توقيف إمام مسجد بالقنيطرة بعد رسالة مثيرة للجدل إلى طوطو

حين تتحول كلمة من محراب المسجد إلى قضية رأي عام

مقدمة

في مدينة القنيطرة، حيث تختلط أصوات البحر مع صخب المدينة، انفجرت قبل أيام قضية شغلت الرأي العام المحلي وأثارت جدلاً واسعاً حول علاقة الدين بالفن، وحدود حرية التعبير داخل المساجد وخارجها، ومدى تقبّل السلطات لصوت يخالف توجهاتها. القضية تتعلق بإمام مسجد الغفران بحي الوفاء، الدكتور مصطفى قرطاح، الذي وجد نفسه فجأة خارج محراب المسجد وممنوعاً من اعتلاء المنبر، بعد أن وجّه رسالة إلى مغني الراب المثير للجدل المعروف بلقب طوطو. هذه الرسالة، التي لم تكن في ظاهرها سوى تعبير عن موقف شخصي وقراءة نقدية لواقع الفن والجماهيرية في المغرب، تحولت إلى الشرارة التي أشعلت قرار توقيفه، وأعادت إلى السطح أسئلة قديمة حول من يحق له الكلام، ومن يُمنع من الكلام، وأي الأصوات يُحتفى بها وأيها يُقصى من الساحة.

عرض

القصة بدأت حين عبّر الإمام في رسالة عن دهشته من المكانة التي بات يحظى بها طوطو، الذي يُستدعى إلى المهرجانات الكبرى، ويكرّم ويُفتح له المجال ليخاطب آلاف الشباب، بينما يُضيَّق على الخطباء الذين يتحدثون من فوق المنابر بلباس تقليدي وجلابيب بيضاء، معتبرًا أن هناك مفارقة عجيبة بين من يُعطى الميكروفون ومن يُسحب منه. الرسالة بدت في صياغتها أقرب إلى النقد الاجتماعي منها إلى العداء، لكنها حملت في طياتها جرأة غير مألوفة من إمام مسجد اعتاد أن يزن كلماته بميزان دقيق. وبسرعة، وصل صدى الرسالة إلى وسائل الإعلام ومنصات التواصل الاجتماعي، لينتشر النقاش حولها كالنار في الهشيم، وتتصاعد ردود الأفعال ما بين مؤيد يرى أن الإمام مارس حقه الطبيعي في التعبير، ومعارض يعتبر أن المسجد ليس مكاناً لمهاجمة الفنانين أو نقد السياسات الثقافية.

قرار وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية جاء صاعقاً لكثير من المصلين، فقد تم توقيف الإمام عن الخطابة والإمامة، وهو ما يعني في نظر الكثيرين تجريده من صوته ومن رسالته التي اعتاد أن يوصلها عبر خطبة الجمعة. بعض المصادر ربطت القرار مباشرة بالرسالة الموجهة لطوطو، فيما ذهب آخرون إلى أن السبب الحقيقي أعمق من ذلك، ويتعلق بمواقف سابقة أبدى فيها الإمام آراءً حول قضايا كبرى مثل العدوان على غزة أو الانحرافات الأخلاقية في المهرجانات الفنية. في كل الأحوال، بدا واضحاً أن القرار لم يكن مجرد إجراء إداري عادي، بل رسالة قوية تفيد بأن سقف الكلام المسموح به محدود، وأن تجاوز الخطوط المرسومة يمكن أن يؤدي إلى الإبعاد عن المنبر مهما كانت مكانة المتحدث أو علمه.

الجمهور الذي تابع القضية انقسم بدوره إلى فئات متعددة، فهناك من رأى أن الإمام تجاوز حدوده عندما خاطب فناناً شعبياً بلغة فيها تلميح إلى المقارنة بين مكانة الدين والفن، معتبرين أن في ذلك نوعاً من التلميح السياسي الذي لا يجوز من داخل مؤسسة دينية رسمية. وهناك من اعتبر أن ما قاله الإمام صرخة صادقة تعبّر عن حالة من التناقض يعيشها المجتمع المغربي، حيث يُعطى الضوء الأخضر لثقافة البذخ والاستعراض، بينما تُخنق أصوات تدعو إلى القيم والاعتدال والوعي. وبين هؤلاء وأولئك، وقف فريق ثالث يراقب بقلق، إذ رأى في الحادثة دليلاً جديداً على أن المغرب يسير نحو تضييق أكبر على حرية الخطباء والدعاة، في وقت كان الناس ينتظرون فيه توسيع مساحة التعبير وإعطاء الكلمة لكل من يساهم في النقاش العمومي.

القضية، في جوهرها، ليست مجرد خلاف بين إمام وفنان، بل هي انعكاس لصراع أعمق بين رؤيتين للمجتمع. رؤية تعتبر أن الدين يجب أن يبقى في الزوايا الآمنة بعيداً عن السياسة والثقافة الشعبية، وأن الخطيب ينبغي أن يلتزم بخطوط مرسومة لا يتجاوزها، ورؤية أخرى ترى أن الإمام ليس مجرد موظف يؤدي صلاة الجمعة، بل هو مواطن مثقف يحق له أن يعبر عن موقفه وأن يوجه نقده لما يراه انحرافاً أو تسيباً في المجتمع. لذلك تحولت قضية قرطاح إلى قضية رأي عام، ليس لأن طوطو شخصية مثيرة للجدل فقط، بل لأن ما جرى كشف عن الحدود الدقيقة المرسومة بين الفن والدين والسياسة، وعن الكيفية التي تدير بها الدولة هذا التوازن الهش.

اللافت أن طوطو نفسه لم يعلّق كثيراً على الرسالة ولا على قرار التوقيف، ربما لأنه يدرك أن الموضوع أكبر منه، وأنه يدخل في إطار صراع رمزي بين خطابين، أحدهما مدعوم رسمياً ويحظى بالتكريم على منصات المهرجانات، والآخر يُعتبر مزعجاً عندما يتطرق إلى ملفات حساسة. لكن الشباب الذين يتابعون الراب ويعتبرون طوطو صوتاً معبّراً عن جيلهم، وجدوا في الحادثة مناسبة لإعادة طرح سؤال: لماذا يتم التعامل مع الفنان باعتباره بطلاً شعبياً بينما يُعاقب الإمام على مجرد كلمة؟ وهو سؤال يعكس بدوره شعوراً عميقاً بالتناقض بين ما يُراد للشباب أن يستهلكوه من فنون، وما يتم التضييق عليه من قيم دينية أو أخلاقية.

من جهة أخرى، أثارت القضية أيضاً نقاشاً واسعاً حول علاقة المسجد بالمجتمع المدني. فالمسجد ليس فقط مكاناً للصلاة، بل فضاء يجتمع فيه الناس ويتداولون شؤون حياتهم ويستمعون إلى من يذكّرهم بما يعتبرونه قيماً مشتركة. حين يُمنع الإمام من الكلام أو يُعزل من موقعه، يشعر كثير من المصلين بأنهم حُرموا من صوت كان يعبر عنهم، وهذا ما يفسر موجة الاستياء التي ظهرت في القنيطرة وفي مدن أخرى. البعض ذهب أبعد من ذلك، فاعتبر أن عزل الإمام بسبب رسالة إلى فنان يرمز إلى محاولة إسكات خطاب نقدي قد يزعج المسؤولين، حتى لو جاء في سياق أدبي أو اجتماعي.

هذه القضية أعادت كذلك إلى السطح سؤال الحرية: هل الإمام مواطن كامل الحقوق أم مجرد موظف؟ إذا كان مواطناً فمن حقه أن يكتب رسالة أو مقالاً أو يعبر عن رأيه، وإذا كان موظفاً مقيداً بالقوانين الإدارية، فإن خروجه عن النص يعرضه للعقوبة. وبين هذين التصورين يعيش الخطباء والدعاة حالة من القلق، إذ يدركون أن أي كلمة غير محسوبة قد تكلفهم منابرهم ووظائفهم وحتى مكانتهم الاجتماعية. وربما لهذا السبب يلجأ الكثيرون منهم إلى الصمت أو إلى تكرار خطب مكرورة لا تثير جدلاً، في حين ينتظر المصلون صوتاً صادقاً يعبر عنهم. ومع كل حادثة من هذا النوع، يزداد الشعور بأن مساحة الحرية داخل المساجد تضيق شيئاً فشيئاً.

لكن في مقابل هذا الجانب المظلم، لا بد أن نعترف أن القضية سلطت الضوء أيضاً على حاجة المجتمع إلى نقاش صريح حول الفن والدين والحرية. فربما لم يكن أحد ليتحدث بهذه الحدة عن مكانة طوطو لولا الرسالة التي وجهها الإمام، وربما لم يكن أحد ليتساءل عن حدود حرية الخطيب لولا قرار توقيفه. بمعنى أن الحادثة، رغم قسوتها على الإمام، فتحت الباب أمام حوار ضروري حول أي ثقافة نريد وأي أصوات نسمح لها بالاستمرار. وهذا الحوار، إذا أُدير بعقلانية، قد يساعد المجتمع على تجاوز حالة الانقسام بين من يرى في الفن انحرافاً ومن يراه تعبيراً مشروعاً عن الحرية.

إن قرار توقيف الإمام لم يكن مجرد خبر عابر في صفحات الجرائد، بل حدث يعكس تحولات عميقة في المجتمع المغربي. فهو يكشف عن صراع بين السلطة الدينية الرسمية التي تريد خطباً "منضبطة"، وبين أصوات داخل المجتمع ترى أن وظيفة الإمام أوسع من مجرد قراءة نصوص معدة سلفاً. وهو يعكس أيضاً خوفاً من أن يتحول المنبر إلى منصة نقد سياسي أو اجتماعي، وهو ما لا تريده الدولة في زمن تسعى فيه إلى التحكم الدقيق في الخطاب العمومي. وفي النهاية، تبقى القضية مرآة لمعضلة أوسع: كيف نوازن بين احترام المؤسسات الدينية الرسمية وحق الأفراد في التعبير الحر؟ وكيف نمنع أن يتحول الفن إلى وسيلة لتهميش قيم أخلاقية، أو أن يتحول الدين إلى وسيلة لإقصاء الفنون؟

خاتمة

الخاتمة الطبيعية لهذا النقاش أن نقر بأن المجتمع المغربي، مثل كل المجتمعات، يعيش حالة شد وجذب بين قوى مختلفة: الدولة بمؤسساتها، العلماء بخطبهم، الفنانون بأغانيهم، والجمهور بتطلعاته. كل طرف يريد أن يحتكر الصوت وأن يفرض رؤيته، لكن الحقيقة أن لا أحد يستطيع إقصاء الآخر نهائياً. فالفن سيبقى جزءاً من وجدان الشباب، والدين سيبقى حاجة أساسية في حياة الناس، والدولة ستظل تحاول تنظيم هذا التوازن بما يضمن استقرارها. أما قضية الإمام مصطفى قرطاح، فهي حلقة في هذا المسار الطويل، تذكرنا بأن الكلمة ما تزال قادرة على إحداث زلزال، وأن رسالة بسيطة إلى فنان يمكن أن تكشف عن عمق التناقضات التي يعيشها المجتمع. ربما خسر الإمام منبره، لكنه ربح قضية الرأي العام، وربما صمت اليوم عن الخطابة، لكنه أطلق نقاشاً سيظل مفتوحاً لسنوات قادمة حول معنى الحرية وحدودها، وحول مكانة الكلمة في مجتمع تتنازع فيه الأصوات والاتجاهات.

تعليقات