من رجل الأعمال إلى وزير الصحة: التهراوي بين الإصلاح والانزلاقات
أمين التهراوي: من عالم الأعمال إلى كرسي وزارة الصحة.. بين الإصلاحات الطموحة والانزلاقات المثيرة للجدل تعيين ملكي مفاجئ في زمن التحديات الصحيةأعلن الملك محمد السادس في 23 أكتوبر 2024 عن تعديل حكومي أثار موجة من التساؤلات في الأوساط السياسية والصحية المغربية.أبرز ما فيه تعيين أمين التهراوي وزيرا للصحة و الحماية الاجتماعية ، الرجل القادم من عالم الأعمال والإدارة، خلفاً للبروفيسور خالد آيت طالب، الطبيب الجراح الذي قاد القطاع خلال جائحة كورونا. هذا التعيين لم يكن مجرد تغيير في الكراسي، بل تحول جذري في نهج إدارة أحد أكثر القطاعات حساسية في المملكة، حيث يعاني النظام الصحي المغربي من تراكمات تاريخية من الاختلالات: نقص الأسرّة الاستشفائية، تدهور البنى التحتية، وفجوة بين الوعود الملكية والتنفيذ اليومي.أمين التهراوي، الذي يُعرف بـ"الرجل الجديد" في الساحة السياسية، يجسد نموذجاً للانتقال من القطاع الخاص إلى العام، محملًا بتجربة في الإدارة المالية والاستثمار. لكنه سرعان ما واجه انتقادات حادة، خاصة مع شائعات حول محاولات خصخصة مؤسسات عامة مثل معهد باستور المغرب، الذي يُعتبر ركيزة أساسية في مكافحة الأمراض المعدية. هذا المقال يغوص في سيرة التهراوي، مسيرته المهنية، والانزلاقات التي رافقت عهده القصير نسبياً، معتمداً على تحليل الأحداث حتى سبتمبر 2025. سنستعرض كيف تحولت الوعود بالإصلاح إلى جدل حول "بيع الصحة" للقطاع الخاص، وما إذا كان هذا النهج يعكس رؤية إصلاحية أم مخاطر تهدد الوصول العادل إلى الرعاية الصحية.من هو أمين التهراوي؟ سيرة ذاتية في عالم الأعمالولد أمين التهراوي في مدينة الصويرة، المدينة الساحلية الهادئة التي تُعرف بجمالها الطبيعي وتراثها الثقافي، في السبعينيات من القرن الماضي. نشأ في بيئة متواضعة، لكنه سرعان ما أظهر ميلاً للدراسة والإدارة. تخرج من الجامعة المغربية في تخصص إدارة الأعمال، ثم أكمل دراسات عليا في الاقتصاد والمالية، مما فتح له أبواب عالم الشركات الكبرى. قبل دخوله السياسة، كان التهراوي مديراً تنفيذياً في عدة مؤسسات مالية، بما في ذلك بنوك وشركات استثمارية، حيث اشتهر بقدرته على إعادة هيكلة الشركات المفلسة وتحويلها إلى مشاريع رابحة.في السنوات الأخيرة، شغل مناصب إدارية في القطاع العام، مثل رئاسة هيئات رقابية تابعة لوزارة الاقتصاد والمالية، مما أكسبه سمعة كـ"مصلح مالي" يعتمد على مبادئ الفعالية والشراكات الخاصة. انضم إلى حزب التجمع الوطني للأحرار في 2021، وسرعان ما صعد في صفوفه، ليصبح في 2024 عضواً في الحكومة الأولى برئاسة عزيز أخنوش، حيث تولى منصباً ثانوياً في الشؤون الاقتصادية. تعيينه وزيراً للصحة كان مفاجئاً، إذ لم يكن لديه خلفية طبية، خلافاً لآيت طالب الذي كان أستاذاً جامعياً وجراحاً. هذا الاختيار أثار تساؤلات: هل هو رهان على "عقلية الأعمال" لإنقاذ قطاع يعاني من عجز مالي يتجاوز 10 مليارات درهم سنوياً؟ أم خطوة نحو دمج الصحة في نموذج الخصخصة الذي يدعو إليه البعض من الليبراليين؟في خطابه الأول كوزير، أكد التهراوي التزامه بـ"ثورة إصلاحية" مستوحاة من توجيهات الملك محمد السادس، خاصة في مجال تعميم التغطية الصحية (AMO). وعد بزيادة ميزانية الصحة بنسبة 20% في 2025، وتشغيل 5000 طبيب وممرض جديد، وتجديد 30% من الأجهزة الطبية القديمة. كانت هذه الوعود تبدو مشجعة في سياق يعاني فيه المغاربة من أزمة صحية مزمنة، حيث يصل متوسط الانتظار لعملية جراحية إلى 6 أشهر في بعض المناطق، وتغطي الأسرّة الاستشفائية أقل من 1.5 سرير لكل 1000 نسمة، مقارنة بمتوسط عالمي يقارب 3.معهد باستور المغرب: الركيزة التاريخية والشائعات الحديثة حول الخصخصةمعهد باستور المغرب، الذي تأسس في الدار البيضاء عام 1919 كفرع للمعهد الفرنسي الشهير، يُعد أحد أعمدة النظام الصحي المغربي. يركز على البحث في الأحياء الدقيقة، إنتاج اللقاحات، ومكافحة الأوبئة مثل السل، الإيبولا، والإنفلونزا. كمؤسسة عامة ذات استقلال مالي، تابع إدارياً لوزارة الصحة، ساهم المعهد في حملات التلقيح الوطنية، وأثناء كورونا، كان من بين الثلاثة المؤسسات الوحيدة المخولة للتحاليل الجينية. ميزانيته السنوية، التي تصل إلى 200 مليون درهم، تأتي من الدعم الحكومي والشراكات الدولية، بما في ذلك معهد باستور الفرنسي.مع تعيين التهراوي، برزت شائعات عن "خطة سرية" لبيع المعهد أو خصخصة أجزاء منه إلى شركة خاصة، ربما مرتبطة بمجموعات استثمارية فرنسية أو مغربية كبرى. هذه الشائعات لم تكن مجرد همسات على وسائل التواصل؛ فقد انتشرت في تغريدات ومنشورات على إكس (تويتر سابقاً)، حيث يصف بعض المستخدمين المعهد بأنه "آخر حصن عام" أمام سيطرة القطاع الخاص على الصحة. على سبيل المثال، في سبتمبر 2025، نشر أحد الناشطين تغريدة تقول: "راه بزاف ديال الناس يعتقدون ان معهد باستور المغرب.. مؤسسة خاصة.. ليس كذلك.. هو مؤسسة عمومية مغربية"، مشدداً على أهمية الحفاظ عليه.التهراوي نفى هذه الادعاءات في جلسة برلمانية في يوليو 2025، قائلاً إن "أي شراكة مع القطاع الخاص ستكون لتعزيز الإنتاج، لا للبيع". لكن النقاد يرون في ذلك "انزلاقاً" نحو الخصخصة التدريجية، مستشهدين بتاريخ المغرب في بيع الأصول العامة منذ التسعينيات، كما حدث في قطاعي الكهرباء والمياه. في تقرير لـ"هسبريس" في يناير 2025، أفاد الوزير بأن المعهد سيستفيد من "شراكات استراتيجية" لإنشاء وحدة إنتاج لقاحات جديدة، بقيمة 500 مليون درهم، مع مشاركة شركات خاصة. هذا أثار مخاوف من أن تتحول الشراكات إلى سيطرة، خاصة مع خلفية التهراوي في الأعمال، حيث يُتهم بأنه يرى الصحة كـ"مشروع استثماري" لا كخدمة عامة.في الواقع، يعكس هذا الجدل توتراً أوسع في المغرب بين الدولة والقطاع الخاص. منذ 2021، أعلنت الحكومة عن خطة لخصخصة 20% من الخدمات الصحية، لكن معهد باستور يُعتبر خطاً أحمر بسبب دوره الوطني. إذا تحققت الشائعات، قد يؤدي ذلك إلى ارتفاع تكاليف اللقاحات، وفقدان السيطرة على البحوث الاستراتيجية، مما يهدد الاستقلال الصحي للمملكة.الانزلاقات في عهد التهراوي: من الوعود إلى الاحتجاجاترغم الوعود الطموحة، سرعان ما أظهر عهد التهراوي "انزلاقات" أثارت غضباً شعبياً. أبرزها أزمة مستشفى الحسن الثاني بأكادير في سبتمبر 2025، حيث سجلت الوفيات المفاجئة بسبب نقص الأجهزة والأدوية، مما أدى إلى احتجاجات عارمة. في 16 سبتمبر، زار الوزير المستشفى، وأعلن إعفاء المدير وعدة مسؤولين في المندوبية الإقليمية والجهوية للصحة بسوس ماسة، بالإضافة إلى فسخ عقود مع شركات خاصة للنظافة والحراسة، التي اتهمها بالتقصير واستنزاف الميزانية دون مردود. كما شكل لجنة تحقيق لفحص الوفيات، مع إحالة التقارير إلى النيابة العامة.هذا الحدث لم يكن معزولاً. في فاس، دعت فعاليات محلية في سبتمبر 2025 إلى زيارة مفاجئة للمستشفيات، مشيرة إلى تدهور الخدمات. وفي الناظور، أعلن التهراوي تعزيز المستشفى الحسني بـ10 أطباء عامين و50 متخصصاً، وتزويده بأجهزة حديثة، لكن النقاد يرون في الإعفاءات "ردود فعل متأخرة" لا تعالج الجذور. كما أثارت خطة 2025، التي تضمن تشغيل مؤسسات جديدة بـ2100 سرير، تساؤلات حول مصدر التمويل، مع شكوك في أنها ستعتمد على شراكات خاصة ترفع التكاليف على المواطنين.أخرى من الانزلاقات هي الاعتماد المتزايد على العمالة الأجنبية. في فبراير 2025، أثارت مجموعة "أكديطال"، التي تمتلك 18 مصحة خاصة (20% من الأسرّة الخاصة في المغرب)، ضجة بطلب 800 ممرضة مصرية برواتب 1000 دولار شهرياً، رغم توفر كفاءات مغربية. يُتهم التهراوي هنا بتسهيل "الاستيراد" للقطاع الخاص، مما يفاقم البطالة بين الشباب المغربي. كذلك، في يوليو 2025، أدخل قراراً بتسريع انتقال التجمعات الصحية إلى "شركة الصحة القابضة"، مما يُرى كخطوة نحو الخصخصة، مع هدف اكتمال الجاهزية بحلول 2026.هذه الانزلاقات ليست فردية؛ إنها جزء من سياسة حكومية أوسع. منذ التسعينيات، خصخص المغرب قطاعات مثل البريد والنقل، وفي الصحة، أدت الخصخصة إلى ارتفاع الأسعار، كما حدث في المستشفيات الخاصة حيث يصل سعر عملية القلب إلى 20 ألف درهم. ينتقد الخبراء، مثل الدكتور سيدي محمد العمراني، أن نهج التهراوي "يحول الصحة من حق إلى سلعة"، مشيرين إلى أن 40% من المغاربة لا يزالون خارج التغطية الصحية الكاملة.السياق التاريخي: الخصخصة في الصحة المغربية.. دروس من الماضيتعود جذور الخصخصة في المغرب إلى برامج التعديل الهيكلي في الثمانينيات، تحت ضغط البنك الدولي والصندوق النقدي. في الصحة، بدأت في 1993 ببيع شركات الأدوية، وتسارعت في 2010 مع قانون 34-09 الذي سمح بشركات مختلطة. نجحت في زيادة الاستثمارات، لكنها أدت إلى فجوة: القطاع الخاص يغطي 60% من الخدمات في المدن، بينما الريف يعتمد على العام المتداعي. في 2015، كشفت صور على فيسبوك عن مستشفيات قذرة، متهمة الخصخصة بالتفاقم من الفساد.في عهد آيت طالب، ركز على التلقيح (غطى 90% من السكان بكورونا)، لكن العجز استمر. التهراوي ورث هذا الإرث، لكنه أضاف لمسة "أعمالية"، كما في خطة 2025 التي تهدف إلى 500 مليار درهم استثمار، جزء منها من القطاع الخاص. النقاد يقارنون ذلك بتجربة مصر، حيث أدت الخصخصة إلى احتجاجات ممرضين في 2024.الآراء المتناقضة: بين المدافعين والمنتقدينيدافع التهراوي عن سياسته في جلسات البرلمان، قائلاً في يناير 2025: "الخصخصة ليست بيعاً، بل شراكة لتوفير موارد". يدعمه حزب التجمع، الذي يرى فيه "مصلحاً" يقلص الهدر (مثل 80 ألف موظف زائد في الوزارة). أما المنتقدون، مثل النقابة الوطنية للصحة، فيصفون عهده بـ"الانزلاق نحو الرأسمالية"، مشيرين إلى أن 70% من الوفيات في أكادير كانت بسبب نقص تمويل عام.على إكس، انقسمت الآراء: تغريدة لـ
@ChakibBendaoui
في سبتمبر 2025 تحتفي بالإعفاءات كـ"ضربة للفساد"، بينما يتهم @MAHMOUDABABOU
الوزير بتحويل الصحة إلى "akwa group"، إشارة إلى مجموعات رأسمالية.الخاتمة: نحو مستقبل صحي عادل أم مخاطر الخصخصة؟بعد عام من التعيين، يظل أمين التهراوي في مرمى النقد، مع إنجازات مثل تشغيل 2100 سرير جديد، لكن الانزلاقات – من شائعات بيع باستور إلى احتجاجات أكادير – تكشف هشاشة النظام. الخصخصة قد توفر كفاءة، لكنها تهدد المساواة، خاصة في بلد يعاني من 10 ملايين مواطن خارج التغطية. يحتاج المغرب إلى توازن: شراكات تحافظ على السيطرة العامة. إذا استمر النهج الحالي، قد يصبح التهراوي رمزاً للإصلاح أو الفشل، لكن التاريخ يعلمنا أن الصحة ليست سلعة، بل حق دستوري. هل سينجح في إنقاذ القطاع، أم سيزيد من الفجوات؟ الإجابة في الشهور القادمة.