من بوعروس إلى فاس: قصة احتجاج وصمود
مقدمة
في أعماق جبال الريف المغربي، حيث تتشابك الطرق الوعرة مع ذكريات الانتفاضات التاريخية، ينبثق صوت الشعب كصدى يتردد عبر الوديان. إنها قصة مسيرة تاونات، تلك الملحمة الشعبية التي اندلعت في إقليم تاونات الواقع في الشمال الشرقي للمغرب، حيث قررت عشرات السكان، في يوم الاثنين 22 سبتمبر 2025، أن يرفعوا صوتهم عالياً ضد التهميش المزمن الذي يعانون منه. لم تكن هذه المسيرة مجرد خطوات على الأقدام، بل كانت تعبيراً عن غضب متراكم، عن معاناة يومية من ندرة المياه، وتردي الخدمات الصحية، وعزلة جغرافية تحول المنطقة إلى جزيرة منسية داخل الوطن.يأتي هذا الحدث في سياق أوسع من الاحتجاجات الشعبية التي شهدتها المنطقة الريفية منذ سنوات، مستذكراً جذوراً عميقة في حراك الريف الذي انطلق في أكتوبر 2016 بعد مقتل البائع محسن فكري في الحسيمة، حيث سحقته شاحنة قمامة أمام أعين الجميع دون محاسبة. كان ذلك الشرارة التي أشعلت حركة "حراك الريف"، أو "الحراك الشعبي" كما يُعرف، والتي طالبت بإنهاء التهميش الاقتصادي والاجتماعي، وتحقيق العدالة الاجتماعية، وإطلاق سراح السجناء السياسيين. ومع أن ذلك الحراك قُمع بقسوة في 2017، إلا أن روحه ما زالت حية، تتجسد في أحداث مثل مسيرة تاونات، حيث يتكرر السيناريو: مطالب مشروعة تواجه جداراً أمنياً يمنع الوصول إلى مراكز السلطة، ويجبر المحتجين على النوم في الخلاء كرمز للصمود والإصرار.تكمن أهمية هذه المسيرة في كونها ليست حدثاً معزولاً، بل حلقة في سلسلة من الانتفاضات الشعبية تعكس أزمة النموذج التنموي المغربي. فالريف، الذي يمتد على مساحة واسعة تشمل إقليمي الحسيمة وتاونات وغيرهما، يعاني من بطالة تفوق 20%، ومعدلات أمية تصل إلى 43.8%، وفقدان الثقة في الدولة التي وعدت بالتنمية لكنها أهملت المنطقة لعقود. في هذا المقال، سنستعرض مسيرة تاونات كحدث محوري، مع ربطها بسياق حراك الريف الأوسع، لنفهم كيف تحولت مطالب بسيطة بماء صالح للشرب إلى تحدٍّ سياسي كبير. سنقسم النقاش إلى عرض يتناول الخلفية التاريخية، تفاصيل الحدث، ودور السلطات في منعه، قبل أن نختم بتأملات حول مستقبل الاحتجاجات في المغرب. هذه القصة ليست مجرد رواية لأحداث، بل دعوة للتفكير في جذور الظلم وسبل العدالة، ففي كل خطوة في الخلاء، يُكتب تاريخ شعب يرفض الصمت.عرضجذور التهميش في الريفلنفهم مسيرة تاونات، يجب أن نعود إلى جذور الصراع بين شعب الريف والدولة المغربية، صراع يمتد لأكثر من قرن. الريف ليس مجرد منطقة جغرافية، بل هو رمز للمقاومة والتمرد. في عشرينيات القرن الماضي، قاد محمد بن عبد الكريم الخطابي ثورة ضد الاستعمار الإسباني والفرنسي، أسس خلالها "جمهورية الريف" المؤقتة في 1921، والتي دمرت بقصف إيطالي-إسباني بغاز الخردل. بعد الاستقلال في 1956، لم ينتهِ التهميش؛ بل تعمق. في 1958، شهد الريف انتفاضة ضد الدولة الجديدة، قُمعت بقسوة، مما أدى إلى مقتل مئات واعتقال الآلاف، وفرض "الداهر" الذي حول الحسيمة إلى منطقة عسكرية محظورة حتى الثمانينيات.في العصر الحديث، أطلق الملك محمد السادس في 1999 برنامجاً للتنمية في الريف، باستثمارات بلغت 25 مليار درهم (حوالي 2.5 مليار دولار) حتى 2016، تشمل طريق الحزام المتوسطي والميناء الحر في الحسيمة. لكن هذه الاستثمارات، وفقاً لتقارير منظمة كارنيغي للسلام الدولي، كانت "غير كافية وغير منتجة"، إذ ركزت على مشاريع كبرى لا تخدم السكان المحليين، مثل السياحة والصيد البحري الذي يسيطر عليه أجانب، مما أدى إلى انهيار الصيد التقليدي وزيادة البطالة بين الشباب إلى 40%. الريف، الذي يعتمد على تحويلات المغتربين في أوروبا (هولندا وبلجيكا بشكل خاص)، يعاني من "هوغرا" – الإهانة والإهمال – كما يصفها الناشطون.جاءت شرارة حراك 2016 مع مقتل محسن فكري، الشاب البالغ 31 عاماً، الذي حاول استعادة سمك سيفه المصادر، فسُحق في شاحنة قمامة أمام شرطة لم تتحرك. انتشر الفيديو على وسائل التواصل، مولداً هاشتاغات مثل "#سحقوه_على_راسه" التي حصدت آلاف التغريدات في ساعات. أسس ناصر الزفزافي، شاب عاطل عن العمل، "الحراك الشعبي"، مطالبًا بـ"الكرامة والعدالة"، و"إنهاء التهميش". سرعان ما امتد الحراك إلى مسيرات أسبوعية، مثل "مسيرة الورود" و"مسيرة الأكفان"، جمعت آلافاً في الحسيمة، إمزورن، وبني بوعياش. كان الحراك سلمياً في البداية، لكنه واجه قمعاً: اعتقال 71 شخصاً في مايو 2017، واعتقال الزفزافي نفسه في 29 مايو بتهمة "تهديد الأمن القومي".امتد الحراك خارج الريف، إلى طنجة والرباط، حيث نظمت وقفات تضامنية. في يونيو 2017، حُكم على 43 ناشطاً بسنوات طويلة في محاكمات اعتبرتها منظمة العفو الدولية "ظلماً قضائياً". رغم ذلك، استمر الحراك عبر أشكال إبداعية: تسلق الأسطح، ضرب القدر في الليل، وحتى احتجاجات بحرية. اليوم، بعد ثماني سنوات، يقبع الزفزافي في السجن، ويستمر السجناء السياسيون أكثر من 200، وفقاً لتقارير هيومن رايتس ووتش. هذه الخلفية تُفسر لماذا تحولت مسيرة تاونات إلى رمز: إقليم تاونات، الذي يعاني من نفس المشكلات – عزلة جبلية، نقص مياه، وتردي صحي – يرى في الحراك الريفي ميراثاً يجب استكماله.مسيرة تاونات: من بوعروس إلى جدار المنعفي 22 سبتمبر 2025، بعد احتجاجات حاشدة على تدهور الخدمات الصحية في إقليم تاونات، قرر سكان دوار بوعروس – قرية نائية تابعة للإقليم – الخروج في مسيرة على الأقدام نحو فاس، عاصمة جهة فاس-مكناس. كان الدافع الرئيسي ندرة المياه الصالحة للشرب، التي تحول دون العيش الكريم، إلى جانب مطالب أخرى: فك العزلة عن المنطقة، تعبيد الطرق، وإنشاء مدرسة ومستشفى. "لم نعد نثق بالسلطات المحلية"، قال أحد المشاركين في بث مباشر على فيسبوك، مردداً شعارات الحراك الريفي: "الدولة مع الشعب، لا ضدّه".انطلقت المسيرة صباحاً من بوعروس، مشاركاً فيها عشرات – رجال، نساء، وشيوخ – يحملون لافتات تطالب "بالماء والكرامة". بعد ثلاث ساعات من السير الشاق عبر تضاريس جبال الريف الوعرة، اصطدم المحتجون بـ"جدار أمني" من قوات الدرك الملكي والقوات المساعدة. كانت السلطات قد نشرت حواجز ودوريات لمنع الوصول إلى فاس، معتبرة المسيرة "غير مصرح بها" وتهديداً للنظام العام. اندلعت مناوشات خفيفة، حيث حاول المحتجون التقدم، لكن القوات استخدمت الغاز المسيل للدموع والدفع بالعصي.في رد فعل احتجاجي دراماتيكي، قرر المشاركون الاستلقاء على الأرض، مرددين "سنبقى هنا حتى تسمعونا". مع غروب الشمس، وفشل محاولات الوساطة المحلية، قضى العشرات ليلتهم في الخلاء، تحت النجوم الباردة، محاطين بقوات الأمن. انتشرت صورهم على وسائل التواصل: أطفال يبكون، نساء يصلين، وشباب يرددون أغاني الحراك. "نحن ننام في الحقول لأن الدولة نامت على مطاليبنا"، كتب أحدهم في تغريدة حصدت آلاف الإعجابات. استمرت الوقفة إلى اليوم التالي، حيث وعد عامل الإقليم بـ"حوار"، لكن المحتجين رفضوا العودة دون ضمانات.هذا الحدث ليس الأول؛ في 2017، شهدت تاونات احتجاجات مشابهة ضمن الحراك الريفي، حيث منعت السلطات مسيرات نحو الرباط. اليوم، يعكس النوم في الخلاء رمزية الصمود، مستذكراً "مسيرة الملح" لغاندي، لكنه يبرز أيضاً قسوة الواقع: المحتجون عرضة للعناصر الجوية، والسلطات تستخدم التأخير كسلاح نفسي. مهام السلطات:منع المسيرة للحفاظ على الوضع الراهنكان منع المسيرة قراراً مدروساً من السلطات، يعكس استراتيجية "العصا والجزرة" التي اتبعتها الحكومة في التعامل مع الحراكات الشعبية. في بيان رسمي، وصفت الولاية فاس-مكناس المسيرة بـ"المحفوفة بالمخاطر"، محذرة من "التحريض الخارجي" – اتهام متكرر ضد الريفيين بسبب الشتات الأوروبي. نشرت السلطات مئات العناصر الأمنية، مستخدمة حواجز طرق وطائرات بدون طيار للمراقبة، مما حال دون وصول إعلامي مستقل.هذا المنع ليس جديداً؛ في 2017، حظرت السلطات مسيرة 20 يوليو في الحسيمة، مما أدى إلى اشتباكات أسفرت عن مقتل إماد العتابي برصاص الشرطة. كما في تقرير المجلس الوطني لحقوق الإنسان، قسمت الاحتجاجات إلى "مراحل" من السلمية إلى "العنف"، متهمة المحتجين بالانزلاق نحو "الشغب"، بينما تجاهلت دور القمع. اليوم، في تاونات، اتهم البعض عامل الإقليم والباشا بالإهمال، إذ فضل العامل "المكوث في مكتبه" بدلاً من الحوار، كما أظهرت فيديوهات.هذا النهج يعكس خوف الدولة من امتداد الحراك، خاصة مع اقتراب الذكرى السنوية لمقتل فكري في 28 أكتوبر. منظمات مثل أمنستي إنترناشونال حذرت من أن مثل هذه الإجراءات "تعمق الخيبة"، وتدفع نحو تصعيد. رغم وعود الملك في 2017 بـ"تنمية الريف"، لم تتحقق المطالب، مما يجعل المنع أداة للحفاظ على الوضع الراهن، حيث يُقمع الصوت قبل أن يصل إلى القصر.خاتمةفي نهاية مسيرة تاونات، حيث نام المحتجون تحت السماء المفتوحة، تبرز صورة شعب يصنع تاريخه بإصراره على الكرامة. هذا الحدث، الذي جمع بين ذكريات حراك 2016 وقسوة الواقع اليومي، يذكرنا بأن الاحتجاج ليس مجرد رد فعل، بل بناء لمستقبل أفضل. لقد أثبتت المسيرة أن الريف لن يصمت، وأن مطالب الماء والطرق والصحة هي في الجوهر مطالب سياسية بإنهاء التهميش.ومع ذلك، يظل الطريق طويلاً. السلطات، بمنعها الذي يعكس خوفاً من التغيير، تخاطر بتعميق الشقة بين الدولة والشعب. يجب على الحكومة الاستجابة الحقيقية: استثمارات محلية تشاركية، إطلاق سراح السجناء، وإشراك الريفيين في صنع السياسات. أما الشعب، فيجب أن يستمر في التنظيم السلمي، مستفيداً من وسائل التواصل لجذب الدعم الدولي.مسيرة تاونات ليست نهاية، بل بداية. إنها تذكير بأن التغيير يأتي من الأرض، من الخطى الشاقة والليالي الباردة في الخلاء. إذا استجابت الدولة، سيكون ذلك انتصاراً للجميع؛ وإلا، ستستمر الصرخة حتى تسمع. الريف، بتاريخه المجيد، يستحق أكثر من الوعود؛ يستحق عدالة حقيقية.