المغرب بلد فيه يدفع الفقراء ثمن الفواتير ويعيش المسؤولون بالمجان

 المغرب بين امتيازات المسؤولين ومعاناة الفقراء: تناقض صارخ يهدد العدالة الاجتماعية

مقدمة

في المغرب، حيث تتقاطع الطرق بين غنى الفكرة وفقر الواقع، تترسخ في تفاصيل الحياة اليومية مفارقات يصعب على العقل السليم أن يستوعبها دون أن يصاب بالدهشة أو الغضب، فهناك من يسكنون القصور ويمشون في موكب طويل محاط بالهتاف والتصفيق، وهم لا يؤدون شيئًا من الواجبات المفروضة على الناس العاديين، فلا يعرفون معنى فاتورة الماء أو الكهرباء، ولا يفكرون يومًا في كيفية تدبير مصروف النقل أو دفع ضريبة جماعية أو ضريبة على الدخل، وكأنهم فوق القانون أو خارج معادلاته، في حين أن الغالبية البسيطة من الشعب تعيش تحت رحمة الأرقام المثبتة في أوراق الفواتير والإنذارات والضرائب التي تتراكم كأنها قدر محتوم لا مفر منه، وإذا حدث أن تخلف أحد هؤلاء البسطاء عن تسديد ما عليه من دراهم قليلة، فإن يد السلطة لا تتأخر في مد سلكها وقطع العداد أو تهديده بالمحضر والمتابعة. هذه الصورة التي تبدو يومية وبسيطة في ظاهرها تخفي وراءها حقيقة التناقض المر الذي ينخر المجتمع، إذ كيف يعقل أن المسؤول الذي يتقاضى أجرة سمينة من المال العام، ويستفيد من الامتيازات المتعددة، يعفى عمليًا من أداء ما يؤديه الفقير من قوت يومه، في حين أن هذا الفقير المرهق بأعباء الحياة يظل مطاردًا من طرف الإدارة والمؤسسات إن تأخر أو عجز.

عرض

إن العدالة الاجتماعية لا تعني فقط سن القوانين أو رفع الشعارات في المناسبات، بل تعني قبل كل شيء أن يعيش الجميع تحت سقف واحد من الالتزامات والحقوق، وأن يؤدي كل طرف نصيبه كما يليق بمقامه وإمكانياته، لكن في المغرب تنقلب المعادلة في أكثر من موضع، حيث نجد أن من يجب أن يكون قدوة في الانضباط والوفاء بواجباته هو أول من يستفيد من الاستثناءات، بل هو الذي يشرعها لنفسه في صمت، فيغدو ما هو استثناء قاعدة وما هو قاعدة مجرد خطاب يلقى على العامة. خذ مثلًا مسألة الماء والكهرباء، فالمسؤول الذي يسكن في فيلا واسعة أو يقيم في سكن وظيفي لا يمد يده إلى جيبه ليؤدي ما يستهلكه، لأن الفاتورة مؤدى عنها من ميزانية الدولة أو من امتياز إداري، بينما المواطن البسيط في قرية أو حي شعبي قد يقتطع من قوت أولاده ليؤدي ثمن استهلاك بضعة أمتار مكعبة من الماء أو بضع كيلوواط من الكهرباء، وإذا ضاق به الحال وتأخر عن الأداء فإن الشركة تأتي بعمالها لتقطع الخدمة عنه دون أن يرف لها جفن، وكأنها تقول له إن القانون لايشهر سيفه إلا في وجه الضعفاء.

وهذا التناقض يتجلى أيضًا في النقل، فالمسؤول لا يدفع ثمن تذكرة أو بنزين من جيبه، بل تسخر له سيارات الدولة وسائقون على مدار الساعة، ينقلونه من البيت إلى المكتب وإلى الاجتماعات وحتى إلى المناسبات الخاصة، بينما المواطن العادي يستيقظ قبل طلوع الشمس ليقف في طابور طويل أمام حافلة متهالكة أو ليحشر نفسه في سيارة أجرة مكتظة، وعليه أن يدفع ما في جيبه وإلا بقي على الرصيف، ومن الغريب أن هذا المواطن هو نفسه من يساهم في ميزانية الدولة عبر الضرائب المباشرة وغير المباشرة، وهو من يؤدي ما يجعل تلك السيارات تتحرك وما يجعل المسؤول ينعم بخدمات مجانية. فهل هناك ظلم أوضح من أن يدفع الفقير كي يعيش الغني في رفاه؟

الأمر نفسه ينطبق على الضرائب، حيث تفرض على البسطاء بشكل لا يقبل النقاش، في حين أن كثيرًا من المسؤولين يستفيدون من الإعفاءات أو يجدون طرقًا للتحايل، بل هناك من لا يعرف أصلًا معنى الضريبة لأنه يتلقى كل شيء جاهزًا، فمرتبه الضخم معفى من كثير من الاقتطاعات، وتعويضاته غير خاضعة لأي اقتطاع حقيقي، في حين أن الموظف البسيط يقتطع من راتبه الضئيل كل شهر دون أن يستطيع الاعتراض، والعامل اليومي يدفع الضريبة بطريقة غير مباشرة عبر أسعار المواد الغذائية المرتفعة أو رسوم الاستهلاك. هنا يظهر التناقض بأبشع صوره، إذ كيف يعقل أن يدفع المعدم الفقير ما يعفي منه الثري النافذ؟

إن هذه التناقضات ليست مجرد تفاصيل تقنية، بل هي جزء من البنية العميقة للواقع المغربي، فهي تولد شعورًا دائمًا بالظلم لدى الناس، وتجعلهم يتساءلون عن معنى المواطنة إذا كانت لا تعني المساواة أمام القانون والالتزام بنفس الواجبات، فما قيمة أن نردد في المدارس والبرامج الإعلامية أن الجميع سواسية أمام القانون بينما الواقع اليومي يثبت العكس؟ وما معنى أن يقال إن الضرائب واجب وطني إذا كان هذا الواجب يقع فقط على كاهل الفقراء؟ هذه الأسئلة تتراكم في الأذهان وتتحول ببطء إلى جرح غائر في علاقة المواطن بالدولة، فيفقد الثقة ويشعر أن الوطن لا يحميه بل يستنزفه، وأنه مجرد وسيلة لتغذية امتيازات فئة محدودة.

إذا تعمقنا أكثر في التفاصيل الصغيرة التي تبدو عابرة لكنها في الواقع تكشف حجم الهوة، سنجد أن الفقراء محاصرون حتى في طريقة استهلاكهم للماء والكهرباء، إذ تحدد لهم الشركات تسعيرات مجحفة على شكل أشطر، فإذا تجاوز المواطن البسيط الاستهلاك المحدد له ببضع أمتار مكعبة من الماء أو بضع كيلوواط من الكهرباء قفز الثمن بشكل مضاعف، وكأنها عقوبة على حاجته البسيطة، بينما هو في الحقيقة لا يستهلك إلا القليل لأنه مضطر إلى الاقتصاد في كل شيء، فهو يطفئ الأضواء باكرًا وينام مع أسرته في الظلام، ويغلق التلفاز ويوقف المروحة، ولا يترك مشغلاً إلا الثلاجة التي قد تكون فارغة أو تحمل ما تيسر من طعام متواضع يحتاج إلى التبريد، ومع ذلك يجد نفسه مطالبًا بمبالغ تثقل جيبه. أما المسؤولون، فإن بيوتهم لا تعرف الاقتصاد ولا حاجة لهم به أصلًا، فالمصابيح مضاءة طوال اليوم والليل وكأن النهار لا يكفي لإضاءة قصورهم، والمكيفات تعمل صيفًا وشتاءً بلا توقف، والمسابح الخاصة تمتلئ بأطنان من الماء الذي يُجدد كل يومين أو ثلاثة بالمجان دون أن يفكر أحد في كلفته أو في عطش القرى التي ما تزال تنتظر صهريجًا يأتيها بقطرات معدودة. هنا يصبح الماء في عيون الفقراء حياة تُقاس باللترات، بينما عند المسؤولين مجرد لعبة ترف تُهدر بالأطنان.

وهذا التناقض لا يتوقف عند الماء والكهرباء فقط، بل يمتد إلى أبسط تفاصيل المعيشة، فالمسؤول لا يحتاج أن يتنقل إلى السوق الشعبي ليشتري الخضر والفواكه كما يفعل المواطن العادي الذي يساوم البائع على ثمن الطماطم أو البطاطس، لأن الخضر تأتيه إلى باب منزله بالمجان، محمولة من السوق المركزي أو من ضيعات الدولة على حساب المال العام، بينما زوجته أو بناته قد يخرجن إلى الأسواق الممتازة بسيارات الدولة وسائقيها ليقتنين ما يرغبن فيه بوقود الدولة أيضًا، فيتحول ما هو حق عام إلى امتياز خاص، وما هو ملك للجميع إلى ملكية عائلية. في المقابل، يقف المواطن البسيط تحت شمس الصيف أو برد الشتاء منتظرًا وسيلة نقل مهترئة توصله إلى السوق، ليعود محملًا بكيس صغير قد لا يكفي أسبوعًا، بعد أن صرف جزءًا كبيرًا من دخله على النقل والشراء معًا.

إنها مفارقة لا تقتصر على الفواتير أو السوق أو السيارات، بل تمتد إلى نمط حياة كامل، حياة الفقراء المحكومة بالخوف من كل زيادة في السعر أو كل فاتورة قد تتضاعف فجأة، وحياة المسؤولين التي لا تعرف معنى الخوف من المصاريف لأن كل شيء مؤدى عنه من خزينة الدولة. وهنا تتأكد حقيقة أن الفقراء يدفعون ثمن الترشيد والتقشف من قوتهم، بينما ينعم الأغنياء والمسؤولون بالإسراف دون حساب، بل وبمباركة المؤسسات التي لا ترى في ذلك تناقضًا يستحق التصحيح.

هذه الصورة تفتح الباب على أسئلة أعمق تتعلق بالعدالة الاجتماعية والمفهوم الحقيقي للدولة، فالدولة التي تترك الفقراء وحدهم في مواجهة أعباء الحياة بينما توفر للمسؤولين كل شيء مجانًا، هي دولة تخلق هوة خطيرة بين الحاكم والمحكوم، وتزرع بذور التمرد الصامت الذي قد يتفجر في أي لحظة، لأن الناس حين يفقدون الشعور بالإنصاف يفقدون بالتبعية الشعور بالانتماء، ومن لا يشعر أن له مكانًا عادلًا في وطنه يصبح مستعدًا للبحث عن العدالة في أماكن أخرى ولو عبر الهجرة أو الانغلاق أو حتى الغضب العنيف. والواقع أن المغرب في حاجة اليوم إلى إعادة التفكير في هذه المعادلة المختلة، فالإصلاح لا يبدأ بالخطابات ولا بالشعارات، بل يبدأ حين يشعر المواطن أن ما يفرض عليه يفرض على غيره، وأن ما يتمتع به المسؤول ليس منحة مجانية بل هو مقابل واجبات يؤديها مثل الجميع.

خاتمة

الخلاصة أن التناقض الذي نراه بين من يعيشون بالمجان من القائد إلى رئيس الحكومة، وبين الفقراء الذين يدفعون كل شيء حتى لقمة عيشهم، ليس مجرد صدفة أو تفصيل هامشي، بل هو علامة على اختلال عميق في النظام القائم، اختلال يهدد الثقة ويزرع الإحباط ويعمق الفوارق، ولعل أول خطوة نحو تجاوز هذا الوضع هي أن تتحمل الدولة شجاعة الاعتراف به والعمل على تصحيحه، عبر إلزام كل مسؤول بدفع ما عليه مثل أي مواطن، ورفع يد الامتيازات عن الماء والكهرباء والنقل والضرائب، لأن المال العام يجب أن يكون لخدمة الصالح العام لا لخدمة فئة محدودة، ولأن المساواة لا تتحقق إلا إذا كان القانون فوق الجميع لا أداة بيد البعض. وحدها هذه الخطوة تعيد للمغاربة شعورهم بأنهم يعيشون في وطن واحد، لا في وطنين متناقضين: وطن الفقراء الذين يدفعون، ووطن الأغنياء الذين ينعمون بالمجان.

تعليقات