الغضب الشعبي المغربي: بين الاستقلال والمستحمر والمطالبة بالإصلاح

بعد عقود من الاستقلال: المواطن المغربي يطالب بحقوقه في التعليم والصحة


مقدمة

منذ أقدم العصور، ارتبط الإنسان بأرضه ووطنه ارتباطًا وثيقًا، إذ وجد فيه الملجأ الآمن وهوية تمنحه معنى الانتماء وسبب العيش الكريم. كان وطنه مصدر الأمان، وملاذه في الأزمات، والمرجع الذي يستمد منه قيمه ومبادئه. ومن الطبيعي أن يسعى الإنسان بكل قوته للدفاع عن وطنه وحمايته ضد أي اعتداء، سواء من أطراف خارجية تسعى للاستغلال والاستعمار، أو من قوى داخلية تحاول فرض سيطرتها واستغلال الموارد دون مراعاة حقوق المواطنين. فالاستقلال ليس مجرد لحظة عابرة أو إعلان رسمي، بل هو تجسيد لإرادة الشعوب في التحرر من قيود الهيمنة والوصاية، وفي الوقت نفسه مسؤولية مشتركة بين الدولة والمجتمع، يقوم عليها توازن دقيق بين حقوق المواطن وواجباته تجاه وطنه.
إن علاقة المواطن بوطنه تقوم على هذه المعادلة المتوازنة، فلا قيمة للاستقلال إذا لم ينعكس على حياة الأفراد بالحرية والعدالة والكرامة، ولا معنى للمكاسب إذا لم يرافقها وعي المواطن بمسؤوليته تجاه حماية الأرض والمساهمة في تنميتها وازدهارها. فالاستقلال الحقيقي يتطلب أن يدرك كل فرد أن انتماءه الحقيقي يقاس بمدى التزامه بخدمة وطنه، وبمدى جهده في المحافظة على خيرات الوطن واستثمارها لمصلحة الجميع، لا لمصلحة فئة محدودة. الوطن يزدهر بعطاء أبنائه كما يحتضنهم بخيراته، وتستمر مسيرة الاستقلال متجددة حين يصبح المواطن فاعلًا وواعيًا بمسؤولياته تجاه وطنه.

العرض

حين نعود إلى لحظة الاستقلال في المغرب، تتجلى التضحيات الجسيمة التي قدمها الشعب، من دماء الشهداء إلى صرخات المعتقلين والمنفيين، كل هذه التضحيات كانت تصب في هدف واحد: إخراج المستعمر الفرنسي والإسباني من أرض الوطن. كان الأمل كبيرًا والحلم متقدًا في القلوب: وطن حر مستقل ينعم فيه المواطن بالكرامة والعدالة، ويتيح للجميع فرصًا متساوية في التعليم والعمل والسكن والصحة، وتتحول خيرات البلاد، من فوسفاط وحديد وزراعة وبحر، إلى ثروة جماعية يستفيد منها كل المواطنين. لكن فرحة الاستقلال لم تكن إلا بداية لتحدٍ أكبر، فقد غادر المستعمر العسكري، لكنه ترك خلفه مستعمِرًا داخليًا، ارتدى لباس الوطني وادعى أنه وريث المرحلة الجديدة، مستعمِرًا أكثر دهاءً، استخدم شعارات التحرر والوطنية لإخفاء مصالحه الخاصة، فأصبح "المستحمر" يشكل تهديدًا داخليًا جديدًا.

لقد استبدل المواطن قيود المستعمر بوعود لم تتحقق، واستيقظ بعد سنوات على واقع جديد تتقاسمه نخبة صغيرة تسيطر على خيرات البلاد وتتحكم في أرزاق الناس، بينما الأغلبية تبقى غارقة في الفقر والحرمان. وبدل أن يكون الاستقلال فرصة لتوزيع الثروة والعدالة، تحول إلى وسيلة لتكريس الامتيازات وتوارث المناصب وبناء شبكات من الزبونية والفساد، فالمواطن المغربي بعد عقود من الاستقلال يجد نفسه في الصفيح أو على هامش المجتمع، بينما تُهدر مليارات في مشاريع وهمية وقصور مترفة لا يعرف عنها شيئًا إلا عبر الصور ووسائل الإعلام.

المستحمر الذي حل محل المستعمر لم يكن غبيًا أو ساذجًا، بل كان بارعًا في صناعة الوهم والسيطرة على عقول الناس. استحمر الشعب بالشعارات الوطنية، وجعل الحديث عن "المصلحة العليا للوطن" غطاءً لكل تجاوزاته. إذا طالب المواطن بحقوقه، يُقال له إن الوطن في خطر، وإن المطالبة بالحرية تخدم أجندات الأعداء، وإذا احتج على الفساد يُقال له إن ذلك يسيء لصورة البلاد. وهكذا أصبح المواطن يعيش بين مطرقة التهميش وسندان التخويف، فاقدًا الثقة في أن الاستقلال جلب له ما كان يحلم به من حياة كريمة وعدالة اجتماعية.

أحد أبرز مظاهر الاستحمار تجلى في التعليم، الذي كان من المفترض أن يكون قاطرة النهضة، لكنه تحول إلى وسيلة لإعادة إنتاج الطبقات الاجتماعية نفسها. التعليم الرسمي ضعيف ومهمل، والتعليم الخاص أصبح سوق استغلال، بينما تظل المدارس العليا والبعثات الأجنبية بابًا مفتوحًا أمام أبناء النخب للاحتكار. وهكذا استُحمر الشعب بجعل المدرسة سلمًا وهميًا نحو النجاح، بينما بقيت الوظائف المرموقة حكرًا على فئة محدودة، مما دفع كثيرًا من الكفاءات إلى الهجرة بحثًا عن الكرامة وفرص عادلة.

وفي قطاع الصحة، يجد المواطن نفسه مضطرًا لبيع كل ما يملك للعلاج، في حين تتباهى تقارير رسمية ببناء مستشفيات ومراكز صحية لا تؤدي وظائفها الحقيقية. المستحمر يزرع خطابًا عن "إصلاح المنظومة الصحية" بينما يترك المستشفيات في حالة يرثى لها، ويدفع الأطباء الأكفاء للهجرة، ثم يوجّه المواطنين إلى مصحات خاصة تدر أرباحًا على شركائه على حساب جيوب الناس.

اقتصاديًا، المغرب غني بثرواته الطبيعية من فوسفاط وزراعة وصيد بحري، لكنه لم يستفد المواطن البسيط إلا بالفتات، بينما استحوذت لوبيات محدودة على الامتيازات الكبرى. الاستقلالية الاقتصادية تحولت إلى وسيلة لتركيز السلطة المالية في يد فئة صغيرة، بينما المواطن يُستحمر حين يُقال له إن البلاد فقيرة أو أن الإمكانيات محدودة، في الوقت الذي يرى فيه مظاهر الترف والبذخ واضحة أمام عينيه.

أما على صعيد الحريات، فكان المتوقع أن يجعل الاستقلال المواطن مشاركًا في صنع القرار السياسي، لكنه اكتشف أن الديمقراطية مجرد واجهة، وأن صناديق الاقتراع لا تغيّر واقع تحكم نفس الوجوه في مصائر البلاد. المواطن يعيش استحمارًا سياسيًا، يُوهم أن صوته يحدث فرقًا، بينما القرارات الكبرى محتكرة في دائرة ضيقة، ويستمر نفس النظام رغم التناوب الظاهري للأحزاب.

أخطر ما فعله المستحمر هو قتل الحلم. المواطن الذي حمل السلاح ضد المستعمر أو خرج في المظاهرات كان يظن أن أبناؤه سيعيشون حياة أفضل، لكنه اليوم يراهم يموتون في قوارب الهجرة، أو يقفون في طوابير البطالة، أو يهربون من واقع خانق. وهنا يظهر الاستحمار بأقبح صوره: الاستقلال يتحول من أمل إلى سراب، ومن مشروع وطني جامع إلى مجرد شعار يرددونه السياسيون في المناسبات الرسمية.

المستحمر لم يقتصر على السلطة، بل اخترق المجتمع، فصنع طبقة من المثقفين المزيفين والإعلاميين المأجورين الذين يزينون صورته ويبررون فساده. هؤلاء يشكلون "جوقة المستحمر"، يملؤون الشاشات بخطاب الوطنية المزيفة ويصورون أي احتجاج شعبي كتهديد للأمن والاستقرار، ليظل المواطن مستحمرًا، يظن أن صوته معزول، بينما مشكلاته جماعية وتعكس خللًا بنيويًا في توزيع الثروة والسلطة.

خروج المستعمر لم يكن نهاية المعركة، بل بداية فصل جديد من الصراع ضد الاستبداد الداخلي والاستحمار المنظم، فالمغرب الذي حلم أبناؤه بالحرية وجد نفسه بعد عقود في واقع من تفاوت صارخ، حيث أقلية قليلة تحتكر السلطة والثروة، وأغلبية واسعة تكدح من أجل البقاء.

الاستقلال الحقيقي لا يُقاس بخروج الجيوش الأجنبية أو رفع العلم، بل بمدى تحقق العدالة الاجتماعية وكرامة المواطن. إذا بقيت الثروات محتكرة، وإذا ظل المواطن يعاني من الفقر والبطالة وغياب الخدمات الأساسية، فإن الاستقلال يكون شكليًا لا جوهريًا. المعركة ضد الاستحمار تظل مفتوحة حتى يستعيد الشعب ثقته ويُمارس إرادته في بناء وطن يليق بتضحيات الأجداد وآمال الأجيال القادمة.

بعد عقود من الاستقلال وتجذر الاستحمار الداخلي، بدأ المواطن المغربي يدرك أن صبره له حد، فسنوات الفقر والبطالة وارتفاع الأسعار وتدهور الخدمات جعلت المواطنين واعين للفجوة بين الوعود الرسمية والواقع المعيشي. هذا الغضب لم يعد مجرد تذمر صامت، بل أصبح وعيًا جماعيًا بأن الحقوق الأساسية لم تُحقق، وأن الدولة أصبحت مزرعة نخبة محدودة على حساب الأغلبية.

في المدن والقرى، بدأت مظاهر الاستياء تظهر في الأسواق والمدارس والمستشفيات، والشباب يواجهون البطالة والتعليم المتردي، بينما يراقبون مظاهر البذخ والنفوذ التي تمارسها نخبة قليلة. الغضب الشعبي انعكاس مباشر لفشل الدولة في تحقيق وعد الاستقلال، واستبدال السيطرة الأجنبية بنخبة استحمرت الشعب تحت شعارات الوطنية والتنمية.

المواطن أمام خيارين: الصمت وتحمل المعاناة اليومية، أو تحويل الغضب إلى قوة ضغط سلمية ومنظمة. ووعي الشباب بحقوقهم يجعل من الضروري للسلطة الاستجابة لمطالبهم، وإلا فإن الغضب الجماهيري سيزداد ويصبح التغيير حتميًا.

المستقبل الحقيقي للمغرب لن يُبنى إلا بالعدالة الاجتماعية والمشاركة الفاعلة للمواطنين، ووعيهم بأن الدفاع عن حقوقهم هو في الوقت نفسه دفاع عن وطنهم واستقلاله الحقيقي. المطالبة بالإصلاح والمساواة ليست خيارًا بل واجبًا أخلاقيًا، ويجب أن يكون كل تحرك مسؤولًا وسلميًا لضمان أن يصبح الغضب الشعبي قوة إيجابية للتغيير، وليس وسيلة للعنف.

غداً، 27 شتنبر، يبدأ الاحتجاج عند الساعة 6 مساءً في ساحات المدن الرئيسية. في الدار البيضاء أمام البرلمان، الرباط في شارع محمد الخامس، مراكش في جامع الفنا، فاس في ساحة باب الحد، وأكادير أمام المستشفى. الدعوة تشمل جميع المدن من طنجة إلى وجدة، مع 60% مشاركين شباب. الشعار: "من أجل التعليم والصحة"، لكن الغضب أعمق: ضد الحكومة التي "رفعت الفقر والبطالة، وزادت الأسعار".تخيل المشهد: آلاف يحملون لافتات "التعليم حق، لا سلعة"، أمهات يصرخن "لا لموت الأطفال في المستشفيات"، عمال ينددون بفساد الفوسفاط. المنظمة تؤكد السلمية: "لا عنف، ثقافة الاحتجاج عبر الصور والفيديوهات". لكن إذا تدخل الأمن، كما في الريف، قد تتحول إلى انتفاضة عامة. في 28 شتنبر، يستمر الاحتجاج ليلاً، مع وقفات أمام الوزارات.التأثير المتوقع: ضغط على الحكومة لزيادة ميزانية التعليم 20%، توظيف 50 ألف معلم، وإصلاح الصحة. لكن الخوف من القمع: في 2023، قُمِعَت احتجاجات المعاقين. على X، تغريدات: "27-28: الشوارع للمغاربة، لا لأخنوش". هذه الأيام قد تكون "استفتاء شعبياً" ضد الحكومة، كما في احتجاجات فلسطين 2025.
خاتمةبناءً على ما سبق، يظهر أن الاستقلال الحقيقي لا يكتمل إلا حين يشعر المواطن بالعدالة والمساواة، وأن خيرات الوطن تُستغل لمصلحة الجميع، لا لفئة محدودة من النخب. الغضب الشعبي الذي بدأ يتبلور في الشارع هو انعكاس طبيعي لإحباطات متراكمة، وليس مجرد احتجاج عابر، بل صرخة المواطنين للمطالبة بحقوقهم الأساسية: التعليم والصحة والعمل والعيش الكريم. وفي هذا السياق، يُعتبر الواجب الوطني للمغاربة اليوم أن يعبروا عن مطالبهم بطريقة سلمية، حضارية، مسؤولة، تجعل صوتهم مسموعًا وتضغط على السلطة لتنفيذ الإصلاحات الضرورية، قبل أن يتحول الاستياء إلى أزمة أكبر تهدد استقرار الوطن. فالمستقبل الحقيقي للمغرب لن يُبنى إلا بالعدالة الاجتماعية والمشاركة الفعالة للمواطنين، وبوعيهم الجماعي بأن الدفاع عن حقوقهم ومصالحهم هو في الوقت نفسه دفاع عن وطنهم واستقلاله الحقيقي.

تعليقات