مجموعة مدارس أسني: بين فلسفة مدارس الريادة وغياب البعد الإنساني للأطفال القرويين

مجموعة مدارس أسني بعد زلزال الحوز: مدارس الريادة بين الشكل والجوهر

مقدمة

من يتأمل تجربة ما يسمى بمدارس الريادة في المغرب كما ظهرت في فيديوهات التغطية الإعلامية، ومنها المدرسة التي أعيد بناؤها بعد زلزال الحوز في قلب منطقة جبلية وسط الغابة، سيجد نفسه أمام صورة مركبة ومشحونة بالرموز أكثر مما قد تبدو في ظاهرها. في الفيديو يظهر أطفال صغار، أغلبهم من سكان القرى، يضعون حقائبهم على طاولات جديدة مصطفة في نظام صارم، وجوههم مترددة وخجولة، لأنهم يدخلون فضاء لم يعتادوه من قبل، فضاء المدرسة الذي سيشكل بالنسبة إليهم أول تماس مباشر مع الدولة والسلطة والمعرفة. غير أن ما يلفت النظر أكثر من حضور الأطفال هو غياب المعلم من مكانه الطبيعي، فقد وُضع مكتبه في الخلف وراء التلاميذ، فيما تتجه أنظارهم إلى الأمام حيث السبورة البيضاء، وكأن العلاقة التربوية يراد لها أن تكون مراقبة من الخلف بدل أن تكون حوارًا مباشرًا وجها لوجه. هذا التفصيل الهندسي البسيط ليس بريئًا، لأنه يعكس رؤية كاملة للتعليم، رؤية لا تنظر إلى المعلم بوصفه قائدًا يقود جماعة صغيرة من الأطفال في رحلة اكتشاف، بل كعين رقيبة تراقب انضباطهم من وراء ظهورهم، وهو ما يحوّل المدرسة من فضاء للتفاعل إلى فضاء يشبه مصنعًا أو ثكنة، حيث الانضباط هو القيمة العليا، وحيث العلاقة الإنسانية تكاد تغيب.

عرض

لكن دعونا نعود إلى السياق الأوسع. هذه المدرسة أعيد بناؤها بعد الزلزال الذي دمّر مئات القرى في الحوز ومحيطه. الدولة وعدت حينها بإعادة الإعمار بشكل سريع وبمعايير جديدة، وأطلقت على بعض هذه المؤسسات التعليمية اسم "مدارس الريادة" لتوحي بأنها تمثل قفزة نوعية نحو تعليم حديث ومتطور. غير أن اختيار الموقع وسط الغابة يثير أكثر من علامة استفهام: هل الهدف هو عزل الأطفال في فضاء بعيد عن قراهم ليبدو الأمر كأنه معسكر تعليمي؟ أم أن المكان فرضته ظروف العقار والبناء السريع دون مراعاة البعد النفسي والاجتماعي للأطفال؟ الطفل الذي يقطع مسافات طويلة في طريق وعر وسط أشجار وغابات ليصل إلى مدرسته قد لا يشعر بالدفء والانتماء، بل بالخوف والانفصال عن محيطه. المدرسة هنا تتحول إلى نقطة غريبة في جغرافية حياته اليومية، بدل أن تكون امتدادًا طبيعيًا لقريته ومجتمعه.


ثم هناك مسألة السلامة التي لا يمكن تجاهلها. من يتفحص الصور والفيديوهات يلاحظ غياب تجهيزات أساسية مثل مطافئ الحريق أو مخارج إغاثة واضحة، وهذا أمر فادح إذا علمنا أن المدرسة بنيت في منطقة عرفت كارثة طبيعية قبل فترة قصيرة، وأن الأطفال القرويين فيها يحتاجون إلى إحساس بالأمان قبل أي شيء آخر. كيف يمكن لطفل أن يتعلم الحساب والكتابة إذا كان لا يشعر أن المكان الذي يجلس فيه آمن؟ المدرسة ليست مجرد جدران جديدة مطلية بألوان زاهية، بل منظومة كاملة من الضمانات النفسية والعملية، من المقاعد المريحة إلى المرافق الصحية، ومن التجهيزات البسيطة للحوادث إلى قربها من منازل التلاميذ. غياب هذه التفاصيل الصغيرة يكشف أن البناء كان هدفه سياسيًا وإعلاميًا أكثر منه تربويًا، هدفه أن يُقال إن الدولة أنجزت، لا أن يُقال إن الأطفال تعلّموا.

أما بخصوص تصميم القسم، فإن وضع المعلم في الخلف يعكس فلسفة مقلوبة. فالتعليم في جوهره علاقة إنسانية مباشرة، لا تتحقق إلا بالنظر والابتسامة والإشارة والحوار. الطفل القروي الذي يدخل المدرسة لأول مرة يحتاج أن يرى وجه معلمه أمامه، ليشعر أن هناك من يقوده ويمسك بيده في رحلة مجهولة. المعلم ليس مجرد موظف يسجل الغياب ويراقب الانضباط، بل هو صورة الأب البديل والقدوة، وإذا غاب وجهه عن مجال نظر الطفل تحول إلى مجرد سلطة غامضة تأتي من الخلف، وهذا يزرع الخوف أكثر مما يزرع الثقة. إن العلاقة بين الطفل والمعلم تبدأ بالنظرة، بتلك اللحظة التي يرفع فيها الطفل رأسه نحو المعلم فيجد ابتسامة تطمئنه أو إيماءة تشجعه. فإذا حُرم من هذه اللحظة، فلن يكون التعلم إلا واجبًا باردا خاليا من العاطفة.

هذا النموذج الذي تروج له حكومة أخنوش تحت مسمى "مدارس الريادة" يبدو أنه متأثر بتصورات تقنية أكثر منها تربوية، تصورات ترى في الطفل عنصرًا يحتاج إلى ضبط ومراقبة أكثر مما يحتاج إلى تفاعل واحتضان. ربما أرادت الدولة أن تقول للعالم إنها تبني مدارس حديثة بعد الزلزال، لكنها لم تفكر أن الحداثة ليست في شكل الطاولات ولا في موقع السبورة، بل في روح التربية نفسها. التعليم الحديث ليس أن تعكس اتجاه المكتب أو أن تصبغ الجدران بألوان جميلة، بل أن تخلق فضاء يشعر فيه الطفل بأنه إنسان كامل، له حق في السؤال واللعب والخطأ والتجربة. إن وضع مكتب المعلم في الخلف قد يكون رمزًا لسياسة أوسع، سياسة تعتبر الطفل مشروعًا للانضباط أكثر مما تعتبره مشروعًا للحرية والاكتشاف.


لا ننسى أيضًا أن هؤلاء الأطفال جميعًا من أبناء القرى، أي من بيئة فقيرة مهمشة تعاني أصلًا من نقص الخدمات والفرص. هؤلاء الأطفال يأتون إلى المدرسة وهم يحملون في قلوبهم خوفًا من المجهول، وأملًا في مستقبل أفضل، فإذا وجدوا مدرسة باردة مغلقة وسط الغابة، فيها نظام صارم ومعلم غائب عن وجوههم، فماذا سيبقى لهم من هذا الأمل؟ المدرسة بالنسبة للطفل القروي ليست فقط مكانًا للتعلم، بل نافذته الوحيدة نحو العالم، نحو لغة جديدة وفضاء جديد. إذا لم تكن هذه النافذة مشرقة، فإنها قد تغلق في وعيه إلى الأبد. كم من طفل ترك المدرسة لأنه لم يشعر فيها بالدفء، لأن المعلم لم يبتسم له، لأن المقاعد كانت قاسية، أو لأن المسافة إلى المدرسة كانت طويلة وموحشة. هذه التفاصيل التي يتجاهلها المسؤولون هي التي تحدد في النهاية مصير التعليم في القرى.

ثم هناك البعد الرمزي لاسم "مدارس الريادة". الريادة تعني القيادة والتميز والابتكار، لكن ما نراه في الواقع هو مجرد إعادة إنتاج لنموذج تقليدي في قشرة حديثة. الريادة لا تتحقق بوضع مكتب المعلم في الخلف ولا بتغيير شكل الطاولات، بل بخلق مناهج جديدة، بفتح النقاش حول علاقة المدرسة بالقرية، بربط التعليم بالحياة اليومية للطفل. أين هي التربية البيئية مثلًا إذا كانت المدرسة وسط الغابة؟ لماذا لا تستغل هذه الطبيعة في بناء مناهج تجعل الطفل يتعلم من أشجار الغابة ومن طيورها وحيواناتها؟ لماذا لا تكون المدرسة مختبرًا حيًا يجعل من محيطها مادة تعليمية؟ لكننا بدل ذلك نرى قطيعة بين المكان والمحتوى، مدرسة محاطة بأشجار كثيفة لكنها تظل سجينة السبورة البيضاء والطاولات الجامدة.

كل هذا يقودنا إلى استنتاج أن هذه المشاريع التعليمية تبنى بعقلية البهرجة الإعلامية أكثر مما تبنى بعقلية الإصلاح الحقيقي. المسؤولون يريدون صورًا جميلة في التلفزيون، يظهر فيها أطفال بملابس نظيفة يجلسون في أقسام جديدة، ليقال إن الدولة أنجزت. لكن لا أحد يسأل: هل هؤلاء الأطفال سعداء؟ هل يشعرون بالأمان؟ هل يجدون في المدرسة امتدادًا لحياتهم أم قطيعة معها؟ هل يتعلمون شيئًا ذا معنى أم مجرد تكرار آلي لكلمات على السبورة؟ التربية ليست مسرحًا للاستعراض، بل هي بناء بطيء عميق في النفوس، يحتاج إلى صبر وإخلاص وتفكير في التفاصيل الصغيرة التي تصنع الفرق.


إن مدرسة أعيد بناؤها بعد زلزال كان يفترض أن تكون رمزًا للبعث والحياة والأمل، لكن حين ننظر إلى تفاصيلها نجد أنها قد تعيد إنتاج نفس أسباب التهميش والإحباط. وجودها وسط الغابة دون تجهيزات سلامة كافية يجعلها عرضة لمخاطر جديدة. تصميمها الذي يضع المعلم في الخلف يحرم الأطفال من العلاقة الإنسانية الأساسية التي يحتاجونها. والهوية القروية للأطفال تزيد من هشاشتهم وتجعلهم أكثر عرضة لليأس إذا لم يجدوا في المدرسة سندًا حقيقيًا. كل هذه العوامل تجعلنا نفكر: هل نحن أمام مشروع ريادة أم أمام مشروع مراقبة جديدة؟ هل نحن أمام مدرسة للمستقبل أم أمام مصنع صغير لإنتاج الانضباط؟

خاتمة

إن مستقبل التعليم في المغرب لن يُبنى بالخرسانة وحدها، بل بالحب والصدق والخيال. الطفل القروي الذي يجلس في قسمه لأول مرة لا يحتاج أن يرى ظهر معلمه ولا أن يسمع صوته من الخلف، بل يحتاج أن يرى وجهًا يطمئنه، يدًا تشير إليه وتقول له "أحسنت"، عينًا تلتقي بعينه وتقول له "أنا هنا لأجلك". هذه هي الريادة الحقيقية، ريادة الإنسان على الجماد، ريادة التربية على الشكل، ريادة الحياة على الاستعراض.

تعليقات