكترونية وربطها بالاستهلاك الفعلي، مع استثمار في الطاقات المتجددة لتقليل الكلفة مستقبلاً. كما يتعين تعديل نظام التقاعد بشكل عادل يسمح بخفض سن التقاعد في المهن الشاقة وإلغاء الامتيازات السياسية، مع توسيع التغطية لفائدة العمال غير المهيكلين. أما في ما يخص الأسعار، فلابد من وضع سقف سنوي للزيادات ومواجهة الاحتكار بصرامة، إلى جانب إصلاح قانون الإضراب بما يحمي حقوق العمال ويعزز الحوار الاجتماعي بدل تجريمه. وعلى المستوى الضريبي، يجب اعتماد ضريبة تصاعدية عادلة تخفف العبء عن ذوي الدخل المحدود وتفرض إسهاماً أكبر على الأثرياء، إضافة إلى ضريبة على الثروة لضمان توزيع أفضل للموارد. هذه الإصلاحات ينبغي أن تواكبها سياسات موازية في مجالات التعليم والصحة والزراعة ومكافحة الفساد، عبر ضخ استثمارات عمومية مدروسة ورقمنة الصفقات لضمان الشفافية.

الخاتمة: من الغضب إلى الأمل… فرصة جديدة لبناء الدولة الاجتماعية
لقد أثبتت التجارب المتتالية أن الإصلاحات التي لا تضع الإنسان في صلب أولوياتها تتحول إلى عبء على المجتمع وتُفقد الثقة في المؤسسات. حكومتا بنكيران وأخنوش، رغم ما حققتاه من استقرار مالي نسبي، أخفقتا في جعل الإصلاحات في خدمة المواطن، بل زادتا الفقر والاحتقان الاجتماعي. ومع اقتراب 2026، تقف الحكومة المقبلة أمام اختبار حاسم: إما أن تعيد إنتاج نفس السياسات فتواجه غضب الشارع، أو أن تختار طريقاً مختلفاً يضع العدالة الاجتماعية في المقدمة ويترجم مبادئ الدستور إلى واقع ملموس. الفرصة لا تزال قائمة لتحويل الإرث السلبي إلى مشروع وطني جامع يضمن كرامة المواطن ويعيد بناء جسور الثقة بين الدولة والشعب. والرهان الأكبر هو أن يتبنى القادة الجدد إصلاحات شجاعة وعادلة، تعيد رسم مسار التنمية في المغرب من منطق الربح الضيق إلى منطق المصلحة العامة.

تعليقات