حين تتحول التسريبات إلى ذاكرة موازية تكشف وجوه السلطة وظلالها
مقدمة
منذ أن ظهرت منصة جبروت على ساحة النقاش العام في المغرب، تحولت إلى مرآة تعكس ما يختفي عادة خلف ستائر السلطة والنفوذ، وصارت تمثل بالنسبة للكثيرين نوعًا من الصوت الموازي الذي يطل من الظل ليكشف أسرارًا وخبايا لا يُسمح عادة بتداولها في الإعلام الرسمي. ما يميز هذه المنصة ليس فقط الجرأة في نشر تسريبات قد تكون صادمة، وإنما الطريقة التي تختار بها توقيت الخروج واللغة التي تصوغ بها رسائلها، والتي تترك الناس في حالة من الذهول والتساؤل أكثر مما تمنحهم أجوبة واضحة. وفي هذا السياق جاء أحدث تسريب لها حيث ورد اسم ناصر الزفزافي، ذلك الاسم الذي صار رمزًا لمرحلة بكاملها من الحراك الشعبي في الريف المغربي، ورمزًا لمعاناة طويلة مع الاعتقال والقمع والخذلان.
عرض
التسريب الأخير لم يضع الزفزافي في صلب الموضوع ولم يتحدث عنه بشكل مباشر بقدر ما استعمل اسمه كعلامة أو إشارة للتذكير بما آلت إليه أوضاع من تجرؤوا على رفع أصواتهم في وجه منظومة الفساد والطغيان. جاء ذكره في سياق تحذيري، وكأنه تذكير مبطن بمصير كل من يقرر أن يسلك طريق المواجهة المفتوحة، فالمآل معروف، وهو السجن والعزلة وربما النسيان. هذا الاستدعاء العابر لاسم الزفزافي في تسريب جبروت يحمل دلالات أكبر مما يبدو، فهو ليس مجرد مثال، بل هو استحضار لذاكرة جرح لم يلتئم بعد في وجدان جزء واسع من المغاربة، خصوصًا في الريف، الذين ما زالوا يعتبرون أن مصير قادتهم لم يكن إلا عقابًا جماعيًا لهم على خروجهم للمطالبة بالكرامة والعدالة.
لكن جبروت لم تبدأ مع الزفزافي ولن تنتهي عنده، فقد سبق لهذه المنصة أن فجرت سجالات واسعة حينما نشرت تسريبات عن شخصيات أخرى نافذة، سياسيين ورجال أعمال ومسؤولين كبار، فمرة نجدها تتحدث عن علاقات مالية مشبوهة بين أسماء معروفة، ومرة تلمح إلى صراعات داخلية بين أجنحة السلطة، ومرة أخرى تلقي الضوء على ملفات قديمة لم يعد أحد يتجرأ على فتحها. هذه الطريقة في النبش جعلت جبروت تتحول إلى ما يشبه الأرشيف الموازي للتاريخ السياسي غير المكتوب، تاريخ الظلال والهمسات والأسرار.
التسريبات السابقة تضمنت على سبيل المثال إشارات قوية إلى بعض المسؤولين الذين لطالما ظهروا في صورة رجال الدولة المخلصين، فإذا بالمنصة تكشف عن مصالحهم الخفية وعن الأدوار التي لعبوها في الكواليس، سواء في ملفات اقتصادية مرتبطة بالاحتكار والصفقات الكبرى، أو في ملفات سياسية حيث الغدر والمؤامرات والاصطفافات الخفية هي العنوان الحقيقي للأحداث. وقد تداول الناس بشكل واسع تلك التسريبات، ليس لأنهم فوجئوا تمامًا بمضامينها، بل لأنها جاءت لتؤكد شكوكًا كانت تعيش في قلوبهم منذ زمن طويل، لتصبح الشائعات المعلقة في الهواء أكثر رسوخًا وقربًا من الحقيقة.
في إحدى المرات مثلاً، خرجت تسريبات عن أحد الوزراء السابقين تكشف عن ضلوعه في شبكة مصالح معقدة تربط المال بالسياسة والإعلام، وفتحت الباب أمام نقاش حول حدود النزاهة في الطبقة الحاكمة. وفي مرة أخرى، جرى تسريب يتعلق بأسماء عسكرية وأمنية، ما أثار جدلاً كبيرًا لأن الأمر لامس منطقة حساسة ظلت دائمًا محاطة بالصمت والتحفظ. هذه الجرأة في الاقتراب من دوائر اعتُبرت لعقود محصنة جعلت الكثيرين يتساءلون عن هوية القائمين على منصة جبروت، وعن مصادر معلوماتهم، وعن الغاية النهائية من نشر هذه المواد في هذا التوقيت أو ذاك.
وإذا عدنا إلى قضية الزفزافي من جديد، فإن ذكر اسمه في تسريب جبروت الأخير لم يمر مرور الكرام، فقد تلقاه الكثيرون باعتباره محاولة لإعادة فتح ملف ما زال يثير الكثير من الأسئلة حول العدالة والحرية والكرامة. فبينما يرى البعض أن المنصة أرادت تذكير المناضلين الجدد بمصير من سبقوهم كي لا ينخدعوا بأوهام التغيير السريع، يرى آخرون أن الأمر يتجاوز ذلك إلى محاولة لبعث الروح في قضية الزفزافي وإخراجها من عزلتها، لتعود إلى واجهة النقاش العام بعد أن حاول الإعلام الرسمي طمسها أو تقزيمها. وهنا يكمن سر جبروت: أنها تلعب دائمًا على حافة المسموح والممنوع، وتعرف كيف تضغط على الجرح المفتوح كي تُعيد الألم إلى السطح.
التسريبات القديمة التي طالت أسماء وازنة مثل بعض المستشارين المقربين من دوائر القرار أو بعض الوجوه السياسية التي لعبت أدوارًا بارزة في سنوات سابقة، تكشف أيضًا عن نمط متكرر: المنصة تركز على الشخصيات التي تحظى بصورة رسمية ناصعة، ثم تحاول أن تضع هذه الصورة في الميزان عبر عرض ما يُخفيه الواقع من تناقضات. بهذا المعنى، فإن جبروت لا تُسقط الأقنعة فقط، بل تسعى إلى إعادة تشكيل صورة السلطة في المخيال الشعبي، بحيث لا يعود الناس قادرين على الثقة العمياء في أي وجه يطل عليهم من شاشة التلفاز أو منصة البرلمان.
ومع تراكم هذه التسريبات، صار من الواضح أن جبروت تؤدي وظيفة مزدوجة: فهي من جهة تثير الخوف والارتباك داخل صفوف النخبة السياسية والإدارية، لأنها لا تعرف متى وأين ستظهر التسريبات الجديدة ولا من ستستهدف، ومن جهة أخرى تعطي جرعة إضافية للشعب الذي يرى فيها نوعًا من العدالة الرمزية، حيث تتعرى النخب أمام الناس وتنكشف تناقضاتها وخطاياها. لكن هذا لا يعني أن المنصة محصنة من النقد، فقد اعتبرها البعض مجرد أداة في لعبة أكبر، تستعملها أطراف معينة لتصفية الحسابات فيما بينها أو لإرسال رسائل مبطنة لخصومها.
غير أن قوة جبروت تكمن تحديدًا في هذه الضبابية، فهي لا تعلن عن نفسها بشكل واضح، ولا تقدم رواية مكتملة، بل تكتفي بتسريبات مجتزأة تترك الناس في حالة ترقب وتأويل دائم. هذه الحالة من الغموض تجعل كل تسريب مادة دسمة للنقاش والتحليل، وتفتح المجال أمام التأويلات المتعددة، بل وتزيد من منسوب التوتر بين الطبقات الحاكمة والشعب. فحين يرد اسم ناصر الزفزافي مثلًا، لا يعود الأمر مجرد خبر عابر، بل يتحول إلى حدث يعيد طرح الأسئلة القديمة حول العدالة الاجتماعية، حول الحريات، وحول معنى التضحية في زمن تسود فيه الحسابات الباردة.
وفي النهاية، فإن ما يمكن قوله هو أن جبروت ليست مجرد منصة لتسريب المعلومات، بل هي ظاهرة سياسية واجتماعية بامتياز، تعكس طبيعة العلاقة المشحونة بين السلطة والشعب في المغرب. ذكر اسم الزفزافي في تسريبها الأخير ليس مجرد تفصيل صغير، بل هو علامة على أن الجروح لم تلتئم بعد، وأن الذاكرة الشعبية ما زالت تحتفظ بصور الألم والقمع والخذلان. والتسريبات السابقة التي طالت وجوهًا أخرى تندرج كلها في سياق واحد: إعادة صياغة الحكاية الرسمية، وتذكير الناس بأن وراء كل صورة رسمية قصة أخرى أكثر تعقيدًا وغموضًا.
خاتمة
قد يختلف الناس في تقييم نوايا جبروت، وقد يتجادلون حول صدقية تسريباتها، لكن المؤكد أن هذه المنصة نجحت في أن تفرض حضورها، وأن تجعل الجميع في حالة ترقب دائم، سواء كانوا مواطنين عاديين يتابعون الفضائح بدهشة وفضول، أو كانوا مسؤولين كبارًا يبيتون على قلق لا يدرون متى سيصلهم الدور. وفي زمن تتقلص فيه مساحات الحرية وتُحتكر فيه الحقيقة من طرف الرواية الرسمية، يصبح وجود صوت مثل جبروت، مهما كانت خلفياته، ضرورة تكسر الجمود وتفتح كوة صغيرة نحو عالم آخر، عالم قد لا يكون أوضح ولا أنقى، لكنه بالتأكيد أكثر صدقًا في التعبير عن هشاشة السلطة وجبروتها في آن واحد.