اختلاسات هزت الثقة في الضمان الاجتماعي المغربي
مقال: اختلاسات صندوق الضمان الاجتماعي المغربي: فضائح مالية هزت ثقة المواطنين
المقدمةيُعتبر الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي (CNSS) في المغرب أحد أهم المؤسسات العمومية التي تُعنى بحماية الطبقة العاملة، من خلال توفير التغطية الاجتماعية ضد مخاطر المرض، الأمومة، العجز، والشيخوخة. تأسس الصندوق عام 1959، ويُعدّ بمثابة صمام أمان للأجراء في القطاعات الصناعية والتجارية والمهن الحرة، حيث يعتمد على اشتراكات العمال وأرباب العمل لتمويل خدماته. ومع ذلك، شهد الصندوق على مر السنين فضائح اختلاس وتبديد للأموال العامة، أثارت جدلاً واسعاً وألقت بظلال من الشك على نزاهة التسيير وعدالة توزيع الموارد. هذا المقال يستعرض تاريخ هذه الاختلاسات، الأرقام المرتبطة بها، الأسماء المتورطة، والحكومات التي شهدت هذه الأحداث، مع تحليل للأسباب والتداعيات على المجتمع المغربي.العرضنشأة الصندوق الوطني للضمان الاجتماعيتأسس الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي بموجب ظهير شريف سنة 1959، ودخل حيز التنفيذ في أبريل 1961، بهدف حماية العمال من فقدان الدخل بسبب المرض، الأمومة، العجز، أو الشيخوخة، بالإضافة إلى صرف تعويضات عائلية ومعاشات للمتوفين عنهم. يتم تمويل الصندوق من خلال اشتراكات العمال وأرباب العمل بناءً على الأجور الشهرية، ويُودع الفوائض المالية لدى صندوق الإيداع والتدبير. على مر السنين، توسع نطاق تغطية الصندوق ليشمل قطاعات مثل الفلاحة، الصناعة التقليدية، وحتى السائقين المحترفين. لكن هذا التوسع رافقه تحديات كبيرة، من بينها سوء التسيير والفساد المالي.بداية الاختلاسات: سياق تاريخيبدأت قضايا الاختلاس المرتبطة بالصندوق الوطني للضمان الاجتماعي تظهر بشكل بارز منذ أوائل الألفية الثالثة، على الرغم من أن تقارير تشير إلى أن سوء التسيير والتبذير كانا موجودين منذ عقود. وفقاً لتقرير صادر عن الهيئة الوطنية لحماية المال العام عام 2011، تم رصد اختلاسات هائلة في عدة مؤسسات عمومية، كان من بينها الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي، حيث بلغت الأموال المختلسة حوالي 115 مليار درهم (ما يعادل حوالي 11.5 مليار دولار أمريكي بأسعار الصرف آنذاك). هذه الأرقام الصادمة أثارت غضباً شعبياً واسعاً، خصوصاً أن هذه الأموال كانت مخصصة لدعم العمال الذين يعتمدون على الصندوق لضمان استقرارهم الاجتماعي والاقتصادي.الأرقام المرتبطة بالاختلاساتوفقاً لتقارير الهيئة الوطنية لحماية المال العام، التي أُنجزت بناءً على تحقيقات لجان تقصي الحقائق البرلمانية، فإن الاختلاسات التي طالت الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي بلغت 115 مليار درهم خلال الفترة منذ عام 2000. هذا المبلغ يُعدّ الأكبر بين الاختلاسات المسجلة في المؤسسات العمومية الأخرى، مثل المكتب الشريف للفوسفاط (10 مليارات درهم)، شركة كوماناف (400 مليون درهم)، والمكتب الوطني للنقل (20 مليون درهم). لتوضيح حجم هذا المبلغ، أشارت دراسات إلى أن 115 مليار درهم كانت كافية لتوفير 2 مليون منصب شغل، بناء 22,400 مدرسة نموذجية، أو تشييد مليون و67 ألف وحدة سكنية اقتصادية. هذه الأرقام تعكس الخسائر الهائلة التي تكبدها المجتمع المغربي جراء هذه الفضيحة.الأسماء المتورطةمن الصعب الحصول على قائمة دقيقة ومحددة بالأسماء المتورطة في هذه الاختلاسات بسبب تعقيد القضايا القضائية وحساسية الموضوع. ومع ذلك، تشير تقارير إعلامية وقضائية إلى تورط 28 متهماً في قضية اختلاسات الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي، وفقاً لما ورد في جلسات محكمة الاستئناف بالدار البيضاء عام 2011. هؤلاء المتهمون، الذين كانوا في حالة سراح، واجهوا تهماً تتعلق بـ"المساهمة في تبديد أموال عامة"، لكن الأحكام القضائية التي صدرت في هذه القضية اعتُبرت مخففة للغاية، حيث حُكم على بعضهم بأربع سنوات سجناً مع وقف التنفيذ، وهو ما أثار استياءً شعبياً واسعاً.لم يتم الكشف رسمياً عن أسماء كبار المسؤولين المتورطين بشكل علني في وسائل الإعلام، ويرجع ذلك جزئياً إلى نفوذ بعض الشخصيات المتورطة وحماية النظام لهم. ومع ذلك، أشارت تقارير إلى تورط مسؤولين كبار في إدارة الصندوق، بالإضافة إلى شخصيات سياسية وبرلمانيين استفادوا من سوء التسيير والفساد المالي. هذا الغموض في كشف الأسماء ساهم في إثارة الشكوك حول شفافية التحقيقات ونزاهة الأجهزة القضائية.الحكومات التي شهدت الاختلاساتبدأت قضايا الاختلاس الكبرى في الظهور بشكل بارز خلال فترة حكومة الوزير الأول إدريس جطو (2002-2007)، التي كانت تُعرف بحكومة "التناوب"، حيث تولت الأحزاب السياسية التقليدية مسؤولية الحكم. ومع ذلك، تشير التقارير إلى أن جذور سوء التسيير تعود إلى فترات سابقة، بما في ذلك عهد حكومات السبعينيات والثمانينيات، التي شهدت غياباً للرقابة المالية الصارمة. خلال فترة حكومة عباس الفاسي (2007-2011)، بدأت لجان تقصي الحقائق البرلمانية في الكشف عن هذه الاختلاسات، لكن التحقيقات لم تؤد إلى محاسبة حقيقية للمتورطين.في عام 2011، ومع وصول حكومة عبد الإله بنكيران (حزب العدالة والتنمية) إلى السلطة، تم إعادة فتح ملف اختلاسات الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي، حيث أصدرت محكمة الاستئناف بالدار البيضاء قرارات تأجيل للنظر في القضية. ومع ذلك، لم تُسفر هذه الجلسات عن أحكام رادعة، مما زاد من الإحباط الشعبي. في عهد حكومة عزيز أخنوش (2021-الآن)، لم تُثار قضايا جديدة تتعلق بالاختلاسات في الصندوق، لكن الهجوم السيبراني الذي استهدف الصندوق عام 2025، وأدى إلى تسريب بيانات أكثر من مليوني منخرط، أثار تساؤلات حول كفاءة التسيير وحماية الأموال والبيانات.أسباب الاختلاساتيمكن إرجاع أسباب الاختلاسات إلى عدة عوامل:
- سوء التسيير: غياب الرقابة المالية الفعالة وتراكم الاختلالات الإدارية سمح للمسؤولين باستغلال الأموال العامة دون حسيب أو رقيب.
- غياب الشفافية: ضعف آليات المحاسبة والتدقيق المالي جعل من الصعب كشف الاختلاسات في وقت مبكر.
- النفوذ السياسي: تورط شخصيات سياسية وبرلمانيين في استغلال مناصبهم لتحقيق مكاسب شخصية.
- ضعف العقوبات: الأحكام القضائية المخففة، مثل الحكم بأربع سنوات مع وقف التنفيذ، شجعت على استمرار الفساد بدلاً من ردعه.
- تقرير الهيئة الوطنية لحماية المال العام، 2011
- موقع هسبريس، "تقرير يفضح بالأسماء والأرقام ناهبي ثروة المغرب"، 2011
- موقع حزب العدالة والتنمية، "قضية اختلاسات 115 مليار من الضمان الاجتماعي"، 2015
- موقع هسبريس، "قصة تبديد 115 مليار درهم من صندوق الضمان الاجتماعي"، 2020