قضية يارا غامبيراسيو: الجريمة التي هزت إيطاليا
قضية يارا غامبيراسيو: الجريمة التي هزت إيطاليا1. خلفية يارا: حياة الفتاة الصغيرةيارا غامبيراسيو (Yara Gambirasio) وُلدت في 21 مايو 1997 في بلدة بريمباتي دي سوبرا، وهي بلدة صغيرة هادئة في إقليم لومباردي بشمال إيطاليا، تشتهر بمجتمعها المترابط وأمانها النسبي. كانت يارا، البالغة من العمر 13 عامًا، فتاة موهوبة ونشيطة، تتمتع بشخصية مرحة وحيوية. كانت شغوفة بالجمباز الإيقاعي، وهو نوع من الرياضة يجمع بين الرقص والحركات الإيقاعية باستخدام أدوات مثل الحبال والكرات. حققت يارا نجاحات إقليمية في هذا المجال، وكانت تُعتبر واعدة بين زملائها في المركز الرياضي المحلي. عاشت مع والديها، فولفيو وماورا، وثلاثة أشقاء في منزل عائلي متواضع، حيث كانت العائلة معروفة بترابطها وقيمها المحافظة.كانت يارا طالبة مجتهدة، تحب الموسيقى والتواصل مع أصدقائها، وكانت تُعرف بابتسامتها المميزة وروحها الإيجابية. في بلدة صغيرة مثل بريمباتي، حيث يعرف الجميع بعضهم بعضًا، كان من الطبيعي أن تتحرك يارا بحرية نسبية بين منزلها والمركز الرياضي، الذي يبعد حوالي 700 متر فقط عن منزلها.2. يوم الاختفاء: 26 نوفمبر 2010في مساء يوم الجمعة، 26 نوفمبر 2010، خرجت يارا من منزلها حوالي الساعة 5:15 مساءً للتوجه إلى المركز الرياضي في بريمباتي دي سوبرا. كانت ترتدي زي الجمباز الأسود، جاكيت أبيض، وحذاء رياضي، وحملت معها جهاز ستيريو صغير لتسليمه إلى مدربتها. وصلت إلى المركز حوالي الساعة 5:30 مساءً، وشاركت في تدريبها المعتاد. تبادلت رسائل نصية مع صديقتها حتى الساعة 6:44 مساءً، وكانت آخر رسالة تُظهر أنها كانت لا تزال في المركز. بعد ذلك، اختفت يارا فجأة دون أي أثر.عندما لم تعد يارا إلى المنزل بحلول الساعة 7:00 مساءً، شعرت والدتها ماورا بالقلق، حيث كانت يارا معروفة بانتظامها وعادة عودتها مباشرة بعد التدريب. اتصل والداها بالمركز الرياضي، لكن المدربة أكدت أن يارا غادرت بالفعل. أبلغت العائلة الشرطة فورًا، وبدأت عمليات البحث في تلك الليلة الباردة. شارك السكان المحليون والشرطة في تفتيش الشوارع والمناطق المحيطة، لكن لم يكن هناك أي دليل واضح. كاميرات المراقبة في المركز الرياضي كانت معطلة، مما جعل التحقيق في الساعات الأولى صعبًا للغاية.3. البحث عن يارا: أسابيع من القلق أصبح اختفاء يارا حديث إيطاليا. نظمت الشرطة عمليات بحث واسعة النطاق، شملت الغابات، الأنهار، والمباني المهجورة في المنطقة. شارك المتطوعون، بما في ذلك أصدقاء العائلة وأعضاء المجتمع، في جهود البحث. تم توزيع منشورات تحمل صورة يارا، وتناولت القضية برامج تلفزيونية شهيرة مثل Chi l’ha visto?، وهو برنامج إيطالي يركز على الأشخاص المفقودين. رغم كل هذه الجهود، لم تظهر أي أدلة تشير إلى مكان يارا.خلال هذه الفترة، بدأت الشرطة في التحقيق مع أشخاص مقربين من يارا، بما في ذلك زملاؤها في المركز الرياضي، المدربين، وحتى أفراد العائلة، لاستبعاد أي احتمال. تم تحليل سجلات هاتف يارا، التي أظهرت أن آخر إشارة لهاتفها كانت بالقرب من المركز الرياضي. كما تم فحص إشارات الهواتف المحمولة في المنطقة لتحديد من كان موجودًا في تلك اللحظة، لكن الأدلة الأولية لم تكن كافية لتحديد مشتبه به.4. اكتشاف الجثة: صدمة المجتمعبعد ثلاثة أشهر بالضبط، في 26 فبراير 2011، عثر شخص يُدعى كارلو لوكاتيلي، وهو هاوٍ للطائرات الورقية، على جثة يارا في حقل مفتوح في بلدة شيجنولو ديزولا، على بعد حوالي 10 كيلومترات من بريمباتي. كانت الجثة في حالة تحلل متقدمة بسبب التعرض للعوامل الجوية في الشتاء القارس. أظهرت الفحوصات أن يارا تعرضت لهجوم عنيف، مع وجود إصابات في الرأس والصدر، وبعض الجروح التي تشير إلى مقاومتها لمهاجمها. السبب الرسمي للوفاة كان التجمد (Hypothermia)، مما يعني أنها تركت في الحقل وهي على قيد الحياة لفترة قبل وفاتها.هذا الاكتشاف هز المجتمع المحلي والوطني. في بلدة صغيرة مثل بريمباتي، حيث نادرًا ما تحدث جرائم عنيفة، كان من الصعب تصديق أن مثل هذه الجريمة يمكن أن تحدث. تحولت القضية إلى رمز لفقدان الأمان، وأصبحت عائلة يارا رمزًا للألم والصمود.5. التحقيق: أكبر فحص DNA في تاريخ إيطالياقادت المدعية العامة ليتيزيا روجيري، وهي شخصية قانونية معروفة بحزمها، تحقيقًا ضخمًا للعثور على الجاني. كان هذا التحقيق واحدًا من أكثر التحقيقات تكلفة في تاريخ إيطاليا، حيث شمل:أدلة الـDNA: عُثر على آثار DNA لشخص مجهول على قفازات يارا وسروالها. قررت الشرطة إجراء فحص DNA جماعي غير مسبوق، حيث تم جمع عينات من أكثر من 22,000 شخص في المنطقة، بما في ذلك رجال من مختلف الأعمار في بريمباتي والمناطق المجاورة. كان هذا الفحص بمثابة إنجاز علمي وقانوني، حيث استخدمت تقنيات متقدمة مثل تحليل الحمض النووي الميتوكوندري.المشتبه بهم الأوائل: في البداية، تم توجيه الشبهات إلى عامل بناء مغربي يُدعى محمد فكري، بناءً على ترجمة خاطئة لمكالمة هاتفية تم اعتراضها. لكن ثبتت براءته بعد أيام، مما أثار انتقادات حول التعامل المتسرع مع الأدلة.تحليل الهواتف: تم تحليل إشارات الهواتف المحمولة في المنطقة، مما ساعد في تضييق نطاق المشتبه بهم. كما تم فحص كاميرات المراقبة في المناطق المجاورة، لكن نقص الكاميرات النشطة في المركز الرياضي جعل الأمور أكثر تعقيدًا.6. كشف الجاني: ماسيمو جوزيبي بوسيتيبعد سنوات من التحقيقات، قادت أدلة الـDNA إلى كشف مذهل. تبين أن الـDNA ينتمي إلى شخص لم يكن مدرجًا في قاعدة بيانات الشرطة، لكنه كان مرتبطًا بشخص يُدعى جوزيبي غويرينوني، سائق حافلة توفي عام 1999. من خلال تحليل شجرة عائلته، اكتشف المحققون أن غويرينوني كان لديه علاقة خارج إطار الزواج أدت إلى ولادة ماسيمو جوزيبي بوسيتي، وهو نجار يبلغ من العمر 44 عامًا، متزوج وأب لثلاثة أطفال، يعيش في بلدة مابيلو القريبة.من هو بوسيتي؟ كان بوسيتي شخصًا عاديًا ظاهريًا، يعمل في مواقع البناء ويعيش حياة هادئة. لم يكن لديه سجل جنائي، ولم تكن هناك أي صلة مباشرة بينه وبين يارا، مما جعل القضية أكثر غموضًا.القبض عليه: في يونيو 2014، تم القبض على بوسيتي بعد عملية مراقبة دقيقة. تم جمع عينة DNA منه بشكل غير مباشر (من خلال فحص الكحول أثناء القيادة)، وتأكد أنها تتطابق مع الـDNA الموجود على ملابس يارا بنسبة 99.9999%.7. المحاكمة: معركة قانونيةبدأت محاكمة بوسيتي في يوليو 2015 في محكمة بيرغامو. دافع عن نفسه بشدة، مدعيًا أنه بريء وأن الـDNA قد يكون نتيجة تلوث أو خطأ في المختبر. حاول محاموه التشكيك في إجراءات جمع الأدلة، لكن الخبراء أكدوا أن العينات تم التعامل معها وفقًا لأعلى المعايير العلمية. في يوليو 2016، أُدين بوسيتي بتهمة القتل العمد وحُكم عليه بالسجن المؤبد. تم تأييد الحكم في الاستئناف عام 2017، وأخيرًا من المحكمة العليا الإيطالية في أكتوبر 2018.لم يعترف بوسيتي أبدًا بالجريمة، ولا تزال عائلته، بما في ذلك زوجته ووالدته، تدافع عن براءته. لكن الأدلة العلمية، بما في ذلك الـDNA وتحليلات الهاتف المحمول، كانت قاطعة.8. التأثير الاجتماعي والإعلاميالمجتمع المحلي: أدت القضية إلى فقدان الثقة في الأمان داخل بريمباتي. بدأ الآباء يرافقون أطفالهم إلى التدريبات والمدارس، وأصبحت القضية رمزًا للخوف من "الغريب القريب".الإعلام: تناولت القضية تغطية إعلامية مكثفة، مما ساعد في نشر الوعي ولكنه أيضًا زاد من الضغط على العائلة والمحققين. برامج مثل Chi l’ha visto? لعبت دورًا في إبقاء القضية حية في أذهان الناس.الفيلم والوثائقي: أُنتج فيلم Yara (2021) على نتفليكس، يركز على جهود المدعية العامة ليتيزيا روجيري. كما أُصدر وثائقي بعنوان Beyond Reasonable Doubt (2024)، يناقش تفاصيل القضية والجدل حول أدلة الـDNA.9. الجوانب النفسيةعانت عائلة يارا من ألم نفسي هائل. والدتها ماورا تحدثت لاحقًا عن شعورها بالذنب للسماح ليارا بالذهاب بمفردها، رغم أن ذلك كان أمرًا طبيعيًا في بلدتهم. أما والدها فولفيو، فكان أكثر صمتًا، لكنه أعرب عن رغبته في العدالة. القضية تركت أثرًا عميقًا على أشقاء يارا، الذين فقدوا أختهم الكبرى.10. أسئلة مفتوحةالدافع: لم يتم تحديد دافع واضح للجريمة. بعض النظريات تشير إلى أنها كانت جريمة عشوائية، بينما يعتقد آخرون أن بوسيتي قد يكون لاحق يارا لأسباب شخصية غير معروفة.اللغز المكاني: لا يزال من غير الواضح كيف انتقلت يارا من المركز الرياضي إلى الحقل، حيث لم يُبلغ أي شاهد عن رؤيتها أو سيارة مشبوهة.الخاتمةقضية يارا غامبيراسيو هي واحدة من أكثر القضايا الجنائية تأثيرًا في تاريخ إيطاليا الحديث. لم تكن مجرد جريمة، بل قصة عن فقدان براءة مجتمع، وقوة العلم في كشف الحقيقة، وألم عائلة لم تتعافَ بعد.