من قرية عين الشعير إلى قصر الصخيرات: مأساة أوفقير
من قرية متواضعة إلى أروقة الجيش الفرنسيوُلد محمد أوفقير في 14 مايو 1920 (بعض المصادر تقول 16 أغسطس) في قرية عين الشعير، وهي قرية صغيرة بالقرب من بوذنيب في جنوب شرق المغرب، لعائلة من أصول جزائرية ترجع إلى سيدي بلعباس. نشأ في بيئة متواضعة، حيث كان المغرب تحت الاحتلال الفرنسي. لم يكن لدى أوفقير تعليم أكاديمي متقدم، لكنه عوّض ذلك بطموح هائل وذكاء فطري. في سن مبكرة، انضم إلى الجيش الفرنسي، حيث بدأت رحلته العسكرية التي ستشكل مسار حياته.خلال الحرب العالمية الثانية (1939-1945)، شارك أوفقير في معارك إيطاليا ضمن القوات الاستعمارية الفرنسية. في معركة سيينا عام 1944، أظهر شجاعة استثنائية، مما أكسبه ميدالية "النجمة الفضية" (Silver Star) من الأمريكيين، ووسام "شيفلاليانو" الإيطالي. هذه الأوسمة عززت سمعته كضابط شجاع وجريء. بعد الحرب، أُرسل إلى فيتنام (1947-1949) لمحاربة حركة الفيت مين، حيث أُطلق عليه لقب "الأسد" لشجاعته في المعارك. بحلول عام 1949، أصبح كابتنًا في الجيش الفرنسي ونال وسام "شيفليه دي لا ليجيون دونور"، وهو أعلى تكريم عسكري فرنسي.أثناء خدمته، عمل أوفقير في "مصلحة التوثيق الخارجي ومحاربة التجسس" الفرنسية، وهي وكالة استخباراتية علّمته فنون التجسس، التحقيق، وإدارة الأزمات. كان مساعدًا لمقيمين فرنسيين بارزين مثل رايموند دوفال وأوغسطين غيوم، مما منحه خبرة إدارية وسياسية. في عام 1953، لعب دورًا في دعم عودة الملك محمد الخامس من المنفى في مدغشقر، بعد أن أُجبر على التنازل عن العرش لصالح محمد بن عرفة. هذا الدور جعله قريبًا من القصر الملكي، وبعد استقلال المغرب في 1956، أصبح أوفقير مرافقًا شخصيًا للملك محمد الخامس، ثم رئيسًا للأمن الوطني في 1960 بعمر 40 عامًا.صعود السلطة: اليد اليمنى للحسن الثانيبعد وفاة محمد الخامس في 1961، تولى ابنه الحسن الثاني العرش. كان أوفقير، الذي أثبت ولاءه للقصر، الخيار الطبيعي ليكون الرجل الثاني في الدولة. عُيّن وزيرًا للداخلية في 1967، ثم وزيرًا للدفاع في 1969، مما جعله يسيطر على أجهزة الأمن، الشرطة، والجيش. في هذه الفترة، التي عُرفت لاحقًا بـ"سنوات الرصاص" (الستينيات والسبعينيات)، أصبح أوفقير رمزًا للقمع الوحشي في المغرب.كان المغرب يعاني من اضطرابات سياسية واقتصادية بعد الاستقلال. الحركات اليسارية، النقابات، والاحتجاجات الشعبية كانت تهدد استقرار النظام الملكي. أوفقير، بولائه الأعمى للحسن الثاني، تولى مهمة "تطهير" البلاد من المعارضين. استخدم أساليب قاسية: الاعتقال الجماعي، التعذيب، الإعدامات، والاختفاء القسري. في شمال المغرب، قاد حملة قمع ضد ثورة الريف (1958-1959)، حيث قُتل مئات الثوار، وهُجّر الآلاف، وحُرقت المحاصيل. أطلق عليه سكان المنطقة لقب "جزار الريف".في عام 1965، شهدت الدار البيضاء مظاهرات عارمة بسبب الأزمة الاقتصادية وارتفاع الأسعار. أمر الحسن الثاني أوفقير بإعادة النظام "بأي ثمن". في ثلاثة أيام، قُتل مئات المتظاهرين، واعتُقل الآلاف. هذه الحادثة عززت صورة أوفقير كـ"الجلاد" في أذهان الشعب، حيث لم يُظهر أي رحمة.اختطاف بن بركة: الفضيحة الدوليةأبرز جرائم أوفقير كانت اختطاف المهدي بن بركة، زعيم الاتحاد الوطني للقوات الشعبية، في 29 أكتوبر 1965 في باريس. بن بركة كان معارضًا بارزًا للحسن الثاني، وكان يعيش في المنفى ينظم المعارضة من الخارج. طلب أوفقير مساعدة الموساد الإسرائيلي وشرطيين فرنسيين متعاونين. اختُطف بن بركة أمام مقهى في باريس، ونُقل إلى فيلا خارج المدينة. هناك، يُعتقد أنه عُذّب وقتل، وربما أُذيب جسده في الحمض لإخفاء الجريمة. القضية أثارت فضيحة دولية، وأدت إلى توتر العلاقات بين المغرب وفرنسا. حُكم على أوفقير غيابيًا بالسجن المؤبد في فرنسا، لكنه ظل محميًا في المغرب.هذه الحادثة كشفت عن مدى نفوذ أوفقير وعلاقاته الدولية، لكنها زرعت بذور الشك لدى الحسن الثاني. بدأ الملك يتساءل: هل يمكن أن يتحول هذا الرجل المخلص إلى تهديد؟الحياة الشخصية: العاشق الرومانسيرغم سمعته القاسية، كان أوفقير عاشقًا مخلصًا لزوجته فاطمة الشنا. التقيا في الأربعينيات، وتزوجا في 1950 بعد قصة حب معقدة. اضطرا للانفصال بسبب ضغوط عائلية، حيث تزوج كل منهما من شخص آخر لفترة، لكنهما عادا وتزوجا في النهاية. أنجبا ستة أبناء: مليكة، رؤوف، مريم، ميمونة، رقية، وعبد اللطيف. كانت فاطمة، وفق مذكراتها، الملاذ الوحيد لأوفقير. وصفته بأنه "حنون وشجاع"، وكان يشاركها تفاصيل حياته اليومية، بعيدًا عن وجهه السياسي القاسي. كان يحب الفن والموسيقى، ويحرص على قضاء وقت مع عائلته، مما يرسم صورة متناقضة: جلاد في العمل، عاشق في البيت.انقلاب الصخيرات: بداية النهايةفي 10 يوليو 1971، وقع انقلاب الصخيرات، وهو أول تهديد حقيقي لعرش الحسن الثاني. قاد الجنرال محمد أعبابو والكولونيل محمد المدبوح هجومًا على قصر الصخيرات أثناء احتفال بعيد ميلاد الملك. هاجم 1400 جندي القصر، وقتلوا عشرات الحراس والمدعوين. لكن الحسن الثاني نجا بأعجوبة، مختبئًا في حمام القصر. أوفقير قاد قمع الانقلاب بسرعة وحسم، وأُعدم 10 من قادته، بينهم أعبابو والمدبوح.رغم نجاحه في إنقاذ الملك، بدأت الشكوك تحوم حول أوفقير. بعض المقربين من الحسن الثاني اقترحوا أنه ربما كان على علم بالانقلاب ولم يحذر الملك. هذه الشكوك زادت من التوتر بين الرجلين، رغم أن أوفقير ظل يتمتع بثقة الملك ظاهريًا.انقلاب الطائرات: النهاية الدراميةفي 16 أغسطس 1972، وقعت "عملية بوراق إف-5"، وهي المحاولة الانقلابية الثانية. أثناء عودة الحسن الثاني من فرنسا على متن طائرة بوينغ 727، هاجمتها أربع طائرات إف-5 من قاعدة القنيطرة، بقيادة محمد أمقران والوافي كويرة. أصيبت الطائرة، لكن الطيار محمد قباج خدع المهاجمين عبر الراديو معلنًا "موت الملك"، فانسحبوا. هبطت الطائرة بسلام في الرباط.التحقيقات كشفت أن أوفقير كان العقل المدبر. في تلك الليلة، استُدعي إلى قصر الصخيرات. في الساعة 11 مساءً، أُعلن رسميًا أنه "انتحر" بإطلاق خمس رصاصات على نفسه. الرواية الرسمية أثارت السخرية، إذ كيف يمكن لشخص أن "ينتحر" بخمس رصاصات؟ شهادات عائلته، خصوصًا مليكة، أكدت أن جثته كانت مثقوبة برصاصات متعددة، مما يشير إلى إعدام. مات أوفقير في عيد ميلاده، عن 52 عامًا، في نهاية مأساوية تليق بمسيرته المثيرة للجدل.مصير العائلة: سجن الصحراءبعد يومين من مقتله، في 18 أغسطس 1972، اختُطفت فاطمة وأبناؤها الستة وابن أخ و19 شخصًا من أقاربهم من منزلهم في الرباط. نُقلوا إلى سجون سرية في الصحراء، مثل تافرغت وبركان. قضوا ما بين 18 و20 عامًا في ظروف لا إنسانية: زنازين صغيرة، جوع، تعذيب نفسي وبدني، وانعدام التواصل مع العالم الخارجي. في 1986، تمكنت مليكة وثلاثة من إخوتها من الهروب عبر نفق حفرته بأظافرها، لكن أُلقي القبض عليهم في طنجة بعد خمسة أيام. بفضل ضغوط دولية، أُطلق سراحهم تدريجيًا بين 1991 و1996.كتبت مليكة كتاب "حياة مسروقة" (1999)، وهو بيست سيلر، يروي معاناة العائلة. رؤوف كتب أيضًا عن تجربته في السجن. توفيت فاطمة في 2013 بأزمة قلبية، عن 78 عامًا، بعد حياة مليئة بالألم. ظلت موالية للنظام رغم معاناتها، وهو تناقض يعكس تعقيد شخصيتها.وفي النهايةمحمد أوفقير يظل لغزًا في التاريخ المغربي. بالنسبة لضحاياه، هو "الجلاد"، رمز القمع والوحشية. لكن بالنسبة لعائلته وبعض الموالين، كان بطلًا وطنيًا واجه تحديات عصره. قصته تعكس الصراع بين السلطة والولاء، الحب والخيانة. كان عاشقًا مخلصًا، لكنه دفع ثمن طموحه بسقوط مأساوي، وعانت عائلته عقودًا بسبب أفعاله.