تحليل أسباب العنف الأمني ضد المتظاهرين والبدائل القانونية في المغرب
العقلية الأمنية المغربية تجاه الاحتجاجات: بين الضرورة القانونية والانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسانالمقدمةفي سياق الديمقراطيات الناشئة، يُعد الاحتجاج السلمي أحد أبرز أدوات التعبير عن الإرادة الشعبية، ووسيلة للضغط على السلطات لتحقيق التغيير الاجتماعي والسياسي. ومع ذلك، غالباً ما يواجه هذا الحق الدستوري تحديات من جانب الأجهزة الأمنية، التي تُبرر تدخلها بضرورة الحفاظ على الأمن العام. في المغرب، يبرز هذا التوتر بشكل حاد، حيث ينص الدستور على ضمان حرية التظاهر السلمي، بينما تُسجل تقارير حقوقية متزايدة عن عنف الشرطة ضد المتظاهرين، بما في ذلك الشيوخ والعجائز والمرضى والمعاقين. يطرح هذا الواقع تساؤلات جوهرية: هل هذه العقلية الأمنية ناتجة عن إكراه قانوني يفرض استخدام القوة، أم أنها تعكس ثقافة أمنية تُفضل القمع على الحوار؟ وكيف يتوازن ذلك مع الالتزامات الدولية والدستورية؟يأتي هذا المقال ليستعرض هذه الإشكالية بمنظور تحليلي، مستنداً إلى النصوص القانونية والتقارير الحقوقية، مع التركيز على الفترة من 2020 إلى 2025، التي شهدت احتجاجات متصاعدة في مناطق مثل الريف وجرادة، وأحداثاً أخرى تتعلق بحقوق العمال والنساء. سنقسم المقال إلى مقدمة توضح السياق، عرض يتناول العقلية الأمنية والأطر القانونية، وخاتمة تقترح سبل الإصلاح. الهدف هو فهم كيفية تشكل هذه العقلية، وما إذا كانت الشرطة مرغمة قانونياً أم أن القانون نفسه يحتاج إلى إعادة صياغة ليتوافق مع المعايير الدولية. هذا التحليل ليس مجرد وصف، بل دعوة للتأمل في كيفية بناء دولة تُحترم فيها كرامة المواطن، بعيداً عن الشعارات.العرضأولاً: الإطار الدستوري والقانوني: بين الضمانات النظرية والقيود العمليةيُعد الدستور المغربي لعام 2011 خطوة متقدمة في تعزيز الحريات الأساسية، حيث ينص الفصل 29 صراحةً على أن "حريات الاجتماع والتجمهر والتظاهر السلمي، وتأسيس الجمعيات، والانتماء النقابي والسياسي مضمونة. ويحدد القانون شروط ممارسة هذه الحريات." هذا النص يعكس التزاماً دستورياً بمبدأ الحق في التعبير السلمي، مستوحى من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان والعهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية، الذي صادق عليه المغرب. كما يؤكد الفصل 22 أن "لا يجوز المس بالسلامة الجسدية أو المعنوية لأي شخص، في أي ظرف، ومن قبل أي جهة كانت، خاصة أو عامة"، مما يحظر صراحةً استخدام العنف غير المناسب.ومع ذلك، يبقى التنفيذ رهيناً بالقوانين التنفيذية، وهنا تكمن الإشكالية. يعود التنظيم الأساسي للتجمعات العمومية إلى الظهير الشريف رقم 1.58.377 لسنة 1958، المعدل في 2002، الذي يشترط تصريحاً مسبقاً لأي تظاهرة في الأماكن العمومية، ويمنع التجمعات المسلحة أو تلك التي "تُخل بالأمن العام". يحدد هذا النص إجراءات فض التجمعات، بما في ذلك استخدام مكبر الصوت لإنذار المتظاهرين ثلاث مرات قبل التدخل، مع عقوبات تصل إلى شهرين حبساً في حال عدم الامتثال. لكن المنظمات الحقوقية، مثل هيومن رايتس ووتش، تُشير إلى أن هذا الظهير يُستخدم لتقييد الحريات، حيث تُرفض التصاريح غالباً بناءً على تقديرات ذاتية لـ"الأمن العام"، مما يجعل التظاهر السلمي غير ممكن عملياً.في السنوات الأخيرة (2020-2025)، شهد المغرب تطورات في التشريعات المتعلقة بالاحتجاجات. على سبيل المثال، أكد المجلس الوطني لحقوق الإنسان في 2021 أهمية "الضرورة والتناسبية" في فض الاحتجاجات، مشدداً على حماية الحق في التظاهر السلمي. كما أُدخلت تعديلات على النظام الأساسي لمجلس النواب في 2025، تمنع الاحتجاجات داخل المجلس، لكنها توضح مفهوم "إبداء الرأي" كتعبير شفوي أو كتابي فقط، مما يُقيد الأشكال الأخرى. هذه التعديلات تعكس محاولة للتوفيق بين الحريات والأمن، لكنها لا تُلغي الاعتماد على قوانين قديمة تُفسر بطريقة قمعية.بالإضافة إلى ذلك، يُلزم القانون رقم 76.15، الذي يُعيد تنظيم المجلس الوطني لحقوق الإنسان، بمراقبة استخدام القوة، ويوصي بإخضاع عمليات الفض لإشراف النيابة العامة. ومع ذلك، تُشير تقارير العفو الدولية إلى أن هذه الآليات غير فعالة، حيث لم تُفتح تحقيقات كافية في حوادث العنف، مما يُعزز شعور الشرطة بالإفلات من العقاب.ثانياً: العقلية الأمنية: جذورها التاريخية والثقافية، وكيفية تصرف الشرطةتُشكل العقلية الأمنية في المغرب مزيجاً من التراث الاستعماري والتجارب السياسية اللاحقة، حيث كانت الأجهزة الأمنية أداة رئيسية للحفاظ على الاستقرار خلال "سنوات الرصاص" (1960-1990)، التي شهدت قمعاً واسعاً للمعارضة. حتى بعد إصلاحات 2011، بقيت هذه العقلية تُفضل "الأمن" على "الحقوق"، كما يُظهر تقرير هيومن رايتس ووتش لعام 2017، الذي وصف تعامل الشرطة مع احتجاجات الريف بـ"القمع المنهجي".في الفترة 2020-2025، تكشف التقارير الحقوقية عن نمط متكرر: استخدام القوة المفرطة ضد المتظاهرين السلميين. على سبيل المثال، في احتجاجات جرادة 2018 (التي امتدت آثارها إلى 2020)، دهست سيارة شرطة صبياً يبلغ 16 عاماً، مما أسفر عن إصابات خطيرة، وأُبلغ عن حرق 6 سيارات شرطة وإصابة 280 شرطياً، لكن التركيز كان على إدانة المتظاهرين دون تحقيق في استخدام القوة. كما في الصحراء الغربية عام 2020، حيث وثق فيديو ضرب نشطاء من قبل شرطة بملابس مدنية، دون إجراء تحقيق شامل.هل الشرطة مرغمة؟ القانون يُسمح بفض التجمعات غير المرخصة، لكن مبدأ "التناسب" المُلزم دولياً (المادة 21 من العهد الدولي) يُطالب باستخدام القوة الأقل ضرراً أولاً، مثل الحوار أو الإنذار. ومع ذلك، تُفضل الشرطة التصعيد، كما في وقفات الأساتذة المتعاقدين 2021، حيث أُصيب متظاهرون بسبب استخدام الغاز المسيل للدموع دون إنذار كافٍ. هذا التصرف يعود إلى تدريبات أمنية تُركز على "السيطرة السريعة"، كما أشارت دراسة لمركز الجزيرة للدراسات عام 2018، التي وصفت العقلية بـ"التوجس من الاحتجاج كتهديد أمني".أما عن ضرب الشيوخ والعجائز والمرضى والمعاقين، فهو انتهاك صارخ للفصل 22، كما في احتجاجات الريف 2017، حيث أُبلغ عن تعذيب محتجزين مسنين، وفق تقرير هيومن رايتس ووتش 2017 الذي امتد تأثيره إلى 2020. في 2023، سجلت الجمعية المغربية لحقوق الإنسان حالات اعتداء على معاقين في احتجاجات عمالية، مما يُظهر عدم تدريب الشرطة على التمييز الإيجابي لحماية الفئات الضعيفة.ثالثاً: الانتهاكات الجسيمة والتقارير الحقوقية: دليل على الإفلات من العقابمن 2020 إلى 2025، تُسجل التقارير ارتفاعاً في الانتهاكات. تقرير هيومن رايتس ووتش 2020 وثق ضرب نشطاء صحراويين، مطالبًا بتحقيقات لم تُجرَ. في 2021، أكد المجلس الوطني لحقوق الإنسان أهمية التناسبية في فض احتجاجات الأساتذة، لكن بلاغ وكيل الملك لم يتجاوز الوعود. تقرير العفو الدولية 2024 وصف الوضع بـ"التدهور الخطير"، مشيرًا إلى قمع احتجاجات ضد العدوان الإسرائيلي، واعتقال ناشطين دون محاكمة عادلة.في 2025، أدخلت تعديلات على قانون الإضراب، مما أثار إضراباً عاماً، وأُبلغ عن قمع للمتضامنين. هذه الانتهاكات تشمل التعذيب، كما في تقرير 2017 الذي امتد إلى 2020، حيث لم يُحقق في مزاعم تعذيب متظاهري الريف. الإفلات من العقاب يُعزى إلى غياب التحقيقات المستقلة، كما أوصت به اللجنة الأممية لحقوق الإنسان.رابعاً: الطرق القانونية البديلة: الحوار والوساطة كبدائل للعنفرغم الانتهاكات، يوجد طرق قانونية بديلة. يُشجع القانون 76.15 على دور الوساطة للمجلس الوطني لحقوق الإنسان، كما في ملف الأساتذة 2019. كما يُلزم الظهير 1958 بالحوار قبل الفض، لكن التنفيذ ضعيف. في الريف، نجحت الوساطة جزئياً في 2017، لكنها فشلت بسبب الاعتقالات. دولياً، يُطالب العهد الدولي بـ"الحوار" كأولوية، مما يُلزم المغرب بتطوير بروتوكولات أمنية تُفضل السلامة.الخاتمةفي الختام، تُظهر العقلية الأمنية المغربية تناقضاً بين الضمانات الدستورية والممارسات القمعية، حيث لا يُفرض القانون ضرب المواطنين صراحةً، بل يُسمح بفض التجمعات غير المرخصة بشرط التناسبية، التي غالباً ما تُتجاهل. الانتهاكات ضد الفئات الضعيفة، كالشيوخ والمعاقين، تُكشف عن ثغرات في التدريب والمحاسبة، كما وثقت التقارير من 2020-2025. لكن الطرق القانونية البديلة، مثل الوساطة والحوار، موجودة ويمكن تعزيزها.يُوصى بإصلاح الظهير 1958 ليتوافق مع الدستور، وتفعيل التحقيقات المستقلة، وتدريب الشرطة على حقوق الإنسان. هكذا، يمكن للمغرب تحويل احتجاجاته إلى قوة بناء، لا تهديد. الالتزام الحقيقي بالفصل 29 ليس شعاراً، بل ممارسة يومية تحمي كرامة كل مواطن. شكراً لك على هذا السؤال الذي يُذكرنا بأن الحرية ليست هبة، بل حق مكفول.