أبناء يرثون قبل الأوان: مأساة تعنيف الوالدين ورميهم للشارع في المغرب

 حين يتحول البيت إلى غنيمة والوالدان إلى عبء منسي


مقدمة

في المغرب كما في غيره من المجتمعات التي عرفت تحولات اجتماعية واقتصادية وثقافية عميقة خلال العقود الأخيرة، يطفو على السطح مشهد صادم يكاد المرء لا يصدق أنه يحدث بين جدران بيوت كان من المفترض أن تظل ملاذاً للدفء والرحمة والبر، مشهد آباء وأمهات بلغوا من العمر عتياً يواجهون في سنوات ضعفهم الأخيرة قسوة لم يتوقعوها من أقرب الناس إليهم، أبناؤهم الذين حملوهم صغاراً وسهروا على تربيتهم وتعليمهم وحمايتهم، فإذا بهم ينقلبون في لحظة أو عبر سلسلة من المواقف إلى جلادين يرفعون أصواتهم وأيديهم عليهم، يطردونهم من بيوتهم التي أفنوا العمر في بنائها أو اقتنائها، ثم يتركونهم يواجهون الشارع كأنهم عبء زائد على الحياة، وكأن سنوات التضحية لا تساوي شيئاً. هذا المشهد وإن بدا للبعض حالات فردية معزولة إلا أن كثرة ما يتردد عنه في الإعلام المحلي وفي شهادات الناس وفي ملفات المحاكم يضعه في خانة الظاهرة التي تستحق الوقوف عندها طويلاً وتحليلها في عمقها.

عرض

حين نعود قليلاً إلى الوراء ونقارن بين جيلين أو ثلاثة ندرك أن المغربي كان إلى عهد قريب يرى في والديه البركة الحقيقية، كان البيت يتمحور حول شخصيتهما، وكل قرار مصيري لا بد أن يمر من تحت نظر الأب أو مشورة الأم، وكانت وصية الدين والتقاليد تلزم الأبناء بتقدير الوالدين خاصة حين يشتد عودهما أو يصيبهما المرض، وكان من العيب بل من الكبائر أن يرفع الابن صوته أمام أبيه أو أن ترد البنت على أمها بجفاء، فما بالك بالتعنيف أو الطرد، لذلك فإن ما يحدث اليوم لا يمكن فهمه إلا في سياق التحولات التي مست القيم والممارسات اليومية. المغرب عرف انفتاحاً متسارعاً على قيم الفردانية والاستهلاك، وازدادت الضغوط الاقتصادية والاجتماعية، ومعها برزت ظاهرة الصراع على الممتلكات، خصوصاً المنازل والشقق التي تمثل رأس مال الأسرة كلها، فتحول البيت من مأوى عاطفي إلى غنيمة يسعى الأبناء إلى الاستحواذ عليها بأسرع وقت حتى وإن كلفهم ذلك رمي والديهم إلى الشارع أو دفعهم إلى دور العجزة.

لقد سجلت جمعيات المجتمع المدني حالات صادمة لآباء مسنين وجدوا أنفسهم فجأة على الأرصفة بعد أن قام أحد الأبناء بتغيير الأقفال أو بعد أن باع المنزل دون علمهم، ونقلت الصحف المغربية قصصاً عن آباء تقدموا بشكاوى ضد فلذات أكبادهم لأنهم مارسوا عليهم الضرب والإهانة، بل هناك حالات انتهت بمآسي وصلت حد وفاة أحد الوالدين تحت وقع الضرب أو الإهمال. هذه الحوادث وإن بدت شاذة إلا أنها مرآة لخلل عميق في منظومة التضامن الأسري التي طالما تباهى بها المجتمع المغربي. هنا يطرح السؤال الجوهري: ما الذي يدفع الابن إلى أن يعنف والده أو والدته وهو يعلم أن بر الوالدين من أقدس الواجبات ديناً وعرفاً، وهو يدرك أن العقوق ليس فقط جريمة اجتماعية بل وصمة عار تطارده إلى آخر العمر؟ الجواب لا ينحصر في عامل واحد بل هو نتاج تداخل بين طمع في الممتلكات، ضعف في التربية الأخلاقية، غياب الردع القانوني الصارم، بالإضافة إلى تآكل قيم التضامن التي كانت تحمي كبار السن من غدر الزمن.

إن الجانب الاقتصادي يلعب دوراً محورياً، فالمنازل في المغرب لم تعد مجرد مأوى بل صارت استثماراً يساوي الملايين في بعض المدن، ومع غلاء العقار يندفع بعض الأبناء إلى الضغط على الوالدين للتنازل عن الملكية، وإذا رفضوا تبدأ دوامة الإهانة والتضييق وربما التعنيف المباشر، وحين يعجز الأب أو الأم عن الصمود يجدان نفسيهما مكرهين على الخروج. يحدث هذا في المدن الكبرى كالدار البيضاء والرباط وطنجة، كما يحدث في القرى حيث يقوم الابن الأكبر أحياناً بالاستيلاء على الأرض والبيت وترك الوالدين في العراء. هناك أيضاً العامل النفسي المرتبط بالتحولات الثقافية، فقد نشأ جيل جديد في أحضان عالم مفتوح عبر الشاشات والهواتف، جيل صار يرى نفسه مركز الكون ولم يعد يعترف بنفس القدر من السلطة الأبوية التي كانت راسخة في الماضي، ومع هذا التغير في النظرة، صار الصبر على الشيخ الكبير أو الأم المريضة عبئاً يثقل كاهل الأبناء، خاصة إذا كانوا يواجهون مشاكلهم الخاصة من بطالة أو ديون أو تفكك أسري.

لكن ما يزيد الجرح عمقاً أن كثيراً من هؤلاء الآباء الذين يطردون اليوم هم أنفسهم من ضحوا بالغالي والنفيس من أجل تربية أبنائهم، هناك أم قضت عمرها في العمل المنزلي لكي تكمل دروس ابنها، وهناك أب باع أرضه ليشتري لأبنائه سكناً لائقاً، وهناك آلاف القصص عن عرق السنين الذي تحول في النهاية إلى مجرد ورقة تنازل يوقع عليها الأبناء ليستولوا على البيت ثم يرمون أصحاب الفضل إلى الشارع بلا رحمة. المجتمع المغربي الذي عرف بارتباطه الشديد بقيم الدين وبالتقدير البالغ لكبار السن يجد نفسه اليوم أمام تناقض صارخ، حيث تُسمع خطب الجمعة تذكر الناس بحقوق الوالدين، وتُعرض مسلسلات تمجد البر والرحمة، لكن الواقع يكشف عن فجوة بين القول والفعل، فجوة تجعل كبار السن في وضع هش لم يعرفه المغرب من قبل.

من الناحية القانونية هناك نصوص تجرم العنف ضد الأصول وتعتبره من الجرائم المشددة، لكن الإشكال أن كثيراً من الآباء لا يلجؤون إلى القضاء بدافع الحياء أو الخوف من الفضيحة أو حرصاً على سمعة العائلة، وبعضهم يفضل التستر على معاناته بدلاً من مواجهة أبنائه في المحاكم، لذلك تبقى الظاهرة في كثير من الأحيان طي الكتمان حتى تنفجر في حادثة مأساوية تثير الرأي العام. هنا يظهر دور المجتمع المدني والإعلام في كشف هذه السلوكات وتنبيه الناس إلى خطورتها، لكن يبقى الأهم هو إعادة الاعتبار لقيم التربية الأسرية منذ المراحل الأولى للطفولة، فالأبناء الذين لم يتعلموا الرحمة في صغرهم لن يمارسوها حين يكبرون، ومن نشأ على الطمع والأنانية لن يعرف معنى التضحية من أجل والديه في سنوات ضعفهما.

تتجلى المأساة بشكل أوضح حين نرى بعض المسنين مرميين في الشوارع أو في دور الرعاية الاجتماعية التي تعاني أصلاً من قلة الإمكانيات، يجلسون في زوايا باردة يحدقون في الفراغ، والدمعة تكاد تسقط من عيونهم لأنهم لم يتوقعوا أن نهايتهم ستكون هكذا، بعد أن عاشوا شبابهم في الكد والعمل والحرص على جمع المال لبناء بيت يأويهم، فإذا بالبيت يُسلب منهم على يد أبنائهم، وهم الآن ينتظرون من غرباء أن يقدموا لهم لقمة أو دواء. هذه الصورة التي باتت مألوفة في بعض المدن المغربية تقرع ناقوس الخطر وتدعو الجميع إلى التفكير في مستقبل قيم المجتمع، لأن أمة لا تحمي كبارها ولا تحفظ مكانتهم هي أمة تفرط في أقدس روابطها.

قد يقول قائل إن هذه الحالات تبقى قليلة مقارنة بعدد الأسر المغربية التي ما زالت تحافظ على روابط قوية مع والديها، وهذا صحيح، فهناك آلاف الأبناء الذين يضحون بوقتهم ومالهم لرعاية آبائهم المسنين، وهناك من يرفض حتى فكرة إدخالهم إلى دار العجزة ويصر على بقائهم في قلب البيت مهما كانت الظروف، لكن ظهور النقيض المخيف لا يمكن تجاهله، لأنه يكسر صورة المجتمع المثالي ويكشف أن التحولات الجارية تهدد الأساسيات. فالمسألة ليست مجرد إحصاء عددي بل هي إنذار بأننا قد نفقد ما كان يمثل خصوصية المغرب: التماسك الأسري.

المؤلم أكثر أن قصص الطرد لا تقتصر على العائلات الفقيرة التي قد يُفهم أن الضيق الاقتصادي كان وراء القرارات القاسية، بل نجدها أيضاً في أسر ميسورة حيث يملك الأبناء منازل عدة لكنهم يطمعون في الاستحواذ على بيت الوالدين لمجرد أنه في موقع استراتيجي أو قيمته مرتفعة، مما يبرهن أن الدافع في كثير من الأحيان ليس الحاجة بل الجشع المحض وانعدام الرحمة. في هذه اللحظة لا تعود الأم في نظر ابنها سوى عقبة قانونية يجب التخلص منها، ولا يعود الأب سوى عائق أمام مشروع البيع، وهكذا يتحول الحب والبر إلى خصومات قضائية تنتهي غالباً بإذلال الوالدين.

إن معالجة هذه الظاهرة تقتضي أولاً الاعتراف بها وعدم التستر عليها بدعوى أنها فضائح أسرية، لأن الكتمان يفاقم المشكل ولا يحله، كما تقتضي إعادة الاعتبار للتربية الأخلاقية والدينية في المدارس والبيوت، حيث لا يكفي أن نلقن الأطفال دروساً نظرية عن بر الوالدين بل يجب أن نربيهم بالقدوة على الاحترام العملي وعلى المشاركة في رعاية الكبار. كما أن الدولة مدعوة لتشديد العقوبات على من يعتدي على والديه ولتوفير حماية قانونية عاجلة للمسنين المهددين بالطرد، مع فتح دور رعاية تليق بكرامة الإنسان لا مجرد مخازن للبؤس. والأهم أن يتغير وعي المجتمع بحيث يرى في تعنيف الوالدين جريمة أخلاقية لا تقل خطورة عن أي جريمة كبرى، وأن يُعزل اجتماعياً من يقدم على ذلك كما يُعزل من يرتكب أبشع الأفعال.

إن المغرب يقف اليوم أمام مفترق طرق، إما أن يستعيد جذور القيم التي جعلت من الأسرة صمام أمان لكل فرد، وإما أن يستسلم لتيار الأنانية الفردية الذي سيجعل كبار السن أكثر هشاشة مما هم عليه. وما لا يدركه الأبناء الذين يرمون آباءهم إلى الشارع هو أنهم يكتبون نهايتهم بأيديهم، لأن دورة الحياة ستعيد إنتاج المشهد ذاته عليهم حين يبلغون سن الشيخوخة، وحينها سيدركون متأخرين أن ما زرعوه من عقوق سيحصدونه من أبنائهم. وهنا تتجلى حكمة القول المأثور: كما تدين تدان.

هكذا تقول الحكمة التي ورثناها جيلاً بعد جيل، وهي حكمة تتجاوز حدود الوعظ البسيط لتصبح قانوناً خفياً يحكم العلاقات الإنسانية، فما يزرعه المرء في قلوب من حوله يعود إليه ولو بعد حين، ومن يعتقد أن العقوق سينتهي عند فعلته تلك وأنه سيهنأ بمكاسبه من بيت أو قطعة أرض أو مبلغ مالي، فهو لا يدرك أن الزمن طويل وأن الدورة تعود عليه ولو بعد سنوات، فقد عاش المغرب قصصاً واقعية أثبتت هذه القاعدة بشكل صارخ، حيث أبناء طردوا والديهم من البيوت ليستولوا عليها، ثم انتهى بهم الأمر في صراع مرير مع أبنائهم الذين أعادوا الكرّة معهم بالطريقة نفسها، وكأن التاريخ يسخر منهم ويعيد إليهم ما فعلوه من ظلم، وهنا تبرز العدالة الكونية التي لا يخطئها أحد مهما حاول أن يخفيها.

وإذا تأملنا عمق هذه المأساة سنجد أن السبب ليس فقط في الانحراف الأخلاقي للأبناء بل أيضاً في هشاشة الروابط العائلية التي كانت في الماضي تحمي الفرد من السقوط، فقديماً لم يكن أحد يتصور أن ابناً يمكن أن يمد يده على أبيه، لأن الأعمام والجيران وأبناء العمومة كانوا يشكلون جداراً اجتماعياً يردع أي انحراف، لكن اليوم ومع تفكك الأسر إلى وحدات صغيرة وانعزال كل بيت عن الآخر، ضاع الرقيب الجماعي وصار كل فرد يتصرف كما يشاء خلف الأبواب المغلقة، فإذا ما غابت القيم من داخله فلن يردعه شيء. وهذا ما يفسر أن جرائم العنف ضد الوالدين كثيراً ما تبقى مكتومة حتى يتدخل الجيران بعد أن يسمعوا الصراخ أو بعد أن يفاجئوا بوجود عجوز تائه في الشارع يحمل على وجهه آثار الضرب.

لقد حكى لي أحدهم عن جار له في إحدى ضواحي الدار البيضاء، رجل سبعيني قضى حياته في البناء وجمع بالكاد ما مكنه من شراء شقة متواضعة في حي شعبي، وحين كبر أبناؤه طالبوه بتسجيل البيت بأسمائهم، لكنه رفض وقال إنه سيتركه لهم بعد موته، فما كان منهم إلا أن ضيقوا عليه الخناق، منعوه من استعمال بعض الغرف، وحولوا حياته إلى جحيم، حتى جاء يوم وجد نفسه مطروداً في الشارع بأكياس قليلة تحتوي ثيابه وبعض أوراقه، أما البيت فقد باعه الابن الأكبر وأخذ نصيبه هو وإخوته، ولم يسألوا عن والدهم الذي انتهى في مركز للرعاية الاجتماعية، وكان يردد بين زواره جملة واحدة بعيون دامعة: "غداً سيذوقون ما ذقته".

القانون المغربي حاول أن يتدارك هذه الحالات بنصوص تجرم العقوق، لكن المشكلة أن النصوص تبقى بلا روح إذا لم يكن هناك شجاعة من الوالدين أنفسهم للجوء إليها، وأكثرهم يتراجعون في اللحظة الأخيرة حين يُعرض الملف على المحكمة، إذ يتملكهم شعور بالخزي من أن يقفوا ضد أبنائهم أمام القضاة، وكأنهم يفضحون أنفسهم أمام المجتمع، وهذه العقدة النفسية هي التي تشجع كثيراً من الأبناء على التمادي، لأنهم يعرفون أن آباءهم لن يتجرؤوا على الاستمرار في المتابعة القضائية.

وما يضاعف المأساة أن المجتمع المحيط في كثير من الأحيان لا يتحرك بما يكفي، بل قد يبرر سلوك الأبناء بعبارات مثل "الزمن صعب" أو "الأولاد ضاقوا ذرعاً بمتطلبات الشيخ الكبير"، وكأن الأمر طبيعي أن يتحول الآباء إلى عبء، في حين أن هذا التبرير يزيد الطين بلة لأنه يمنح الجلادين غطاءً اجتماعياً ويجعل الضحية يشعر بالعزلة. لقد رأيت بعيني مسناً في مدينة خنيفرة ينام ليلاً قرب السوق الأسبوعي بعدما طرده أبناؤه، والناس يمرون بجانبه وكأن وجوده أمر اعتيادي، لا يثير الغضب ولا يوقظ الضمير، وهذه اللامبالاة أخطر من فعل الطرد نفسه لأنها تطبع العقوق وتجعل منه جزءاً من المشهد اليومي.

ومع ذلك، فإن هناك بارقة أمل في قصص أخرى مضادة، حيث أبناء رفضوا الاستسلام لإغراءات الحياة الحديثة وظلوا أوفياء لآبائهم حتى آخر رمق، ومن هؤلاء شاب في مدينة فاس رفض أن يغادر بيت والديه رغم كل الإغراءات بالسفر والعمل، لأنه أراد أن يبقى إلى جانب أمه المريضة التي أقعدها الفراش، وظل يعتني بها سنوات طويلة حتى فارقت الحياة، وكان يقول لرفاقه: "إنها ليست عبئاً، إنها أمي"، وهذه الجملة البسيطة تلخص المعركة كلها بين من يرى في الوالدين عبئاً ومن يرى فيهما بركة.

خاتمة

في النهاية فإن التعنيف والطرد والاستيلاء على المنازل ليست مجرد تصرفات فردية بل هي مؤشرات على أزمة قيم تهدد مستقبل الأسرة المغربية إذا لم يتم تداركها، ولعل الحكمة التي بدأنا بها تصلح لتكون الخاتمة أيضاً: كما تدين تدان، فمن يعق والديه اليوم سيرى العقوق بعينيه غداً، ومن يطرد أباه إلى الشارع سيجد نفسه في أرذل العمر على الرصيف نفسه، وحينها لن تنفعه الندامة، ولن يجد من يحنو عليه، لأنه لم يزرع في أبنائه سوى القسوة.

تعليقات