ما السر وراء سياسة التجويع التي تفرضها إسرائيل على غزة؟

 التجويع الممنهج وأثره الفيزيولوجي والنفسي على الأطفال والمراهقين


مقدمة

إن الحديث عن سياسة التجويع ليس حديثاً عابراً أو مجرد اتهام سياسي يمكن تجاوزه بالخطابات أو بالشعارات، بل هو في جوهره حديث عن واحدة من أبشع الجرائم التي يمكن أن يمارسها الإنسان ضد أخيه الإنسان، لأنها تستهدف أضعف ما في الكائن البشري: حاجته إلى الغذاء الذي هو أصل الحياة وبقاء الجسد ونمو العقل وتوازن النفس. حين نتمعن في ما يحدث اليوم من حصار وتجويع للأطفال والنساء والمراهقين في فلسطين، ندرك أن الأمر لم يأت من فراغ، بل هو نتاج تخطيط ممنهج وعقلية تتغذى على الحقد وتستلهم شرورها من منطق إبليسي لا يعرف للرحمة معنى ولا لله حساباً. إن التجويع المقصود ليس مجرد تجويع يومي يخلق جوعى يبحثون عن لقمة، بل هو عملية طويلة المدى تهدف إلى كسر البنية الفسيولوجية للأجيال القادمة وتحويلهم إلى أجساد ضعيفة، قصيرة القامة، هشة العظام، ضعيفة المناعة، حتى إذا توفر الغذاء لاحقاً لم يعد بالإمكان إصلاح ما تهدم، لأن الجسم حين يحرم في مراحل النمو الحرجة من البروتينات والفيتامينات والمعادن الضرورية فإن ذلك يترك ندوباً لا تمحى، ويجعل من الجيل كله ضحية دائمة لسياسة اتخذت من الطعام سلاحاً للإبادة الصامتة.

عرض

العلم الحديث يفسر لنا بدقة كيف يؤثر الحرمان الغذائي على الأجساد في مراحل الطفولة والمراهقة. الطفل في سنواته الأولى يحتاج إلى نسب عالية من البروتين والكالسيوم والحديد واليود وفيتامينات أساسية مثل A و D و B12، وكل نقص في هذه العناصر ينعكس مباشرة على بنية الدماغ والجهاز العصبي وعلى الطول الكلي للعظام وعلى قوة العضلات والمناعة. الدراسات التي أجريت في مناطق شهدت مجاعات، مثل الصومال وإثيوبيا في القرن الماضي، أو على أسرى الحروب الذين تعرضوا لنقص غذائي قاس، أثبتت أن نقص الغذاء في الطفولة يؤدي إلى تقزم دائم، وفقدان القدرة على التركيز والتعلم، وزيادة معدلات الأمراض المزمنة لاحقاً مثل السكري وأمراض القلب وهشاشة العظام. وهذا ما يجعل سياسة التجويع لا تقتل في اللحظة الراهنة فقط، بل تزرع بذور موت طويل المدى يرافق الضحية طوال عمره. فالأم التي تحمل جنيناً وهي تعاني من نقص الغذاء ستنجب طفلاً ناقص الوزن، ضعيف المناعة، معرضاً أكثر للإصابة بالأمراض، وحتى لو عاش فسيظل أثر ذلك النقص محفوراً في جسده ونفسيته.

الآثار النفسية بدورها لا تقل خطورة، فالمراهق الذي ينمو وهو يشعر أن معدته فارغة كل يوم، وأن جسده ضعيف أمام أقرانه، سيحمل داخله شعوراً عميقاً بالدونية والعجز. إن الحرمان الغذائي لا يوقف فقط نمو الخلايا، بل يوقف أيضاً نمو الأحلام والطموحات. كيف يمكن لطفل أن يركز في دراسته وهو يبحث في القمامة عن كسرة خبز؟ كيف يمكن لمراهق أن يبني شخصية متوازنة وهو يعاني من التعب المزمن وقلة التركيز وضعف الجسم؟ هذه السياسة إذاً تخلق جيلاً مهزوماً قبل أن يدخل معركته في الحياة، جيل لا يستطيع أن ينهض، لأن أدوات النهوض نفسها قد سلبت منه منذ نعومة أظفاره.

إن إسرائيل، حين تختار هذه السياسة، تدرك جيداً أنها لا تواجه جيلاً حالياً فقط، بل إنها تصنع المستقبل الذي تريده: أجيالاً ضعيفة، مكبلة بالمرض والعجز، غير قادرة على المقاومة أو الإبداع أو البناء. هذه ليست حرباً عسكرية فقط، بل هي حرب بيولوجية صامتة، تستعمل الغذاء كما تستعمل القنابل، والحرمان كما تستعمل الرصاص. وما يزيد من فظاعة الأمر أن هذه السياسة تتم بوعي كامل وإصرار، وكأن المخطط لا يرى في الأطفال إلا أعداء محتملين يجب القضاء عليهم قبل أن يكبروا، فيمارس أبشع صور العقاب الجماعي التي يجرمها القانون الدولي وكل الشرائع السماوية.

من الناحية العلمية، يمكن القول إن الإنسان يمر بمراحل حرجة لا يمكن تعويض ما يفوته فيها أبداً. السنوات الخمس الأولى من حياة الطفل هي المرحلة الذهبية للنمو، حيث يبني الدماغ شبكاته العصبية بسرعة مذهلة، وتزداد خلايا العظام والعضلات بشكل متسارع. فإذا حرم الطفل في هذه المرحلة من البروتينات الحيوانية والنباتية، ومن الكالسيوم الضروري لتكلس العظام، فإن ما يفوته لن يستطيع تعويضه لاحقاً، حتى لو تناول أفضل الأطعمة بعد بلوغه. هذا يعني أن جيلاً كاملاً يتعرض اليوم للتقزم الدائم. الأمر نفسه ينطبق على المراهقة، حيث يقفز الجسم قفزته الثانية في النمو، فيطول العظم وتتضاعف الكتلة العضلية ويحتاج الجسم إلى مخزون ضخم من الطاقة والبروتين والحديد. فإذا جاع المراهق في هذه المرحلة فإن جسده سيقف عند حد قصير وضعيف، وسيعاني من الإرهاق المزمن طوال حياته. هذه الحقائق العلمية تكفي لتبيان أن ما يجري ليس ظرفاً مؤقتاً، بل عملية إبادة بيولوجية حقيقية.

لكن التجويع لا يقتصر على الجسد وحده، بل يتعداه إلى الروح والنفس. إن الجائع يصبح سريع الانفعال، قليل الصبر، لا يستطيع ضبط عواطفه، وهذا ما تؤكده الدراسات التي تربط بين نقص السكر في الدم وزيادة العدوانية أو الاكتئاب. كما أن الأطفال الجائعين يميلون إلى الانطواء، وإلى ضعف التحصيل الدراسي، ويعانون من قلة التركيز والنسيان. حين نتصور أن آلاف الأطفال والمراهقين يعيشون هذه الحالة يومياً بسبب الحصار، ندرك أن المجتمع كله يتعرض لعملية تفكيك داخلية، حيث تتحول الطفولة إلى مأساة يومية وتتحول المراهقة إلى جحيم من الحرمان.

لا يمكن أن نفسر هذه السياسة إلا بكونها تعبيراً عن عقلية مريضة بالحقد. فإسرائيل تعلم جيداً أن كل شرائع الأرض والسماء تعتبر الطعام حقاً أساسياً لا يجوز حرمان أي إنسان منه، لكنها تمضي في هذا الطريق غير آبهة بشيء. إنها عقلية فقدت أي خوف من الله، وامتلأت بروح شيطانية ترى في إيذاء الآخر لذة وانتصاراً. فالتجويع ليس وسيلة عابرة للضغط السياسي، بل هو فعل يستبطن نزعة انتقامية ورغبة في إذلال الخصم حتى في أضعف لحظاته، حين يمد يده للغذاء فلا يجده. وهكذا تتحول المائدة إلى ساحة حرب، ويصبح الخبز رصاصة بطيئة تدخل في الجسد كل يوم حتى تنهكه.

النتائج الاجتماعية لهذه السياسة كارثية كذلك، فالأسر التي تجوع لا تستطيع أن تحافظ على استقرارها. الآباء يشعرون بالعجز أمام أبنائهم، والأمهات يدخلن في حالة من اليأس والقلق الدائم على صغارهن، وينتشر العنف الأسري والمشاكل النفسية، لأن الجوع يحول البيت إلى جحيم داخلي. المجتمع كله يصبح هشاً، مليئاً بالمرضى والمعاقين جسدياً ونفسياً، عاجزاً عن التطور أو الإنتاج. وبذلك تتحقق الغاية التي يريدها المحتل: مجتمع منكسر لا يقوى على النهوض.

لقد شهد العالم عبر التاريخ نماذج مشابهة حين استعمل التجويع كسلاح، مثلما فعل النازيون في معسكرات الاعتقال، أو ما وقع في حصار لينينغراد الذي استمر أكثر من 800 يوم حيث مات مئات الآلاف من المدنيين جوعاً وبرداً، أو ما حدث في رواندا حين استعملت المجاعة لتفكيك المجتمع. لكن ما يحدث اليوم في فلسطين أشد فظاعة لأنه يتم في زمن يدّعي أنه زمن حقوق الإنسان والقوانين الدولية. ورغم أن كل التقارير الأممية تؤكد خطورة الوضع الغذائي، فإن الآلة السياسية العالمية تتواطأ بالصمت أو الاكتفاء ببيانات لا تردع ولا تمنع.

العلماء يحذرون من أن جيل الأطفال الفلسطينيين الذين يتعرضون للتجويع الممنهج اليوم سيكون جيلاً مثقلاً بالأمراض المزمنة غداً، مثل فقر الدم، وضعف النظر، وقصر القامة، وضعف المناعة، فضلاً عن الاضطرابات النفسية. وهذا يعني أن الاحتلال لا يقتل الحاضر فقط، بل يسرق المستقبل أيضاً. إنها جريمة مزدوجة: قتل بطيء للطفولة، وحرمان من الحق في غد طبيعي.

إن مواجهة هذه السياسة لا تحتاج فقط إلى تنديد سياسي، بل إلى تحرك علمي وإنساني. على المنظمات الصحية والجامعات ومراكز الأبحاث أن توثق بدقة هذه الجرائم وآثارها الفيزيولوجية والنفسية، حتى تبقى شاهداً علمياً أمام التاريخ والمحاكم الدولية. كما أن على المجتمعات أن تعي أن الجوع ليس مجرد أزمة غذاء، بل هو سلاح فتّاك يُستخدم بوعي لتدمير الإنسان.

إن الذي يقرأ تفاصيل هذه الجريمة لا يمكن إلا أن يشعر أن الحقد حين يستولي على عقل جماعة ما يجعلها أقرب إلى الشيطان منها إلى البشر. فكيف يمكن لعقل بشري سوي أن يجد متعة في حرمان طفل من حليب أو دواء؟ كيف يمكن لسياسي أن يوقع قراراً يمنع الغذاء عن النساء الحوامل أو عن المراهقين الذين يحتاجون للطعام كي يبنوا أجسادهم؟ هذه الأفعال لا تفسير لها إلا غياب الوازع الإنساني والديني، وحضور عقلية ملوثة بوساوس الشيطان.

ولعل أخطر ما في هذه السياسة أنها تصنع جرحاً لا يندمل في ذاكرة الأجيال، فالأطفال الذين يجوعون اليوم سيكبرون حاملين ذكرى الجوع والحرمان، وسيكبر معهم شعور بالظلم والغضب. أي مستقبل يمكن أن يكون آمناً إذا كان مبنياً على تجويع الصغار؟ إن هذه السياسة لا تصنع إلا مزيداً من الكراهية والاضطراب وعدم الاستقرار، لأن من يجوع اليوم لن ينسى غداً من تسبب في جوعه.

إننا إذ نتأمل في هذه الحقائق ندرك أن التجويع ليس مجرد خطأ أو ظرف استثنائي، بل هو سياسة مقصودة تنبني على عقلية لا ترى في الإنسان قيمة، وتتعامل مع الآخر ككائن يجب إلغاؤه. إنها سياسة إبادة بطيئة تمارس بدم بارد، وتكشف عن قلوب غلفت بالكره حتى صارت لا تخاف الله ولا ترعى حرمة لطفل أو لامرأة أو لشيخ.

خاتمة

وهكذا يمكن القول إن سياسة التجويع هي في جوهرها جريمة ضد الإنسانية بكل المقاييس، لأنها لا تقتل بالسلاح بل بالجوع، ولا تستهدف المقاتلين بل الأطفال والنساء، ولا تؤذي الحاضر فقط بل تدمر المستقبل. إنها سياسة تضع بصمة الشيطان على جبين من يمارسها، وتجعل من الضحايا شهوداً أبديين على بشاعة الظلم. وإن بقاء العالم صامتاً أمامها إنما يزيد من فظاعتها، ويجعل الإنسانية كلها شريكة في الجريمة ما لم تتحرك لوقفها.

تعليقات