عبد الوافي لفتيت تحت المجهر: وثائق تسريبات تكشف أسرار المخابرات
تفاصيل تسريبات "جبروت" عن عبد الوافي لفتيت: شبكة تجسس داخلية وفضائح قديمة تُعاد إحياؤها
المقدمة
منذ صيف 2025، يعيش المشهد السياسي المغربي على وقع واحدة من أعنف الهزات الرقمية في تاريخه، بعدما أطلق الهاكر الجزائري المعروف بلقب "جبروت" سلسلة من التسريبات التي استهدفت كبار المسؤولين والأجهزة الأمنية والمالية. هذه الحملة، التي لم تقتصر على مجرد اختراق عابر بل تحولت إلى عملية ممنهجة تستهدف الثقة في مؤسسات الدولة، وضعت وزير الداخلية عبد الوافي لفتيت في قلب العاصفة. فرغم أن بعض الوزراء الآخرين مثل عبد اللطيف وهبي وفاطمة الزهراء المنصوري كانوا عرضة لفضائح مباشرة أكثر صخباً، إلا أن الملفات المسربة المرتبطة بلفتيت اكتسبت خطورة استثنائية، لأنها لامست البنية الأمنية للنظام وربطت اسم الرجل بالتجسس على شخصيات حساسة وبتحويل موارد الدولة لصالح شبكة مصالح ضيقة. ولم يكن الأمر مجرد كشف عن وثائق أو إشاعات عابرة، بل تسريب متكامل بُني على مئات الصفحات من المستندات التي نُسبت إلى المديرية العامة لمراقبة التراب الوطني والدرك الملكي، ما جعل القضية تتجاوز كونها "دعاية جزائرية" لتصبح موضوع نقاش داخلي واسع، بل وأزمة ثقة تهدد استقرار مؤسسة الأمن نفسها.لكن مع تسريبات "جبروت"، أعيد إحياء هذه الفضيحة القديمة وتم توظيفها كمدخل لرواية أكبر وأكثر خطورة، حيث لم يعد الأمر يتعلق بمنح أرضٍ أو امتياز عقاري، بل بشبكة تجسس داخلية واسعة النطاق. في 13 أغسطس 2025، نشر "جبروت" وثائق اعتبرها مسروقة من أرشيف المديرية العامة لمراقبة التراب الوطني، من بينها الوثيقة المرجعية التي حملت الرقم L159265. هذه الوثيقة، المؤلفة من 47 صفحة وفق ما تم تداوله، لم تكن مجرد تقرير إداري، بل ملفاً مفصلاً حول عملية مراقبة سرية بدأت في يناير 2023، شملت مئات الشخصيات، منهم قادة الجيش والوزراء، وصولاً إلى أفراد من العائلة الملكية. أخطر ما في الأمر أن الوثيقة نسبت لعبد الوافي لفتيت صفة "المسؤول المباشر" عن هذه العملية، بل وتضمنت توقيعاً يُزعم أنه صادر من مكتبه بالرباط في مارس 2023.
الوثيقة قُسمت إلى ثلاثة محاور: الأول تقني بحت يشرح أدوات المراقبة وعلى رأسها برنامج "بيغاسوس" الإسرائيلي الذي حصل عليه المغرب بصفقة غير معلنة سنة 2021 بلغت قيمتها أكثر من 200 مليون دولار. التقرير أوضح أن البرنامج عُدّل محلياً ليشمل أبواباً خلفية للتحكم عن بعد، في تعاون مع شركاء أجانب أبرزهم NSO Group الإسرائيلية. أما المحور الثاني فكان الأكثر إثارة للجدل، إذ سرد لائحة الأهداف الداخلية التي ضمت أكثر من 150 شخصية: الجنرال عبد اللطيف حموشي، الجنرال محمد حرمو، وزراء مثل نادية فتاح العلوي وعبد اللطيف وهبي، إضافة إلى الملك محمد السادس نفسه وأفراد من أسرته. وقد علّق "جبروت" على ذلك بالقول إن لفتيت "لا يتجسس فقط على خصومه، بل حتى على سيده لبناء إمبراطوريته في حرب الخلافة". هذه النقطة بالذات جعلت التسريب يبدو أقرب إلى اتهام بالخيانة العظمى، لأن مراقبة الملك تُعتبر خطاً أحمر داخل النظام المغربي. المحور الثالث من الوثيقة قدم توصيات بزيادة الميزانية المخصصة للبرمجيات التجسسية، بنحو 50 مليون يورو إضافية، والتوسع في صفقات مع شركات صينية لتطوير أنظمة مراقبة حدودية. وخُتم التقرير بتوقيع إلكتروني نُسب للوزير، ما جعل "جبروت" يصف الوثيقة بأنها "مفتاح القصر الذي يبيع فيه لفتيت أسرار الدولة ليحمي كرسيه".
هذه الوثيقة سرعان ما تحولت إلى محور النقاش العام. وزارة الداخلية سارعت في 14 أغسطس إلى إصدار بيان رسمي نفت فيه "الادعاءات الكاذبة" ووصفتها بأنها حملة دعائية جزائرية تستهدف زعزعة الاستقرار الداخلي. البيان اعتبر أن الوثائق مفبركة بالكامل، وأكد أن الوزير "خادم مخلص للدولة" لا يمكن أن يورط نفسه في مثل هذه الممارسات. الوزارة أعلنت أيضاً عن فتح لجان تحقيق في بعض قضايا الفساد المحلية، مثل التزوير في رخص البناء بعدد من البلديات، في خطوة اعتبرها البعض محاولة لتحويل الرأي العام نحو قضايا أصغر وتشتيت الانتباه عن القضية الأساسية.
لكن الجدل لم ينته عند هذا الحد. على منصات التواصل الاجتماعي، انتشرت هاشتاغات مثل #لفتيت_تجسس و#L159265_الحقيقة، وظهرت دعوات قوية من نشطاء وأحزاب معارضة، خصوصاً فيدرالية اليسار، للمطالبة بتحقيق برلماني مستقل. هؤلاء رأوا أن القضية تكشف انهيار الثقة في الجهاز الأمني، وأن مجرد ورود اسم الملك وأجهزة عليا في لوائح المراقبة يُظهر أن الدولة باتت تأكل نفسها من الداخل. في المقابل، انقسم الشارع المغربي بين من اعتبر ما نشر دعاية خارجية هدفها ضرب استقرار البلاد، ومن رأى فيها تسريباً حقيقياً يفضح حجم الفساد والتجسس داخل مؤسسات الدولة.
أما على المستوى الدولي، فقد حاولت إسرائيل عبر شركة NSO النأي بنفسها عن الاتهامات، مؤكدة أن منتجاتها لا تُستخدم للتجسس على أهداف داخلية. غير أن صحيفة "لوموند" الفرنسية نشرت في 29 أغسطس تقريراً ذكرت فيه أن الوثيقة تتطابق جزئياً مع تسريبات سابقة عن برنامج بيغاسوس، ما زاد من الشكوك حول صحة ما نُشر. هذه التطورات جعلت محللين سياسيين يتحدثون عن صراع داخلي محتدم بين أجنحة السلطة، حيث يُتهم لفتيت بمحاولة تهميش رئيس المخابرات عبد اللطيف حموشي وتعزيز نفوذه ليصبح الوريث السياسي الأقوى في حال حدوث فراغ في الحكم نتيجة تدهور صحة الملك. بالفعل، تزامنت هذه الأزمة مع تعيينات جديدة في الأجهزة الأمنية في شتنبر 2025، كان أبرزها تعزيز الرقابة السيبرانية تحت إشراف الجنرال عبد الله بوطريج، في مؤشر على أن الدولة تستعد لمواجهة موجات أخرى من التسريبات.
إلى جانب ملف التجسس، لم تُغفل التسريبات الإشارة إلى صفقات مالية مشبوهة، من بينها عقود تتجاوز قيمتها 200 مليون يورو لتطوير أنظمة مراقبة حدودية مع شركات أوروبية وصينية. يُزعم أن جزءاً من هذه الأموال حُول إلى حسابات خارجية مرتبطة بأقارب لفتيت في فرنسا وإسبانيا، ما فتح الباب للحديث عن تضارب مصالح واستغلال للمال العام. نشطاء على منصات التواصل اتهموا الوزير بأنه "يبني مملكته على التجسس والفساد"، واستدلوا على ذلك بكشف "جبروت" عن تحويلات مشبوهة تصل إلى 76 مليون درهم. ورغم أن الوثائق المباشرة التي تثبت هذه الأرقام لم تظهر بعد، فإن مجرد تداولها عزز صورة لفتيت كرجل يسعى لتوظيف موقعه لبسط نفوذ واسع داخل الدولة.
وسط هذه العاصفة، أصبح السؤال الذي يطرحه الرأي العام: هل لفتيت مجرد ضحية لحملة تضليل منظمة من الخارج، أم أنه بالفعل أحد رموز الفساد والتجسس داخل النظام؟ الإجابة تبقى معقدة، لأن التسريبات – سواء كانت صحيحة أو مفبركة – كشفت عن أزمة ثقة متجذرة بين الشعب ومؤسساته الأمنية. في الريف، مسقط رأس الوزير، ارتفعت الأصوات الغاضبة أكثر من غيرها، إذ رأى كثيرون أن الرجل خان جذوره الشعبية مقابل بناء مساره داخل السلطة. بينما في أوساط النخب، بدا النقاش أكثر حذراً لكنه لا يقل قلقاً، لأن مجرد تداول فكرة تجسس وزير الداخلية على الملك يفتح الباب أمام تصور انهيار الولاءات التقليدية داخل النظام.
الخاتمة
إن تسريبات "جبروت" عن عبد الوافي لفتيت ليست مجرد إعادة تدوير لفضائح قديمة مثل قضية "خدام الدولة"، بل هي محاولة لإعادة رسم صورة الرجل كفاعل أساسي في شبكة معقدة تجمع بين الفساد المالي والتجسس السياسي. سواء كانت الوثائق أصلية أم مفبركة، فإنها أصابت صورة المؤسسة الأمنية في الصميم، وأطلقت موجة غضب شعبي وشكوك سياسية لا يمكن إنكارها. ردود الفعل الرسمية السريعة لم تُطفئ الجدل، بل زادته حدة، لأن النفي المطلق لم يواكبه تحقيق مستقل أو شفاف يقنع الرأي العام. في ظل التوترات الاجتماعية في الريف والجنوب، والأوضاع الإقليمية المتوترة مع الجزائر، تبدو هذه التسريبات كجرس إنذار على نظام يعاني من تصدعات داخلية قد تنفجر في أي لحظة. يبقى السؤال الكبير مفتوحاً: هل ستؤدي هذه الأزمة إلى استقالة لفتيت أو إقصائه، أم أن الرجل سيخرج منها أقوى باعتباره واجهة الدولة في مواجهة "الحرب الإلكترونية الجزائرية"؟ في كلتا الحالتين، أثبتت حملة "جبروت" أن الأسرار الأمنية لم تعد محصنة في زمن الرقميات، وأن شخصية مثل عبد الوافي لفتيت، التي طالما بدت قوية ومتماسكة، قد تجد نفسها في مواجهة أكبر اختبار سياسي وأمني في مسيرتها. والنتيجة، مهما كانت، ستحدد شكل المرحلة المقبلة في المغرب، بين استمرار دولة الأمن الحديدي أو بداية تآكلها من الداخل.