بيدرو سانشيز يعلن 9 قوانين ضد إسرائيل ويصف ما يحدث في غزة بالإبادة الجماعية

تسع إجراءات تاريخية لإسبانيا تعيد رسم سياستها تجاه إسرائيل وفلسطين

مقدمة

حين خرج رئيس الحكومة الإسبانية بيدرو سانشيز يوم الثامن من سبتمبر من العام خمسة وعشرين وألفين ليتحدث إلى شعبه والعالم، بدا واضحًا أن الخطاب ليس مجرد تصريح عابر أو موقف بروتوكولي عادي من أزمة دولية تتكرر تفاصيلها في نشرات الأخبار، بل كان إعلانًا عن منعطف جديد في السياسة الخارجية الإسبانية، بل ويمكن القول إنه إعلان عن تحدٍّ مباشر لميزان القوى التقليدي الذي ظل يفرض على أوروبا منذ عقود نوعًا من الصمت الموارب إزاء الممارسات الإسرائيلية في غزة والضفة الغربية. الرجل تحدث بلغة غير معهودة، استعمل كلمة "إبادة جماعية" لوصف ما يجري، واعتبر أن ما تقوم به إسرائيل لا يدخل في باب الدفاع عن النفس كما تحاول أن تُقنع العالم، بل يدخل في باب الإبادة الممنهجة لشعب أعزل، ورافق تصريحاته هذه بحزمة من الإجراءات العملية التي وصفها بأنها تسع خطوات فورية ستُنفذ ابتداء من اللحظة، في محاولة لإعطاء مضمون ملموس لكلامه حتى لا يُحسب على خانة المزايدات الخطابية. وهذه الإجراءات التسعة لم تكن كلها رمزية أو إعلامية، بل تضمنت قرارات لها انعكاسات قانونية واقتصادية ودبلوماسية قد تغيّر شكل العلاقة بين مدريد وتل أبيب وتؤثر أيضًا على الموقف الأوروبي برمته.

عرض

الإجراء الأول كان الأبرز من حيث قوته القانونية والسياسية، إذ أعلن سانشيز عن مرسوم عاجل يقضي بحظر بيع وشراء الأسلحة لإسرائيل، ليس فقط على المستوى الحكومي بل أيضًا في ما يتعلق بالشركات الخاصة التي تنشط في سوق التسليح. وبذلك تكون إسبانيا قد تحولت من مجرد مجمّد مؤقت لبعض الصفقات إلى دولة تضع قانونًا صارمًا يحرم أي تعامل عسكري مع إسرائيل. ومن يعرف طبيعة اقتصاد التسليح الأوروبي يدرك أن هذه الخطوة قد تُحدث جدلًا واسعًا داخل الاتحاد الأوروبي، خاصة أن دولًا كفرنسا وألمانيا لم تتجرأ على هذا النوع من القرارات حتى في لحظات القصف الأكثر دموية على غزة. ثم جاء القرار الثاني الذي لا يقل حساسية، والمتعلق بحظر مرور السفن التي تحمل وقودًا عسكريًا موجهًا لإسرائيل عبر الموانئ الإسبانية، وهو ما يعني إغلاق طريق بحري مهم كان يُستعمل عادة لنقل إمدادات مختلفة نحو شرق المتوسط. هذا الحظر قد يعرقل عمليات لوجستية اعتادت عليها إسرائيل ويجعلها تبحث عن بدائل أكثر كلفة وأكثر بطئًا.

أما الخطوة الثالثة فكانت حظر مرور الطائرات العسكرية في الأجواء الإسبانية إذا كانت وجهتها مرتبطة بتسليم معدات دفاعية لإسرائيل. وهذا القرار لا يقتصر على الجانب الرمزي، إذ إن المجال الجوي الإسباني يشكل جزءًا من مسارات حيوية في حركة النقل الجوي الدولي، وبالتالي فإن منعه يُعد رسالة واضحة بأن مدريد لم تعد ترى في السماح بتسهيلات عسكرية لإسرائيل خيارًا مقبولًا. ثم أعلن سانشيز عن الإجراء الرابع الذي يهم منع دخول كل شخص يثبت تورطه في جرائم الحرب أو الانتهاكات الجسيمة في غزة إلى التراب الإسباني، وهو قرار يجعل من الأراضي الإسبانية منطقة غير آمنة دبلوماسيًا أو سياحيًا لأي شخصية عسكرية أو سياسية إسرائيلية قد تكون مرتبطة بالعمليات الأخيرة. هنا يصبح القرار أشبه بعقوبة شخصية توازي ما تقوم به بعض المحاكم الجنائية الدولية، مما يعزز من صورة إسبانيا كبلد لا يكتفي بالتنديد بل يُحمل الأفراد مسؤولية أفعالهم.

الإجراء الخامس تعلق بالشق الاقتصادي المباشر، إذ حظر سانشيز استيراد منتجات المستوطنات غير القانونية المقامة في الضفة الغربية أو الأراضي الفلسطينية المحتلة، ليُوجه بذلك ضربة لقطاع اقتصادي صغير لكنه حساس للغاية بالنسبة لإسرائيل التي تحاول دائمًا تسويق منتجات مستوطناتها باعتبارها شرعية. وهذا القرار ينسجم مع قرارات سابقة من الاتحاد الأوروبي بضرورة وضع ملصقات مميزة لمنتجات المستوطنات، لكنه يتجاوزها بخطوة أكبر هي المنع الكلي من دخول الأسواق الإسبانية. ومع هذا القرار جاءت خطوة سادسة تخص المواطنين الإسبان المقيمين في المستوطنات الإسرائيلية، حيث أعلن سانشيز عن تقليص الخدمات القنصلية المقدمة لهم إلى الحد الأدنى الذي تفرضه القوانين الدولية، في رسالة واضحة أن الدولة الإسبانية لا تشجع ولا تدعم من يختار العيش في مناطق تعتبرها غير قانونية.

لكن سانشيز لم يكتف بقرارات المنع والعقوبات، بل أراد أن يظهر أيضًا الوجه الإيجابي والداعم للشعب الفلسطيني، فكانت الخطوة السابعة هي تعزيز الدعم للسلطة الفلسطينية عبر زيادة عدد الموظفين الإسبان في البعثات الأوروبية عند معبر رفح، بالإضافة إلى تمويل مشاريع جديدة في الزراعة والأمن الغذائي والصحة. وأتبع ذلك بالخطوة الثامنة التي تتمثل في تخصيص عشرة ملايين يورو إضافية لوكالة الأمم المتحدة لغوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (الأونروا)، وهي الوكالة التي تواجه ضغوطًا مالية كبيرة بعد تعليق مساهمات بعض الدول. وأخيرًا جاءت الخطوة التاسعة التي قد تُعتبر الأكثر إنسانية من حيث الأثر، وهي رفع ميزانية المساعدات الإنسانية إلى غزة إلى مئة وخمسين مليون يورو خلال سنة ستة وعشرين وألفين، مما يعكس التزامًا طويل الأمد وليس مجرد مساعدة ظرفية مرتبطة بالأزمة الراهنة.

هذه الإجراءات مجتمعة أعطت انطباعًا بأن إسبانيا قررت الانتقال من موقع التابع لسياسات الاتحاد الأوروبي التي غالبًا ما تكتفي ببيانات القلق والتنديد، إلى موقع المبادرة وصنع الموقف. وقد أثارت تصريحات سانشيز ردود فعل قوية، فإسرائيل سارعت إلى وصفها بالعدائية والمعادية للسامية، بل ذهبت إلى حد إعلان حظر دخول بعض الوزراء الإسبان إلى أراضيها، فيما اعتبر زعيم المعارضة الإسبانية فيخويّو أن هذه القرارات ما هي إلا محاولة من سانشيز لكسب دعم شركائه السياسيين اليساريين دون أن يذكر شيئًا عن جرائم حماس. وبين المواقف المؤيدة والرافضة، بدا واضحًا أن ما فعله سانشيز سيكون له أثر في النقاش الأوروبي حول حدود الصمت إزاء ما يجري في غزة، وربما يشجع دولًا أخرى على اتخاذ إجراءات مشابهة، أو على الأقل سيفرض عليها مناقشة الموضوع بجدية أكبر.

المفارقة أن سانشيز حرص في خطابه على أن يميز بين وجود إسرائيل وحقها في الأمن، وبين ما سماه الاستعمال المفرط للقوة الذي يستهدف الأطفال والمستشفيات ويمنع الغذاء عن المدنيين. قال بوضوح إن إسبانيا لا تعادي وجود إسرائيل، بل تحترم تاريخها ومعاناتها السابقة، لكنها لن تقبل أن يُستعمل هذا التاريخ ذريعة لإبادة شعب آخر. وهنا تبرز جرأة الرجل في استعمال مفردة "الإبادة"، وهي كلمة لطالما تجنبتها الحكومات الأوروبية حتى لا تُتَّهم بالتحيز أو العداء للسامية. لكنه اختار أن يصف الأشياء بأسمائها، مؤكدًا أن ما يجري لا يمكن أن يكون دفاعًا عن النفس، بل هو تدمير ممنهج لشعب أعزل.

من زاوية أخرى، يمكن النظر إلى هذه الإجراءات كتجسيد لتحولات أوسع في الرأي العام الإسباني والأوروبي. فقد أظهرت استطلاعات عديدة في الشهور الأخيرة أن قطاعات واسعة من الشعوب الأوروبية لم تعد تقتنع بالرواية الإسرائيلية التقليدية، وأن مشاهد القصف والجوع في غزة خلقت وعيًا جديدًا يضغط على الحكومات. ربما يكون سانشيز قد التقط هذا التحول وقرر أن يضع بلاده في طليعة الدول التي تتبنى موقفًا أخلاقيًا أكثر وضوحًا. ولا شك أن هذا سيوفر له دعمًا شعبيًا داخليًا، خاصة لدى القاعدة اليسارية التي تمثل جزءًا مهمًا من تحالفه الحاكم. لكن في الوقت نفسه، لا يمكن إغفال المخاطر التي ترافق هذا القرار، سواء على مستوى العلاقات التجارية أو على مستوى التوترات الدبلوماسية داخل الاتحاد الأوروبي نفسه، حيث قد تجد مدريد نفسها معزولة إذا لم تحذُ دول أخرى حذوها.

 ملاحظة

تسع إجراءات أو “قوانين/قرارات فورية” التي أعلن عنها  بيدرو سانشيز في خطابه بالتفصيل، كما وردت في الصحافة الإسبانية:

1.مرسوم عاجل لحظر بيع وشراء الأسلحة مع إسرائيل: جعل الحظر على تصدير واستيراد السلاح دائمًا وقانونيًا، بدل أن يكون مجرد تعليق إداري مؤقت.

2.منع مرور السفن المحملة بوقود عسكري لإسرائيل عبر الموانئ الإسبانية.

3.منع الطائرات العسكرية التي تحمل معدات دفاعية لإسرائيل من استخدام الأجواء الإسبانية.

4.منع دخول المتورطين في جرائم حرب أو إبادة أو انتهاكات في غزة إلى إسبانيا.

5.حظر استيراد منتجات المستوطنات الإسرائيلية غير القانونية في الأراضي الفلسطينية المحتلة.

6.تقليص الخدمات القنصلية للمواطنين الإسبان المقيمين في المستوطنات إلى الحد الأدنى القانوني.

7.تعزيز الدعم للسلطة الفلسطينية بزيادة موظفين في معبر رفح وتمويل مشاريع زراعية وصحية وغذائية.

8.زيادة الدعم لوكالة الأمم المتحدة لغوث اللاجئين الفلسطينيين (الأونروا) بعشرة ملايين يورو إضافية.

9.رفع ميزانية المساعدات الإنسانية لغزة إلى 150 مليون يورو ابتداءً من 2026.

خاتمة

في النهاية، يمكن القول إن تصريحات بيدرو سانشيز لم تكن مجرد موقف ظرفي مرتبط بحسابات سياسية داخلية، بل كانت خطوة تحمل طموحًا لإعادة رسم صورة إسبانيا كفاعل دولي قادر على قول كلمة مغايرة في وجه القوى التقليدية. هذه الكلمة ربما لا تغير الواقع العسكري في غزة بين ليلة وضحاها، لكنها قد تُسهم في تراكم الضغوط الدولية على إسرائيل وتفتح نقاشًا أوسع داخل أوروبا حول معنى العدالة والإنسانية في العلاقات الدولية. وبينما يستمر الجدل حول فعالية هذه الإجراءات وإمكانية صمودها أمام الضغوط، يبقى المؤكد أن تاريخ الثامن من سبتمبر سيُسجَّل كلحظة فارقة في السياسة الإسبانية الحديثة، حين قررت حكومة أن تُسمّي الأشياء بأسمائها، وأن تنتقل من خانة الصمت إلى خانة الفعل.

تعليقات